خطبة عن مجاهدة النفس ،وحديث(الْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ لِلَّهِ)
نوفمبر 28, 2020خطبة عن ( الإحسان للآخرين ،وصوره وثمراته)
ديسمبر 3, 2020الخطبة الأولى أصناف الناس ( النَّاسُ ثَلاثَةٌ : فَعَالِمٌ رَبَّانِيٌّ ، وَمُتَعَلِّمٌ عَلَى سَبِيلِ نَجَاةٍ ، وَهَمَجٌ رَعَاعٌ أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
جاء في كتاب : (جامع الأحاديث ) ، لجلال الدين السيوطي : (عَنْ كُمَيْلِ بْنِ زِيَادٍ ، قَالَ : أَخَذَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بِيَدِي فَأَخْرَجَنِي إِلَى نَاحِيَةِ الْجَبَّانِ ، فَلَمَّا أَصْحَرْنَا جَلَسَ ثُمَّ تَنَفَّسَ ، ثُمَّ قَالَ : يَا كُمَيْلُ بْنَ زِيَادٍ ، ” الْقُلُوبُ أَوْعِيَةٌ فَخَيْرُهَا أَوْعَاهَا ، وَاحْفَظْ مَا أَقُولُ لَكَ : النَّاسُ ثَلاثَةٌ : فَعَالِمٌ رَبَّانِيٌّ ، وَمُتَعَلِّمٌ عَلَى سَبِيلِ نَجَاةٍ ، وَهَمَجٌ رَعَاعٌ أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ ، يَمِيلُونَ مَعَ كُلِّ رِيحٍ ، لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ الْعِلْمِ ، وَلَمْ يَلْجَئُوا إِلَى رُكْنٍ وَثِيقٍ)
إخوة الإسلام
موعدنا اليوم إن شاء الله مع هذه الوصية الغالية ، والنصيحة الفريدة ، من الإمام على ابن أبي طالب (رضي الله عنه) ، فهذه الوصيةٌ نافعةٌ ماتعةٌ، يقول فيها : ( الْقُلُوبُ أَوْعِيَةٌ فَخَيْرُهَا أَوْعَاهَا ) : قال ابن القيم : يشبه القلب بالوعاء والإناء والوادي؛ لأنه وعاء للخير والشر ، فيراد به أسرعها وعياً، وأكثرها وأثبتها وعياً، ويراد به أيضاً أحسنُها وعياً فيكون حُسن الوعي الذي هو إيعاء لما يقال له في قلبه ، هو سرعته وكثرته وثباته، ولما كان القلب وعاء ،والأذن مدخل ذلك الوعاء وبابه ،كان حصول العلم موقوفا على حسن الاستماع، وعقل القلب هو ضبط ما وصل إلى القلب ، وإمساكه حتى لا يتفلت منه ، فخير القلوب ما كان واعيا للخير ضابطا له، وليس كالقلب القاسي الذي لا يقبله؛ فهذا قلبٌ حجري، ولا كالمائع الأخرق الذي يقبل ولكن لا يحفظ ولا يضبط، فخيرُ القلوب ما كان لينا صلبا ، يقبلُ بلينه ما ينطبع فيه، ويحفظ صورته بصلابته ، وفي قوله تعالى : { أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} ، فقد شبه العلم بالماء النازل من السماء، والقلوب في سَعتها وضيقها بالأودية؛ فقلب كبير واسع، يسع علما كثيرا ، كوادٍ كبيرٍ واسع ، يسع ماءا كثيراً، وقلب صغير ضيق ، يسع علما قليلا ، كواد صغير ضيق ، يسع ماء قليلا. وجاء في بعض الآثار: إن لله في أرضه آنية – وهي القلوب – فخيرها أرقُّها وأصلبُها وأصفاها ؛ فهي أواني مملوءة من الخير، كما قال بعض السلف: قلوب الأبرار تغلي بالبِّر، وقلوب الفجار تغلي بالفجور. وأما قوله (رضي الله عنه) : (النَّاسُ ثَلاثَةٌ : فَعَالِمٌ رَبَّانِيٌّ ، وَمُتَعَلِّمٌ عَلَى سَبِيلِ نَجَاةٍ ، وَهَمَجٌ رَعَاعٌ أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ ، يَمِيلُونَ مَعَ كُلِّ رِيحٍ ، لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ الْعِلْمِ ، وَلَمْ يَلْجَئُوا إِلَى رُكْنٍ وَثِيقٍ) قال الخطيبُ: ” وتقسيمُ أميرِ المؤمنين عليِّ بنِ أبي طالبٍ الناسَ في أولِه تقسيمٌ في غايةِ الصحة ونهاية السَّدادِ؛ لأن الإنسانَ لا يخلو من أحدِ الأقسامِ الثلاثة التي ذكَرَها ،مع كمالِ العقلِ، وإزاحةِ العِللِ، : إما أن يكونَ عالمًا، أو متعلِّمًا أو مُغفلًا للعلمِ وطلبِه، ليس بعالمٍ ولا بطالبٍ له”. فالصنف الأول : (فَعَالِمٌ رَبَّانِيٌّ ) : وهو الذي لا زيادة على فضله لفاضل، ولا منزلة فوق منزلته لمجتهد، وقد دخل في الوصف له بأنه رباني ،وصفه بالصفات التي يقتضيها العلم لأهله، ويمنع وصفه بما خالفها، ومعنى الرباني في اللغة: الرفيع الدرجة في العلم، العالي المنزلة فيه، قال ابن الأعرابي : إذا كان الرجل عالماً عاملاً معلماً قيل له هذا رباني، فإن خرم عن خصلة منها لم نقل له رباني. وقال سعيد بن جبير : العالم الرباني : هو الفقيه العليم الحكيم ، ولا يوصف العالم بكونه ربانيا ، حتى يكون عاملا بعمله ، معلما له .والصنف الثاني : (وَمُتَعَلِّمٌ عَلَى سَبِيلِ نَجَاةٍ ) : فهو الطالب بتعلمه ،والقاصد به نجاته؛ من التفريط في تضييع الفروض الواجبة عليه، والرغبة بنفسه عن أحمالها واطراحها ، والأنفة من مجانسة البهائم، والمتعلم على سبيل النجاة؛ يكون قاصداً بعلمه النجاة، وهو المخلص في تعلمه، المتعلم ما ينفعه، العامل بما علمه، فلا يكون المتعلم على سبيل نجاة إلا بهذه الأمور الثلاثة؛ : فإنه إن تعلم ما يضره ولا ينفعه لم يكن على سبيل نجاة، وإن تعلم ما ينتفع به لا للنجاة ؛ فكذلك ، وإن تعلمه ولم يعمل به لم يحصل له النجاة، ولهذا وصفه بكونه على السبيل أي: على الطريق التي تنجيه؛ أي: مفتش متطلع على سبيل نجاته، فهذا في الدرجة الثانية ، وليس ممن تعلمه ليماري به السفهاء ،أو يجارى به العلماء ،أو يصرف وجوه الناس إليه، فإن هذا من أهل النار كما جاء في الحديث ، فهؤلاء ليس فيهم من هو على سبيل نجاة، بل على سبيل الهلكة نعوذ بالله من الخذلان ، والصنف الثالث: ( وَهَمَجٌ رَعَاعٌ أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ ، يَمِيلُونَ مَعَ كُلِّ رِيحٍ ) فهم المهملون لأنفسهم ، الراضون بالمنزلة الدنية ،والحال الخسيسة ،التي هي في الحضيض الأسقط، والهبوط الأسفل، التي لا منزلة بعدها في الجهل، ولا دونها في السقوط، وما أحسن ما شبههم بالهمج الرعاع، وبه يشبه دناة الناس وأراذلهم، والرعاع: هو المتبدد ، والمتفرق، والناعق: هو الصائح؛ وهو في هذا الموضع الراعي ،يقال نعق الراعي بالغنم إذا صاح بها فالقسم الثالث : هو المحروم المعرض؛ فلا هو عالم، ولا هو متعلم، بل همج رعاع ،والهمج من الناس : هم حمقاؤهم وجهلتهم، وهم سيئوا التدبير في أمر المعيشة وقوله : (أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ) أي: من صاح بهم ودعاهم تبعوه، سواء دعاهم إلى هدى ،أو إلى ضلال، فإنهم لا علم لهم بالذي يدعون إليه ، أحقٌّ هو أم باطل؟ فهم مستجيبون لدعوته، وهؤلاء الناس ، وهذا الصنف ، من أضر الخلق على الأديان، فإنهم الأكثرون عدداً، الأقلون عند الله قدراً، وهم حطب كل فتنة، بهم توقد ،ويشب ضرامها ، فالفتنة يعتزلها أولو الدين، ويتولاها الهمج الرعاع ، وسمى داعيهم ناعقاً ، تشبيها لهم بالأنعام ، التي ينعق بها الراعي ، فتذهب معه أين ذهب! وهذه النوعية هي : (الإمّعة) والتي وصفها النبي صلى الله عليه وسلم بالحثالة؛ ففي صحيح البخاري : (قَالَ عَبْدُ اللَّهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – « يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو ، كَيْفَ بِكَ إِذَا بَقِيتَ فِي حُثَالَةٍ مِنَ النَّاسِ بِهَذَا » ، وفيه : (عَنْ مِرْدَاسٍ الأَسْلَمِيِّ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – « يَذْهَبُ الصَّالِحُونَ الأَوَّلُ فَالأَوَّلُ ، وَيَبْقَى حُفَالَةٌ كَحُفَالَةِ الشَّعِيرِ أَوِ التَّمْرِ ، لاَ يُبَالِيهِمُ اللَّهُ بَالَةً » . قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يُقَالُ حُفَالَةٌ وَحُثَالَةٌ )، فالإمعة امرؤ ضعيف دينه ،وشخصه ،وعقله ،وفكره، وهو يحكم على نفسه بالذل والتبعية، فلا رأي له ولا شخصية، وفي النهاية فهو يحكم على نفسه ،بأن يكون منبوذا من الخلق، ومن الله، فلا الخلق براضية عنه، ولا الله براض عنه. والإمعة تابع لكل أحد، فهو إن جالس المتدينين كان متدينا، وإن جالس الملحدين كان ملحدا زنديقا، إنه إنسان بلا مبدأ أو غاية، لأنه مهزوم ومهزوز . وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنَّه كان يقول: (اغْدُ عالما أو متعلِّمًا، ولا تَغْد إمَّعة فيما بين ذلك) وعنه -أيضًا- قال: (أَلَا لا يقلِّدنَّ أحدكم دينه رجلًا، إن آمن: آمن، وإن كفر: كفر ؛ وإن كنتم لا بدَّ مقتدين، فاقتدوا بالميِّت؛ فإنَّ الحيَّ لا يُؤمن عليه الفتنة) وعنه -أيضًا- قال: (لا يكن أحدكم إمَّعة، قالوا: وما الإمَّعة يا أبا عبد الرَّحمن؟ قال: يقول: إنَّما أنا مع النَّاس، إن اهتدوا اهتديت، وإن ضلُّوا ضللت، ألَا ليوطِّن أحدكم نفسه على إن كفر النَّاس، أن لا يكفر وعن الفضيل بن عياض قال: (اتَّبع طريق الهدى، ولا يضرُّك قلَّة السَّالكين، وإيَّاك وطرق الضَّلالة، ولا تغتـرَّ بكثرة الهالكين)
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية أصناف الناس ( النَّاسُ ثَلاثَةٌ : فَعَالِمٌ رَبَّانِيٌّ ، وَمُتَعَلِّمٌ عَلَى سَبِيلِ نَجَاةٍ ، وَهَمَجٌ رَعَاعٌ أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
وقول الإمام علي رضي الله عنه : ( لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ الْعِلْمِ ، وَلَمْ يَلْجَئُوا إِلَى رُكْنٍ وَثِيقٍ) ، فهذا الذي وصفهم به أمير المؤمنين : هو من عدم علمهم ،وظلمة قلوبهم، فليس لهم نور، ولا بصيرة يفرقون بها بين الحق والباطل، بل الكل عندهم سواء . وفي قوله رضي الله عنه: ( لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجئوا إلى ركن وثيق ) ،فقد بيّن السبب الذي جعلهم بتلك المثابة؛ وهو أنه لم يحصل لهم من العلم نور ،يفرقون به بين الحق والباطل ، وقوله رضي الله عنه : ( يميلون مع كل ريح ) ، وفي رواية : (مع كل صائح) ، فقد شبّه عقولهم الضعيفة بالغُصن الضعيف، وشبه الأهواء والآراء بالرياح، والغصن يميل مع الريح حيث مالت، وعقول هؤلاء تميل مع كل هوى ،وكلِّ داعٍ، ولو كانت عقولاً كاملة، لكانت كالشجرة الكبيرة ، التي لا تتلاعب بها الرياح . فإذا عدم القلب هذا النور ،صار بمنزلة الحيران ، الذي لا يدري أين يذهب! ،فهو لحيرته وجهله بطريق مقصوده يؤم كل صوت يسمعه، ولم يسكن قلوبهم من العلم ما تمتنع به من دعاةِ الباطل، فإن الحق متى استقر في القلب قوي به ،وامتنع مما يضره ويهلكه، ولهذا سمى الله الحجة العلمية سلطانا . فالعبد يؤتى من ظلمة بصيرته ،ومن ضعف قلبه، فإذا استقر فيه العلم النافع ،استنارت بصيرته ، وقوى قلبه ، وهذان الأصلان هما قطب السعادة ،اعني العلم والقوة ، وهؤلاء ليسوا من أهل البصائر ،الذين استضاءوا بنور العلم ،ولا لجئوا إلى عالم مستبصر فقلدوه، ولا متبعين لمستبصر، فإن الرجل إما أن يكون بصيراً ،أو أعمى متمسكا ببصير يقوده، أو أعمى يسير بلا قائد .
أيها المسلمون
ألا فكونوا ممن قال فيهم الامام ( رضي الله عنه ) : (فَعَالِمٌ رَبَّانِيٌّ ، وَمُتَعَلِّمٌ عَلَى سَبِيلِ نَجَاةٍ ) ، ولا تكونوا ممن وصفهم بقوله : (وَهَمَجٌ رَعَاعٌ أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ ، يَمِيلُونَ مَعَ كُلِّ رِيحٍ ، لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ الْعِلْمِ ، وَلَمْ يَلْجَئُوا إِلَى رُكْنٍ وَثِيقٍ)
الدعاء