خطبة عن : الابتلاءات للمسلم مكفرات ، وحديث ( مَا مِنْ مُصِيبَةٍ تُصِيبُ الْمُسْلِمَ إِلاَّ كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا عَنْهُ )
أكتوبر 29, 2022خطبة حديث (وَإِذَا سُئِلَ عَمَّا لاَ يَعْلَمُ فَلْيَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ)
أكتوبر 29, 2022الخطبة الأولى ( مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلاَّ أُوتُوا الْجَدَلَ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
روى الإمام الترمذي في سننه وصححه الألباني : (عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ :قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلاَّ أُوتُوا الْجَدَلَ ». ثُمَّ تَلاَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- هَذِهِ الآيَةَ : (مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ). [الزخرف: 58]
إخوة الإسلام
لقد كان الصَّحابةُ (رَضِي اللهُ عَنْهم) أبعَدَ النَّاسِ عَن الجدَلِ والمِرَاءِ؛ وذلك امتِثالًا منهم لِوَصايا رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ علَيْه وسلَّم، فقد جاء في سنن ابن ماجه: (عَنْ أَبِى أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ ».
وفي هذا الحديثِ الذي تصدرت به هذه الخطبة ، يقولُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيْه وسلَّم: “ما ضَلَّ قومٌ”، أي: ما أصبَحوا ضالِّين عن الحقِّ واتِّباعِه، “بعدَ هُدًى كانوا عليه”، أي: بعدَما كانوا على الحقِّ “إلَّا أُوتوا الجدَلَ”، أي: أُعطُوا الجدَلَ، والجدَلُ هو شِدَّةُ المُخاصَمةِ في الباطلِ، والتَّعصُّبُ للمذاهبِ الفاسدةِ، والابتِعادُ عَن القرآنِ وعن سُنَّةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيْه وسلَّم، وليس الغرَضُ مِن هذا الجدالِ كَشْفَ الحقائقِ وتبيينَها، ولكن الهدف منه أن ينتصر كل ذي رأي لرأيه ، “ثمَّ تلا”، أي: قرَأ النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيْه وسلَّم هذه الآيةَ لِيَستدِلَّ ويَستشهِدَ بما قرَّره بقولِ اللهِ تعالى: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف: 58]، أي: بهذا المثَلِ الَّذي هو قولُه تعالى: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ * وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ} [الزخرف: 57، 58]، أي: الأوثانُ التي يَعبُدونها خيرٌ أم عِبادةُ عيسى عليه السَّلامُ، فبيَّن اللهُ عزَّ وجلَّ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيْه وسلَّم أنَّه ما كان هذا المثَلُ الَّذي ضرَبوه {إلَّا جدَلًا}، أي: للجِدالِ والخُصومَةِ بالباطلِ.، قال القاري: (والمعنى ما كان ضلالتهم ووقوعهم في الكفر إلا بسبب الجدال، وهو الخصومة بالباطل مع نبيهم، وطلب المعجزة منه عنادًا أو جحودًا،
أيها المسلمون
والجدال والمراء كثيراً ما يميل إلى الخصومة في الكلام، وينطوي على حرص كل واحد من المتجادلين على غلبة خصمه ،وإفحامه ،وإلزامه الحجة وبيان خطئه، ونتيجة لهذا : فإن من المألوف أن يقع خلال الجدل بعض الظلم ،والادعاء والكذب والتطاول ،واستخفاف أحد المتجادلين بالآخر. ومن هنا وجهنا الله سبحانه وتعالى إلى أن نجادل المجادلة المقيدة بالأدب الإسلامي الرفيع، المجادلة بالحق ، والساعية إليه؛ فقال الله تعالى: {وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125] ، ومن المعلوم أن هناك فرق بين الجدال والمحاورة، فالحوار فمع دلالته على تردد الحديث بين اثنين، إلا أنه لا يحمل صفة الخصومة وإنما يحمل صفة الحرص على العلم والفهم والإطلاع. فالدافع الأساسي للمحاور الجيد ليس إقناع من يحاوره بوجهة نظره ،وجعله يقف إلى جانبه، وإنما دافعه الأساسي أن يُري محاوره ما لا يراه، وأن يظفر من محاوره أيضاً بأن يكشف له غموض أمور لا يراها ولا يعرفها، فكلاً من المتحاورين يطلب الوضوح ومعرفة الحق والحقيقة ، أما الجدال فهدفه كما ذكرت آنفا : هو الغلبة وإفحام الخصم ، لذلك جاء في الصحيحين : (عَنْ عَائِشَةَ – رضى الله عنها – قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – « أَبْغَضُ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ الأَلَدُّ الْخَصِمُ »، قال المناوي: (الألد) أي الشديد الخصومة بالباطل ،الآخذ في كل لدد أي في كل شيء من المراء والجدال لفرط لجاجه (الخصم) أي المولع بها ،الماهر فيها ،الحريص عليها ،المتمادي في الخصام بالباطل، لا ينقطع جداله وهو يظهر أنه على الحسن الجميل ،ويوجه لكل شيء من خصامه وجهاً ليصرفه عن إرادته من القباحة إلى الملاحة، ويزين بشقشقته الباطل بصورة الحق وعكسه، بحيث صار ذلك عادته وديدنه، فالأول ينبئ عن الشدة والثاني عن الكثرة،. قال الغزالي: إذا خاصمت فتوقر، وتحفظ من جهلك وعجلتك، وتفكر في حجتك، ولا تكثر الإشارة بيدك، ولا الالتفات إلى من وراءك ، قال النووي: اعلم أن الجدال قد يكون بحق وقد يكون بباطل، قال تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت:46]، وقال الله تعالى : {وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125] ،وقال الله تعالى : {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} [غافر:4] ، ويقول الغزالي : فإن كان الجدال للوقوف على الحق وتقريره كان محمودا، وإن كان في مدافعة الحق أو كان جدالا بغير علم كان مذموما، وعلى هذا التفصيل تنزل النصوص الواردة في إباحته وذمه، قال بعضهم: ما رأيت شيئا أذهب للدين ولا أنقص للمروءة ولا أشغل للقلب من الخصومة ، فإن قال قائل : لابد للإنسان من الخصومة لاستيفاء حقوقه (فالجواب) ما أجاب به الإمام الغزالي رحمه الله: اعلم أن الذم المتأكد إنما هو لمن خاصم بالباطل وبغير علم، كوكيل القاضي فإنه يتوكل في الخصومة قبل أن يعرف الحق في أي جانب، فهو يخاصم بغير علم. ويدخل في الذم أيضا من يطلب حقه لأنه لا يقتصر على قدر الحاجة بل يظهر اللدد والكذب والإيذاء والتسليط على خصمه، كذلك من خلط بالخصومة كلمات تؤذى وليس له إليها حاجة في تحصيل حقه، كذلك من يحمله على الخصومة محض العناد لقهر الخصم وكسره فهذا هو المذموم. وأما المظلوم الذي ينصر حجته بطريق الشرع من غير لدد وإسراف وزيادة لجاج على الحاجة من غير قصد عناد ولا إيذاء، ففعل هذا ليس حراما، ولكن الأولى تركه ما وجد إليه سبيلا، لأن ضبط اللسان في الخصومة على حد الاعتدال متعذر، والخصومة توغر الصدور وتهيج الغضب، وإذا هاج الغضب حصل الحقد بينهما حتى يفرح كل واحد منهما بمساءة الآخر ويحزن لمسرته ويطلق لسانه في عرضه، فمن خاصم فقد تعرض لهذه الآفات، وأقل ما فيها اشتغال القلب حتى أنه يكون في صلاته وخاطره متعلقا بالمحاججة والخصومة فلا تبقى حاله على الاستقامة، والخصومة مبدأ الشر وكذا الجدال والمراء، فينبغي للإنسان ألا يفتح عليه باب الخصومة إلا لضرورة لا بد منها.
أيها المسلمون
هكذا يتبين لنا أن الجدال قد يكون سببًا في التّحوّلِ والانتقالِ مِنَ الإيمانِ إلى الكفرِ، ومِنَ الهدى إلى الضّلالِ، ومِنَ السّنّةِ إلى البدعةِ، قال عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ -رحمه اللهُ-: «مَنْ جَعَلَ دِينَهُ غَرَضًا لِلْخُصُومَاتِ أَكْثَرَ التَّنَقُّلَ»،
ومِنْ جدلِ المسلمين المذمومِ ما كان على وجهِ معارضةِ الآياتِ المتشابِهاتِ ابتغاءَ الفتنةِ وابتغاءَ تأويلِها على غيرِ مقصودِ الشّارعِ ومرادِه، أو تضمّن الجدلُ تكذيبًا للآثارِ، أو مكابَرةً لنصوصِ التّشريعِ، أو معارضةً للإجماعِ بنقضِ عقدتِه، أو مغالطةً في القياسِ أو في مقدّماتِه، أو ما كان الجدلُ قائمًا على المماراةِ والخصومةِ المؤديّةِ إلى تشتيتِ الألفةِ وتصديعِ أواصرِ المحبّةِ، أو إدخالِ الشّكوكِ في الثّوابتِ وتوليدِ الشّحناءِ في النّفوسِ بتسفيهِ الكبارِ والانتقاصِ مِن أهلِ الدّينِ والملّةِ ببترِ أقوالِهم وحملِ كلامِهم على غيرِ مرادِهم بمختلفِ الأغاليطِ وأساليبِ التّنقيرِ والتّحقيرِ والتّنفيرِ، أو إثارةِ العصبيّةِ والفُرْقةِ بين المسلمين، الأمرُ الذي قد يصل إلى حدِّ التّكفيرِ والاقتتالِ، وهذا كلُّه مذمومٌ مهما كان تبريرُ مقاصدِ المتخاصمَيْنِ ، ويدلّ عليه قولُه تعالى: ﴿كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ. يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ﴾ [الأنفال: ٥-٦]، وقولُه تعالى: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾ [البقرة: ١٩٧]، ، وحديثُ عائشةَ رضي الله عنها قالتْ: «تَلاَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الآيَةَ: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَلْبَابِ﴾ [آل عمران: ٧]، فقال: يَا عَائِشَةُ، إِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِيهِ فَهُمُ الَّذِينَ عَنَاهُمُ اللهُ فَاحْذَرُوهُمْ» رواه ابن ماجة في سننه
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلاَّ أُوتُوا الْجَدَلَ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
لقد نهى السّلفُ وأئمّةُ الهدى عنِ الجدلِ المذمومِ والمراءِ في الدّينِ ومناظرةِ المسلمين على طريقةِ أهلِ الأهواءِ والبِدَعِ، قال الآجرّيُّ -رحمه الله- بعد أن ذكر طائفةً مِنَ الأدلّةِ في النّهيِ عنِ الجدلِ ما نصُّه: «لمّا سمع هذا أهلُ العلمِ مِنَ التّابعين ومَن بعدهم مِن أئمّةِ المسلمين لم يُماروا في الدّينِ ولم يجادلوا، وحذّروا المسلمين المراءَ والجدالَ، وأمروهم بالأخذِ بالسّننِ وبما كان عليه الصّحابةُ رضي الله عنهم، وهذا طريقُ أهلِ الحقِّ ممّن وفّقه اللهُ تعالى» ،
ولما كان هذا هو شأن الجدال والمراء والخصومة تجنب السلف الصالح ذلك، وحذروا منه:- قال ابن عباس -رضي الله عنه-: كفى بك ظلماً ألا تزال مخاصماً, وكفى بك إثماً ألا تزال ممارياً.- وقال ابن أبي الزناد: ما أقام الجدلُ شيئاً إلا كسره جدلٌ مثله.- وقال الأوزاعي: إذا أراد الله بقوم شراً ألزمهم الجدل، ومنعهم العمل.- وقال الأصمعي: سمعت أعرابياً يقول: من لاحى الرجال وماراهم قلَّتْ كرامته، ومن أكثر من شيء عُرِف به.- وأخرج الآجُرِيُّ عن مسلم بن يسار قال: إياكم والمراءَ، فإنه ساعةُ جهلٍ العالم، وبها يبتغي الشيطان زلته.- وأخرج أن عمر بن عبد العزيز قال: من جعل دينه غرضاً للخصومات أكثر التنقل.- وقال عبد الله بن حسين بن علي -رضي الله عنه-: المراء رائد الغضب، فأخزى الله عقلاً يأتيك بالغضب.- وقال محمد بن علي بن حسين -رضي الله عنه-: الخصومة تمحق الدين، وتنبت الشحناء في صدور الرجال.- وقيل لعبد الله بن حسن بن حسين: ما تقول في المراء؟ قال: يفسد الصداقة القديمة، ويحل العقدة الوثيقة. وأقل ما فيه أن يكون ذريعة للمغالبة، والمغالبة أمتن أسباب القطيعة.- وقال جعفر بن محمد: إياكم وهذه الخصومات، فإنها تحبط الأعمال.-
وهكذا يتبين لنا خلال هذا العرض الموجز أن هذا الحديث النبوي الكريم الذي تصدرت به هذه الخطبة يحثُّنا على تَرْكِ الجدالِ، وبيانُ المفاسدِ التي يُؤدِّي إليها الجِدالُ في الباطلِ. وصدق رول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول : « مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلاَّ أُوتُوا الْجَدَلَ ».
الدعاء