خطبة عن التحذير من الوقوع في المعاصي والآثام (وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ)
أبريل 29, 2023خطبة عن (احذروا الأَئِمَّةَ الْمُضِلِّينَ)
أبريل 30, 2023الخطبة الأولى : أحوال أهل القبور ، وحديث (إِنَّ الْقَبْرَ أَوَّلُ مَنَازِلِ الْآخِرَةِ)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
عن هانئ مولى عثمان بن عفان قال: كان عثمان بن عفان إذا وقف على قبر بكى حتى يبل لحيته فيقال له: قد تَذكر الجنَّةَ والنَّار فلا تبكي وتبكي مِن هذا؟ فيقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ الْقَبْرَ أَوَّلُ مَنَازِلِ الْآخِرَةِ، فَإِنْ نَجَا مِنْهُ فَمَا بَعْدَهُ أَيْسَرُ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَنْجُ مِنْهُ فَمَا بَعْدَهُ أَشَدُّ مِنْهُ»، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا رَأَيْتُ مَنْظَرًا قَطُّ إِلَّا وَالْقَبْرُ أَفْظَعُ مِنْهُ» رواه الترمذي ،وابن ماجه، وحسَّنه الألباني في صحيح الجامع
إخوة الإسلام
الله سبحانه وتعالى هو الذي تفرد بالبقاء والدوام، وكتب الموت على جميع الأنام، فهو الحي الذي لا يموت ولا يزول، وهو الأحد الذي لا يتغير ولا يحول، فسبحانه هو الله الواحد القهار، العزيز الجبار، كتب الموت على العبيد، يقول سبحانه: { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [القصص:88]. ،فمن كان الموت طالبه ، فكيف يلذ له قرار، ومن كان القبر منزله ، فكيف يتخذ الدنيا أفضل دار، لقد ألهتنا الأموال والدور، وشغلتنا الأولاد والقصور، عن التفكير في المصير إلى القبور، فإلى الله نشكو قسوة القلوب، مع كثرة القوارع والخطوب ، ولقاؤنا اليوم – إن شاء الله- مع هذا الحديث النبوي الكريم ، والذي يذكرنا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بروعة القبور ،ومما جاء في شرح هذا الحديث : قال المباركفوري رحمه الله :(إِنَّ الْقَبْرَ أَوَّلُ مَنَازِلِ الْآخِرَةِ) أي : فهو أقرب شيء إلى الإنسان ، وأيضاً شدته أمارة للشدائد كلها ،ومنازل الآخرة ومواقفها متعددة ،ومنها : عرصة القيامة عند العرض ،الوقوف عند الميزان ،والمرور على الصراط ، ثم الجنة أو النار ،(فَإِنْ نَجَا مِنْهُ فَمَا بَعْدَهُ أَيْسَرُ مِنْهُ) أي :من نجا من عذاب القبر ،فما بعده من المنازل أسهل وأهون ؛لأنه يُفسح للناجي من عذاب القبر في قبره مدّ بصره ،وينوَّر له ،ويُفرش له من بسط الجنة ،ويُلبس من حللها ،ويُفتح له باب إلى الجنة فيأتيه من روحها وطيبها ،وكل هذه الأمور مقدمة لتيسير بقية منازل الآخرة ،(وَإِنْ لَمْ يَنْجُ مِنْهُ فَمَا بَعْدَهُ أَشَدُّ مِنْهُ) أي : من لم يخلص من عذاب القبر ،ولم تكفر ذنوبه ،وبقي عليه شيء مما يستحق العذاب به ،فما بعده أشد منه ؛لأن النار أشد العذاب ،فما يحصل للميت في القبر هو عنوان لما سيصير إليه.
ومما جاء في أحوال الناس في القبر : ففي القبر تحدث ستة أشياء ، ثلاثة منها هي لكل الناس ،(المؤمن والعاصي والكافر) وهي 🙁 فتنة القبر ، وضمة القبر ، والامتحان ممثلا في سؤال الملكين) ، والرابعة: وهي خاصة بالعصاة من الموحدين : فهم يعاقبون بأنواع من العذاب تطهيرا لذنوبهم ، والخامسة : عقوبة الكافرين ببعض أنواع العذاب، والسادسة : بشرى للمؤمنين المتقين ببعض أنواع النعيم في قبورهم ) ،
أما عن الحالة الأولى والثانية وهي لجميع الناس : فهي فتنة القبر ،وسؤال الملكين ، وقد جاء ذكرهما في صحيح البخاري : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَىَّ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي الْقُبُورِ مِثْلَ – أَوْ قَرِيبًا مِنْ – فِتْنَةِ الدَّجَّالِ – لاَ أَدْرِى أَيَّتَهُمَا قَالَتْ أَسْمَاءُ) فهذه هي فتنة القبر، فيتعرض الميت في قبره لاختبار عظيم ، هو مشابه لاختبار وفتنة المسيح الدجال ، ولا ينجو من هذا الاختبار إلا من كان صادقا في إيمانه ، ومات وهو عامل بالكتاب والسنة ،فيصدق الله تعالى قوله واجاباته وسؤاله بقوله تعالى :(صدق عبدي) ،وأما الشاك والمرتاب فإنه يتلجلج في اجابته ، وفي الفتنة سقط ، ويقول : (هاه هاه لا أدري) ،ويقول الله له:(كذب عبدي)، وقوله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري : (وَلَقَدْ أُوحِىَ إِلَىَّ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي الْقُبُورِ مِثْلَ أَوْ قَرِيبًا مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ ) ، وفي رواية لمسلم : (قَالَ صلى الله عليه وسلم :« إِنِّي قَدْ رَأَيْتُكُمْ تُفْتَنُونَ فِي الْقُبُورِ كَفِتْنَةِ الدَّجَّالِ » ، يتبين لنا حجم هذه الفتنة التي يتعرض لها الميت في قبره ، ولذلك شبهها رسول الله صلى الله عليه وسلم لفتنة المسيح الدجال ، أتعرف فتنة الدجال؟ إنها أعظم فتنة تقع على سطح الارض لذا جاء في مسند الامام أحمد (عَنْ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ الأَنْصَارِيِّ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَا بَيْنَ خَلْقِ آدَمَ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ فِتْنَةٌ أَكْبَرُ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ ): وفتنة الدجال هي باختصار : رجل معه جنةٌ ونار، فجنته نارٌ، وناره جنة، يأمر السماء أن تمطر فتمطر، ويأمر الأرض أن تخرج كنوزها فتتبعه كيعاسيب النحل، ويأتي على الرجل فيقطعه إرباً إرباً، ثم يقول له: قم؛ فيتهلل ضاحكاً ، لذلك فهو يقول للناس أنا أحيي وأميت ، وأعطي وأمنع ، وأسعد وأشقي ، فأنا الله ، فآمنوا بي واعبدوني، فيأمرهم أن يؤمنوا به ، وإلا منع عنهم الأرزاق ، وألقاهم في ناره ، وناره جنة ، وجنته نار ، فلقلة إيمان الكثير من الناس ، وضعف عقيدتهم بالله ، وعدم معرفتهم بالله الذي ليس كمثله شيء، مع شدة الخوف منه ، وخوفهم من الفقر وشدة المؤنة ، ولما يرون ما يقع منه من خوارق العادات التي أمده الله تعالى بها فتنة للناس ، تكون النتيجة أنهم يؤمنون به إلها ، ويعبدونه من دون الله تعالى ، فتصيبهم الفتنة ، ويموتون على الكفر ، فيحشروا مع أهل النار يوم القيامة ، وقريبا من هذه الفتنة يتعرض الميت في قبره كمثل فتنة الدجال أو قريباً من فتنة الدجال، ولكي نتصور حجم هذه الفتنة ، ففي شرح الصدور للسيوطي عن عطاء بن يسار مرسلا ورجاله ثقات : (قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ لعمرَ بنِ الخطابِ رضيَ اللهُ عنهُ : يا عمرُ كيفَ بك إذا متَّ ، فقاسوا لك ثلاثةَ أذرعٍ وشبرًا في ذراعٍ وشبرٍ ، ثم رجعوا إليك وغسَّلوكَ وكفَّنوك وحنَّطوك ، ثم احتملوك حتى يضعوكَ فيه ، ثم يُهيلوا عليك الترابَ ، فإذا انصرفوا عنك أتاك فتَّانا القبرِ : منكرٌ ونكيرٌ أصواتُهما كالرعدِ القاصفِ ، وأبصارُهما كالبرقِ الخاطفِ ، فتلتلاكَ وثرثراكَ وهولاكَ ، فكيفَ بك عِندَ ذلك يا عمرُ ؟ قال : يا رسولَ اللهِ ، ومعي عَقْلي ؟ قال : نعم قال : إذن أَكْفِيكُهما ) ، فالصحابة خافوا على أنفسهم حين سمعوا هذا الوصف لفتنة القبر، فحينئذٍ أنزل الله عز وجل قوله: { يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ } [إبراهيم:27] (في الآخرة): أي في القبر، إذا انتهره الملكان وشددا عليه لا يغير جوابه، بل يعيد الجواب السديد مرةً أخرى، قال الله تعالى : { يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ } [إبراهيم:27] ، أما من كان مرتابا وشاكا في إيمانه ، ولم يعمل بمقتضى (لا إله إلا الله ، ولم يكن على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلا يثبت ، ولا يستطيع أن يجيب الملكين أبداً؛ لأنه لم يعمل بمقتضاها في الدنيا ، قال الله تعالى : { وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ } [إبراهيم:27].
وعن سؤال الملكين : قال صلى الله عليه وسلم :(يُؤْتَى أَحَدُكُمْ فَيُقَالُ لَهُ مَا عِلْمُكَ بِهَذَا الرَّجُلِ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ – أَوِ الْمُوقِنُ لاَ أَدْرِى أَيَّ ذَلِكَ قَالَتْ أَسْمَاءُ – فَيَقُولُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى ، فَأَجَبْنَا وَآمَنَّا وَاتَّبَعْنَا . فَيُقَالُ لَهُ نَمْ صَالِحًا ، فَقَدْ عَلِمْنَا إِنْ كُنْتَ لَمُوقِنًا . وَأَمَّا الْمُنَافِقُ – أَوِ الْمُرْتَابُ لاَ أَدْرِى أَيَّتَهُمَا قَالَتْ أَسْمَاءُ – فَيَقُولُ لاَ أَدْرِى ، سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُهُ » ،وفي صحيح مسلم : (أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ دَخَلَ عَلَىَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَعِنْدِي امْرَأَةٌ مِنَ الْيَهُودِ وَهْىَ تَقُولُ هَلْ شَعَرْتِ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي الْقُبُورِ قَالَتْ فَارْتَاعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَقَالَ « إِنَّمَا تُفْتَنُ يَهُودُ ». قَالَتْ عَائِشَةُ فَلَبِثْنَا لَيَالِيَ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « هَلْ شَعَرْتِ أَنَّهُ أُوحِىَ إِلَىَّ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي الْقُبُورِ ». قَالَتْ عَائِشَةُ فَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بَعْدُ يَسْتَعِيذُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ).،فالفتنة التي يتعرض لها الميت: أن هذين الملكين يأتيان المقبور في صورة مرعبة ، والحكمة من ذلك : أنها اختبار نهائي للعبد ،ففيها فتنة واختبار لصدق إيمان العبد ،أو نفاقه ،أو كفره ،ففي سنن الترمذي :(عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ :قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِذَا قُبِرَ الْمَيِّتُ – أَوْ قَالَ أَحَدُكُمْ أَتَاهُ مَلَكَانِ أَسْوَدَانِ أَزْرَقَانِ يُقَالُ لأَحَدِهِمَا الْمُنْكَرُ وَالآخَرُ النَّكِيرُ) ، وجاء في الحديث الذي يرويه البراء بن عازب عن الرسول صلى الله عليه وسلم:(فيأتيه ملكان شديدا الانتهار فينتهرانه ،ويجلسانه، فيقولان له: من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟ وهي آخر فتنة تعرض على المؤمن، فذلك حين يقول الله عز وجل:(يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) [إبراهيم: 27]،
أما عن الحالة الثالثة : فهي ضمة القبر فهي أيضا لكل الناس: فعندما يوضع الميت في القبر ،فإنه يضمه ضمة لا ينجو منها أحد كبيراً كان أو صغيراً، صالحاً أو طالحاً، فقد جاء في الأحاديث أن القبر ضم سعد بن معاذ، ففي سنن النسائي :(عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « هَذَا الَّذِى تَحَرَّكَ لَهُ الْعَرْشُ وَفُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَشَهِدَهُ سَبْعُونَ أَلْفًا مِنَ الْمَلاَئِكَةِ لَقَدْ ضُمَّ ضَمَّةً ثُمَّ فُرِّجَ عَنْهُ »، وفي مسند الإمام أحمد :(عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِنَّ لِلْقَبْرِ ضَغْطَةً لَوْ كَانَ أَحَدٌ نَاجِياً مِنْهَا نَجَا سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ » ، ومما يدل على أن ضمة القبر لازمة لكل إنسان أن الصبيان لا ينجون منها، ففي معجم الطبراني الكبير: (عن أبي أيوب الأنصاري بإسناد صحيح عن أنس أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لو أفلت أحد من ضمة القبر لنجا هذا الصبي) ، فهذه هي الحالات الثلاث من حالات القبر ، والتي يشترك فيها كل الناس ،ثم نأتي إلى الحالة (الرابعة) من حالات الميت في القبر : وهي ما يلحق عصاة الموحدين من عذاب في قبورهم ،وذلك تنقية لهم ،وتطهيرا من ذنوبهم ، فمما ورد من عذاب بعض المسلمين العصاة في قبورهم ، الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ، فقد يعذبهم الله بذنوبهم في قبورهم ،كمن ينام عن الصلاة المكتوبة ،والزناة ،وآكل الربا ، والكذاب الذي يكذب الكذبة تبلغ الآفاق، ففي حديث الرؤيا كما في صحيح البخاري: قال صلى الله عليه وسلم : (قُلْتُ طَوَّفْتُمَانِي اللَّيْلَةَ ، فَأَخْبِرَانِي عَمَّا رَأَيْتُ . قَالاَ نَعَمْ ، أَمَّا الَّذِى رَأَيْتَهُ يُشَقُّ شِدْقُهُ فَكَذَّابٌ يُحَدِّثُ بِالْكَذْبَةِ ، فَتُحْمَلُ عَنْهُ حَتَّى تَبْلُغَ الآفَاقَ ، فَيُصْنَعُ بِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ،وَالَّذِى رَأَيْتَهُ يُشْدَخُ رَأْسُهُ فَرَجُلٌ عَلَّمَهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ ، فَنَامَ عَنْهُ بِاللَّيْلِ ، وَلَمْ يَعْمَلْ فِيهِ بِالنَّهَارِ ، يُفْعَلُ بِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ . وَالَّذِى رَأَيْتَهُ فِي الثَّقْبِ فَهُمُ الزُّنَاةُ . وَالَّذِى رَأَيْتَهُ فِي النَّهَرِ آكِلُو الرِّبَا) ،كما ثبت عذاب القبر في الذي لا يستتر من بوله والذي يمشي بين الناس بالنميمة ،ففي الصحيحين واللفظ للبخاري : (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ مَرَّ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – بِحَائِطٍ مِنْ حِيطَانِ الْمَدِينَةِ أَوْ مَكَّةَ ، فَسَمِعَ صَوْتَ إِنْسَانَيْنِ يُعَذَّبَانِ فِي قُبُورِهِمَا ، فَقَالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – « يُعَذَّبَانِ ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ » ، ثُمَّ قَالَ « بَلَى ، كَانَ أَحَدُهُمَا لاَ يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ ، وَكَانَ الآخَرُ يَمْشِى بِالنَّمِيمَةِ » . ثُمَّ دَعَا بِجَرِيدَةٍ فَكَسَرَهَا كِسْرَتَيْنِ ، فَوَضَعَ عَلَى كُلِّ قَبْرٍ مِنْهُمَا كِسْرَةً . فَقِيلَ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَ فَعَلْتَ هَذَا قَالَ « لَعَلَّهُ أَنْ يُخَفَّفَ عَنْهُمَا مَا لَمْ تَيْبَسَا أَوْ إِلَى أَنْ يَيْبَسَا » ، وفي الصحيحين واللفظ للبخاري : أن (أَبَا هُرَيْرَةَ – رضى الله عنه – يَقُولُ افْتَتَحْنَا خَيْبَرَ ، وَلَمْ نَغْنَمْ ذَهَبًا وَلاَ فِضَّةً ، إِنَّمَا غَنِمْنَا الْبَقَرَ وَالإِبِلَ وَالْمَتَاعَ وَالْحَوَائِطَ ، ثُمَّ انْصَرَفْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – إِلَى وَادِى الْقُرَى ، وَمَعَهُ عَبْدٌ لَهُ يُقَالُ لَهُ مِدْعَمٌ ، أَهْدَاهُ لَهُ أَحَدُ بَنِى الضِّبَابِ ، فَبَيْنَمَا هُوَ يَحُطُّ رَحْلَ رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – إِذْ جَاءَهُ سَهْمٌ عَائِرٌ حَتَّى أَصَابَ ذَلِكَ الْعَبْدَ ، فَقَالَ النَّاسُ هَنِيئًا لَهُ الشَّهَادَةُ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – « بَلَى وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ ، إِنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أَصَابَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ مِنَ الْمَغَانِمِ لَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا » . فَجَاءَ رَجُلٌ حِينَ سَمِعَ ذَلِكَ مِنَ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – بِشِرَاكٍ أَوْ بِشِرَاكَيْنِ ، فَقَالَ هَذَا شَيْءٌ كُنْتُ أَصَبْتُهُ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – « شِرَاكٌ أَوْ شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ »
هذا ومن الملاحظ أن هناك فرقا بين عذاب القبر الذي سيصيب العصاة في قبورهم ، وبين ما يُبتلى به المؤمن في قبره من (الضغطة وفتنة الملكين وسؤالهما) ،فإن هذا ليس بعذاب ، فهول القبر وروعته ،وضمته هذا عام لكل أحد ،حتى الصالحين من المؤمنين ،ينالهم من ذلك ما ينالهم ،وأما العذاب بمعناه الخاص ،فهو عقوبة على ذنوب معينة ،وليس عاما لكل أحد ، قَالَ النَّسَفِيَّ : الْمُؤْمِن الْمُطِيع لَا يَكُون لَهُ عَذَاب الْقَبْر وَيَكُون لَهُ ضَغْطَة الْقَبْر ” ،وقال بعض العلماء : ضمة القبر للمؤمن :هي كضمة الحبيب للحبيب ، وأما ضمته للكافر: فهي كضمة العدو للعدو .
أما الحالة الخامسة من حالات الميت في قبره : فهي خاصة بالكفار والمنافقين والمشركين : قال الله تعالى عن قوم فرعون : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) غافر (46) ،وفي مسند أحمد : (قَالَ(صلى الله عليه وسلم) :وَإِنَّ الْعَبْدَ الْكَافِرَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا وَإِقْبَالٍ مِنَ الآخِرَةِ نَزَلَ إِلَيْهِ مِنَ السَّمَاءِ مَلاَئِكَةٌ سُودُ الْوُجُوهِ مَعَهُمُ الْمُسُوحُ فَيَجْلِسُونَ مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَيَقُولُ أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ اخْرُجِي إِلَى سَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَغَضَبٍ – قَالَ – فَتُفَرَّقُ فِي جَسَدِهِ فَيَنْتَزِعُهَا كَمَا يُنْتَزَعُ السَّفُّودُ مِنَ الصُّوفِ الْمَبْلُولِ فَيَأْخُذُهَا فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى يَجْعَلُوهَا فِي تِلْكَ الْمُسُوحِ وَيَخْرُجُ مِنْهَا كَأَنْتَنِ رِيحِ جِيفَةٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ فَيَصْعَدُونَ بِهَا فَلاَ يَمُرُّونَ بِهَا عَلَى مَلأٍ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ إِلاَّ قَالُوا مَا هَذَا الرُّوحُ الْخَبِيثُ فَيَقُولُونَ فُلاَنُ بْنُ فُلاَنٍ بِأَقْبَحِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانَ يُسَمَّى بِهَا فِي الدُّنْيَا حَتَّى يُنْتَهَى بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيُسْتَفْتَحُ لَهُ فَلاَ يُفْتَحُ لَهُ ». ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- (لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ) « فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ اكْتُبُوا كِتَابَهُ فِي سِجِّينٍ فِي الأَرْضِ السُّفْلَى فَتُطْرَحُ رُوحُهُ طَرْحاً ». ثُمَّ قَرَأَ (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِى بِهِ الرِّيحُ فِى مَكَانٍ سَحِيقٍ) « فَتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ وَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ فَيَقُولاَنِ لَهُ مَنْ رَبُّكَ فَيَقُولُ هَاهْ هَاهْ لاَ أَدْرِي. فَيَقُولاَنِ لَهُ مَا دِينُكَ فَيَقُولُ هَاهْ هَاهْ لاَ أَدْرِي. فَيَقُولاَنِ لَهُ مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِى بُعِثَ فِيكُمْ فَيَقُولُ هَاهْ هَاهْ لاَ أَدْرِي. فَيُنَادِى مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ أَنْ كَذَبَ فَافْرِشُوا لَهُ مِنَ النَّارِ وَافْتَحُوا لَهُ بَاباً إِلَى النَّارِ فَيَأْتِيهِ مِنْ حَرِّهَا وَسَمُومِهَا وَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ حَتَّى تَخْتَلِفَ فِيهِ أَضْلاَعُهُ وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ قَبِيحُ الْوَجْهِ قَبِيحُ الثِّيَابِ مُنْتِنُ الرِّيحِ فَيَقُولُ أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُوءُكَ هَذَا يَوْمُكَ الَّذِى كُنْتَ تُوعَدُ. فَيَقُولُ مَنْ أَنْتَ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِيءُ بِالشَّرِّ فَيَقُولُ أَنَا عَمَلُكَ الْخَبِيثُ فَيَقُولُ رَبِّ لاَ تُقِمِ السَّاعَةَ » ، وفي مسند أحمد : (وَإِنْ كَانَ كَافِراً أَوْ مُنَافِقاً يَقُولُ لَهُ مَا تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ فَيَقُولُ لاَ أَدْرِى سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئاً فَقُلْتُهُ. فَيَقُولُ لاَ دَرَيْتَ وَلاَ تَلَيْتَ وَلاَ اهْتَدَيْتَ. ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى الْجَنَّةِ فَيَقُولُ هَذَا مَنْزِلُكَ لَوْ آمَنْتَ بِرَبِّكَ فَأَمَّا إِذْ كَفَرْتَ بِهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَبْدَلَكَ بِهِ هَذَا. وَيُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى النَّارِ ثُمَّ يَقْمَعُهُ قَمْعَةً بِالْمِطْرَاقِ يَسْمَعُهَا خَلْقُ اللَّهِ كُلُّهُمْ غَيْرَ الثَّقَلَيْنِ ». فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَحَدٌ يَقُومُ عَلَيْهِ مَلَكٌ فِي يَدِهِ مِطْرَاقٌ إِلاَّ هُبِلَ عِنْدَ ذَلِكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « ( يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ) » ، ومن صور عذاب الكافر في قبره : الخسف في الأرض : فعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بَيْنَمَا رَجُلٌ يَجُرُّ إِزَارَهُ مِنَ الْخُيَلَاءِ خُسِفَ بِهِ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِي الْأَرْضِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» رواه البخاري ومسلم ،ومع هذا العذاب الحسي للكافر في قبره ،فهناك أيضًا عذاب معنوي (نفسي) وهو أن الكافر يُرى في قبره مقعده من الجنة لو أطاع الله، فيزداد بذلك حسرة وألما لما يرى من عظم النعيم الذي فاته
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية : أحوال أهل القبور ، وحديث (إِنَّ الْقَبْرَ أَوَّلُ مَنَازِلِ الْآخِرَةِ)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
وأما عن الحالة السادسة والأخيرة من أحوال الموتى في القبور ، فهي حالة المؤمنين المنعمين في قبورهم ، فقد دلت الأدلة على أن المؤمن ينعم في قبره، حتى تقوم الساعة فينتقل بفضل الله ورحمته إلى النعيم الذي لا ينفد ولا ينقطع وهو نعيم الجنة ،وهذه بعض الصور لما ينعم به المؤمن في قبره : أن يفسح له في قبره ،وأن يفرش له من فراش الجنة، وأن يُلبس من لباس الجنة ، وأن يفتح له باب إلي الجنة، لِيَأْتِيَهُ مِنْ نَسِيمِهَا وَيَشَمُّ مِنْ طِيبِهَا وَتَقَرُّ عَيْنُهُ بِمَا يَرَى فِيهَا مِنْ النعيم ، ويبشر برضوان الله وجنته، ولذلك يشتاق إلى قيام الساعة ، ففي مسند أحمد : (فَيُنَادِى مُنَادٍ فِي السَّمَاءِ أَنْ صَدَقَ عَبْدِى فَأَفْرِشُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ وَأَلْبِسُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ وَافْتَحُوا لَهُ بَاباً إِلَى الْجَنَّةِ – قَالَ – فَيَأْتِيهِ مِنْ رَوْحِهَا وَطِيبِهَا وَيُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ مَدَّ بَصَرِهِ).، ومن صور النعيم للمؤمن في قبره : سروره برؤيته لمقعده من النار الذي أبدله الله عز وجل به مقعدًا من الجنة: (فعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الْعَبْدُ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ وَتُوُلِّيَ وَذَهَبَ أَصْحَابُهُ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ، أَتَاهُ مَلَكَانِ فَأَقْعَدَاهُ، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، فَيُقَالُ: انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ، أَبْدَلَكَ اللهُ بِهِ مَقْعَدًا مِنَ الْجَنَّةِ». قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا)، ومن صور النعيم للمؤمن في قبره : أنه ينام في قبره نومة العروس، وينور له قبره. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا قُبِرَ الْمَيِّتُ -أَوْ قَالَ أَحَدُكُمْ- أَتَاهُ مَلَكَانِ أَسْوَدَانِ أَزْرَقَانِ يُقَالُ لأَحَدِهِمَا الْمُنْكَرُ وَالآخَرُ النَّكِيرُ فَيَقُولانِ مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ فَيَقُولُ مَا كَانَ يَقُولُ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ فَيَقُولانِ قَدْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُولُ هَذَا ثُمَّ يُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ سَبْعُونَ ذِرَاعًا فِي سَبْعِينَ ثُمَّ يُنَوَّرُ لَهُ فِيهِ ثُمَّ يُقَالُ لَهُ نَمْ فَيَقُولُ أَرْجِعُ إِلَى أَهْلِي فَأُخْبِرُهُمْ فَيَقُولانِ نَمْ كَنَوْمَةِ الْعَرُوسِ الَّذِي لا يُوقِظُهُ إِلا أَحَبُّ أَهْلِهِ إِلَيْهِ حَتَّى يَبْعَثَهُ اللَّهُ مِنْ مَضْجَعِهِ) رواه الترمذي وصححه الألباني،(وَإِنَّمَا شَبَّهَ نَوْمَهُ بِنَوْمَةِ الْعَرُوسِ لأَنَّهُ يَكُونُ فِي طَيِّبِ الْعَيْشِ). فهذا بعض صور النعيم الذي ينعم به المؤمن في قبره،
الدعاء