خطبة عن حديث (الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ .وَجَنَّةُ الْكَافِرِ)
فبراير 23, 2017خطبة عن (هدايا الموظفين) وحديث :(هَدَايَا الْعُمَّالِ غُلُولٌ)
فبراير 26, 2017الخطبة الأولى ( أمير المؤمنين : عمر بن عبد العزيز )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
روى مسلم في صحيحه : أن (جَابِرَ بْنَ سَمُرَةَ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « لاَ يَزَالُ الإِسْلاَمُ عَزِيزًا إِلَى اثْنَىْ عَشَرَ خَلِيفَةً ». ثُمَّ قَالَ كَلِمَةً لَمْ أَفْهَمْهَا فَقُلْتُ لأَبِى مَا قَالَ فَقَالَ « كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ ». وروى أبو داود في سننه والحاكم في مستدركه وصححه الألباني (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ فِيمَا أَعْلَمُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا » ، وروى الإمام أحمد في مسنده وحسنه الألباني: (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ مَا رَأَيْتُ أَحَداً أَشْبَهَ بِصَلاَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ هَذَا الْغُلاَمِ. يَعْنِى عُمَرَ بْنَ عَبْدِ العَزِيزِ قَالَ فَحَزَرْنَا فِي الرُّكُوعِ عَشْرَ تَسْبِيحَاتٍ وَفِى السُّجُودِ عَشْرَ تَسْبِيحَاتٍ) .
إخوة الإسلام
إن معرفة سيرة السلف الصالح ، وتراجم الخلفاء الراشدين أمر حسنٌ مندوب إليه , وخاصة في الحقبة الأولى من القرون المفضلة ، والذين كانوا مثالاً عالياً في كل الصفات ، وفي معرفة تراجمهم وسيرتهم دافع للمسلم للاقتداء بهم ، والتأسي بأفعالهم ، وأخلاقهم ، ومآثرهم , وخاصة في مثل هذا الزمن الذي أصبحت فيه القدوة ، والأسوة ، للساقطين من الناس ، من الممثلين ، والمغنيين ، وأشباههم . وحديثنا اليوم إن شاء الله عن أمير المؤمنين ( عمر بن عبد العزيز ) ، والذي قال عنه خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابي أنس بن مالك (مَا رَأَيْتُ أَحَداً أَشْبَهَ بِصَلاَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ هَذَا الْغُلاَمِ. يَعْنِى عُمَرَ بْنَ عَبْدِ العَزِيزِ ) ، فقد كان عمر – رحمه الله- ابن والي مصر عبد العزيز، وكان يعيش في أسرة الملك والحكم، حيث النعيم الدنيوي، وزخرف الدنيا الزائل، وكان -رحمه الله- يتقلب في نعيم يتعاظم كل وصف، ويتحدى كل إحاطة.. إنّ دخله السنوي من راتبه ومخصصاته، ونتاج الأرض التي ورثها من أبيه يجاوز أربعين ألف دينار.. وإنه ليتحرك مسافراً من الشام إلى المدينة، فينتظم موكبه خمسين جملاً تحمل متاعه.
وكان يلبس أبهى الثياب وأغلاها، ويضمخ نفسه بأبهج عطور دنياه، حتى إنه ليعبر طريقاً ما، فيعلم الناس أنه عبره، وكان -رحمه الله- يتأنق في كل شيء، حتى المشية التي انفرد بها وشغف الشباب بمحاكاتها وعرفت لفرط أناقتها واختيالها بـ”المشية العمرية”. وكان -رحمه الله- أسمر دقيق الوجه، حسنه، نحيف الجسم، حسن اللحية، غائر العينين، بجبهته أثر شجة ثم إنه – رحمه الله- مع هذا كله كان فيه نبوغ مبكر فلم تنسه هذه الدنيا وزخرفها الله تعالى والدار الآخرة، بل إنه -رحمه الله- كان فيه حب للعلم وأهله ، فلقد جمع القرآن وهو صغير، وقد تحدث هو عن نفسه وطفولته فقال: ” لقد رأيتني بالمدينة غلاماً مع الغلمان ثم تاقت نفسي للعلم، فأصبت منه حاجتي”.. ورغب إلى والده أن يغادر مصر إلى المدينة ليَدْرُس بها ويتفقه، فأرسله إليها وعهد به إلى واحد من كبار معلمي المدينة وفقهائها وصالحيها وهو: صالح بن كيسان -رحمه الله-. ثم لا يكاد ينزل بها حتى يتصل بالشيوخ والعلماء والفقهاء، متجنباً أترابه ولِدَاته، وأقبل على العربية وآدابها وشعرها فيستوعب من ذلك كله محصولاً وفيراً. ومما يذكر أن صالح بن كيسان -رحمه الله- كان يُلزمه الصلوات، فأبطأ يوماً عن الصلاة، فقال: ما حبسك؟ قال: كانت مرجلتي تسكن شعري. فقال: بلغ من تسكين شعرك أن تؤثره على الصلاة. وكتب بذلك إلى والده، فبعث عبد العزيز رسولاً إليه فما كلمه حتى حلق شعره. ومما يذكر من بكائه حال صغره وخوفه: أنه لما حج أبوه اجتاز به في المدينة، فسأل صالح عنه فقال: ما خبرت أحداً الله أعظم في صدره من هذا الغلام. وقد بكى يوماً وهو غلام صغير فأرسلت إليه أمه وقالت: ما يبكيك؟ قال: ذكرت الموت، فبكت أمه حين بلغها ذلك. وأما سبب تسميته بأشج بني أمية: فعن ثروان مولى عمر بن عبد العزيز قال: دخل عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- إلى إصطبل أبيه فضربه فرس فشجه فجعل أبوه يمسح الدم عنه ويقول: إن كنت أشج بني أمية إنك إذاً لسعيد. فقد كان عمر بن الخطاب يقول: “من ولدي رجل بوجهه شجة يملأ الأرض عدلاً”، أخرجه الترمذي في تاريخه. فصدق ظن أبيه فيه. وأخرج ابن سعد أن عمر بن الخطاب قال: ليت شعري! من ذو الشين من ولدي الذي يملؤها عدلا كما ملئت جوراً. وأخرج عن ابن عمر قال: كنا نتحدث أن الدنيا لا تنقضي حتى يلي رجل من آل عمر يعمل بمثل عمل عمر فكان بلال بن عبد الله بن عمر بوجهه شامة وكانوا يرون أنه هو حتى جاء الله بعمر بن عبد العزيز ، وهكذا نشأ عمر بن عبد العَزيز في المدينةِ المنوَّرة وتخلَّق بأخلاقِ أهلها، بل وصَل الأمر إلى أنّه قيل عنه إنّه من أكثِر الذين يصلون كالنبي عليه الصلاة والسلام، كما أنَّه أخَذَ العِلم من عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وقد قيل عنه أنه معلِّم العلَماء، واتفق المترجمون له أنه من أئمة زمانِه.
أيها المسلمون
فلما مات أبوه أخذه عمه أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان فخلطه بولده، وقدمه على كثير منهم، وزوجه بابنته فاطمة، وكانت له مكانة عند الخلفاء، فكان يقدِّم لهم النُّصح والإرشاد والمشورة الحسنة؛ فقد كان الخليفة عبد الملك يُحبّه كثيراً وتعجبه نباهته وذكائه. وتولّى عمر بن عبد العزيز الولاية على المدينةِ عام ٧٨هـ، حيث إنَّ الخليفة الوليد بن عبد الملك ولّاهُ الإمارة، ثمّ تم انضمام الطائِف إليها ليصبح عمر والياً على الحِجاز جميعها. ثم جاءته الخلافة دون أن يسعى لها وكان كارها لها إذ أوصى له بها سليمان بن عبد الملك بناء على مشورة من العالم الجليل “رجاء بن حيوة الكندي” الذي كان مقرباً من سليمان يأتمنه ويأخذ برأيه. وحين آلت الخلافة إليه لم يسر على نهج سلفه سليمان، ولم يقبل على الدنيا واتخذ من سيرة جده عمر بن الخطاب مثلاً يحتذي به ويسير على هديه، فاعتمد على الفقهاء وقربهم، وجعل للقاضي منزلة ممتازة ومستقلة وكانت الدولة في رأيه لا تصلح إلا بأركانها الأربعة: الوالي، والقاضي، وصاحب بيت المال، والخليفة، وفي هذا يقول: “إن للسلطان أركاناً لا يثبت إلا بها، فالوالي ركن، والقاضي ركن، وصاحب بيت المال ركن، والركن الرابع أنا”. وقد اتصف رضي الله عنه بصفات القائد الرباني، ومن أهم هذه الصفات: إيمانه الراسخ بالله وعظمته، وإيمانه بالمصير والمآل، وخوفه من الله تعالى والعلم الغزير، والثقة بالله، والقدوة، والصدق، والكفاءة والشجاعة والمروءة والزهد، وحب التضحية، والتواضع، وقبول النصيحة، والحلم والصبر، وعلو الهمة، والحزم، والإدارة القوية، والعدل، والقدرة على حل المشكلات، وقدرته على التخطيط والتوجيه والتنظيم والمراقبة،
أيها المسلمون
ومن أخلاقه ،ومواقف ورعه وزهده وعدله : فعندما تولَّى “عمر” الخلافة نَظَرَ في بيت مال المسلمين، ثم نظر إلى ما في يده، ثم نظر إلى ما في يد أمراء بني أُميَّة، فماذا فعل يا تُرى؟ ،بدأ بنفسه، فدعا زوجه فاطمة ابنةَ الخليفة عبدالملك بن مروان، وزوجةَ الخليفة عمر بن عبد العزيز، وأختَ الخلفاء الأربعة: الوليد، وسليمان، ويَزِيد، وهشام، هم خلفاء بحكم الوراثة، فسألها عمر سؤالاً، قال لها: اختاري يا فاطمة، قالت: أيَّ شيءٍ اختار يا أمير المؤمنين؟ قال لها: إما أن تختاري الذهب والجواهر والزُّمُرُّد ومتاع الدنيا، وإما أن تختاري عمر بن عبدالعزيز، نَعَمْ، خَيَّرَها عمر بين نفسه وبين ما تملك من زينة زُفَّتْ بها؛ لأنها بنت الخليفة. فماذا قالت فاطمة؟ هذه السيدة المسلمة التي تربَّت في مدارس الإسلام، ونهلت من مناهل القرآن، قالت بلسان اليقين، ومنطق الحق المبين: والله لا أختار عليك أحدًا يا أمير المؤمنين ، هذا ذهبي، وتلك ثياب زفافي المرصَّعة بالماس والزُّمُرُّد، ثم قالت: إلى أين تريد الذهاب بها يا عمر؟ قال: سأذهب بها إلى بيت مال المسلمين؛ لتكون للفقراء والمساكين! ،ثم انقلب عمر بعد أن بدأ بنفسه إلى بني أُميَّة، فقطع كلَّ صلاتٍ كانوا يأخذونها وأعطياتٍ كانوا يستلمونها، نظر إلى بيت المال، فإذا اسمه بيت مال المسلمين، ليس بيتَ مال عمر، ولا بيت مال الأمراء، ولكن بيت مال المسلمين. فكلُّ مال أُخِذَ من بيت مال المسلمين فدُفِع إلى أمير، قام عليه عمر فردَّه من حيث أُخِذ، واستشاط أمراء بني أُميَّة غضبًا، فأرسلوا إليه ابنَه عبدالملك، فقالوا: يا عبدالملك، إما أن تستأذنَ لنا على أبيك، وإما أن تبلِّغه عنَّا، قال: قولوا، قالوا: أخبِره أنَّ مَن كان قبله من الأمراء يعطوننا أعطيات ويصلوننا بصلاتٍ ، وأنه قد قطعها عنَّا، مُرْهُ فليردَّها علينا، وأَبْلَغَ عبدالملك أباه المقالةَ، فقال: ارْجِع إليهم، فقل لهم: إن أبي يقول: إني أخاف إن عصيتُ ربِّي عذابَ يومٍ عظيم، إني أخاف إن عصيتُ ربِّي عذابَ يوم عظيم. ومن مواقفه رضي الله عنه أنه عاد يومًا إلى داره بعد صلاة العِشاء، ولمح بناته الصغار، فسلَّم عليهنَّ كعادته، وبدلاً من أن يسارعْنَ نحوه بالتحيَّة كعادتهنَّ، رُحْنَ يتبادَرْنَ البابَ ويُغَطِّينَ أفْوَاهَهُنَّ بأَكُفِّهِنَّ، فسأل: ما شأنهُنَّ؟ فأُجِيب بأنه لم يكن لديهِنَّ ما يَتَعَشَّيْنَ به سوى عدس وبصل، فَكَرِهْنَ أن يُشَمَّ مِن أفَوَاهِهِنَّ ريحُ البصل، فتحاشَيْنَه لهذا، فبكى أمير المؤمنين ، وقال يخاطِبُهُنَّ : يا بناتي، ما ينفعُكُنَّ أن تَعِشْنَ الألوان والأطايب، ثم يُذهَبُ بأبيكُنَّ إلى النار. الله أكبر، بنات أمير المؤمنين، لا أقول: أمير العراق، أو أمير مصر، أو أمير الشام، إنما أقول: عمر بن عبدالعزيز الذي وصلتْ خيول الدولة في عهده إلى أبواب باريس غربًا، وإلي الصين شرقًا، ولم يكن لدى بناته ما يَتعَشَّيْنَ به سوى “عدس، وبصل”. بل في يوم من أيام العيد جاءت بناتُ عمر بن عبدالعزيز، وقُلْنَ له: يا أمير المؤمنين، العيد غدًا، وليس عندنا ثياب جديدة نَلْبَسُها – بناته يوم العيد لا يَجِدْنَ ثيابًا يَلْبَسْنَها – فماذا كان ردُّ أمير المؤمنين عليهِنَّ؟ – نظر إليهنَّ، وقال :يا بناتي، ليس العيد من لبس الجديد، إنما العيد لمن خاف يوم الوعيد! ، فقال له وزير ماليته: يا أمير المؤمنين، ما ضرَّ لو صرفنا لك راتبَ شهرٍ مُقَدَّمًا، فنظر إليه عمر نظرةَ غضبٍ، تكاد من شدة غضبها أن تهتكَ حِجاب الشمس، وقال له: ثكلتك أُمُّك، هل اطلعت على علم الغيب، فوجدتني سأعيش يومًا واحدًا بعد الآن، قالت زوجته فاطمة : دخلتُ يوماً عليه وهو جالس في مصلاه واضعاً خدَّه على يده ، ودموعه تسيل على خديه ، فقلت : مالك ؟ فقال : ويحك يا فاطمة ، قد وليت من أمر هذه الأمة ما وليت، فتفكرت في الفقير الجائع ، والمريض الضائع ، والعاري المجهود ، واليتيم المكسور ، والأرملة الوحيدة ، والمظلوم المقهور ، والغريب والأسير ، والشيخ الكبير، وذي العيال الكثير ، والمال القليل ، وأشباههم في أقطار الأرض وأطراف البلاد ، فعلمت أن ربي عز وجل سيسألني عنهم يوم القيامة ، وأن خصمي دونهم محمدا صلى الله عليه وسلم ، فخشيت أن لا يثبت لي حجة عند خصومته ، فرحمتُ نفسي ، فبكيت . قالوا : ولم يكن له سوى قميص واحد ، فكان إذا غسلوه جلس في المنزل حتى ييبس ، وقد وقف مرة على راهب فقال له : ويحك عظني ، فقال له : عليك بقول الشاعر : تجرد من الدنيا فإنك إنما * خرجتَ إلى الدنيا وأنت مجرد
قال : وكان يعجبه ، ويكرره ، وعمل به حق العمل . وقالوا : ودخل على امرأته يوما فسألها أن تقرضه درهماً ، أو فلوساً يشتري له بها عِنَباً ، فلم يجد عندها شيئاً ، فقالت له : أنت أمير المؤمنين وليس في خزانتك ما تشتري به عنباً ؟ فقال : هذا أيسر من معالجة الأغلال ، والأنكال ، غداً ، في نار جهنم . وقالت امرأته فاطمة : ما رأيتُ أحدا أكثر صلاة وصياما منه، ولا أحد أشد فرقا من ربه منه، كان يصلي العشاء ثم يجلس يبكي حتى تغلبه عيناه ، ثم ينتبه ، فلا يزال يبكي حتى تغلبه عيناه ، قالت : ولقد كان يكون معي في الفراش فيذكر الشيء من أمر الآخرة فينتفض كما ينتفض العصفور في الماء ، ويجلس يبكي ، فأطرح عليه اللحاف رحمة له ، وأنا أقول : يا ليت كان بيننا وبين الخلافة بعد المشرقين ، فوالله ما رأينا سروراً منذ دخلنا فيها . وقال علي بن زيد : ما رأيت رجلين كأن النار لم تخلق إلا لهما مثل الحسن وعمر بن عبد العزيز . ويقتحم ذات يوم رجلٌ من عامة الناس مجلسَ أمير المؤمنين عمر بن عبدالعزيز، ويتهجَّم على أمير المؤمنين بكلمات تثير غيظ الحليم، فقال عمر لهذا الرجل: لعلَّك أردتَ أن يستفزني الشيطان بعزَّة السلطان، فأنال منك اليوم ما تتقاضاه منِّي غدًا عند الله، ولكن قُمْ، عفا الله عنك! وقال مالك بن دينار – رحمه الله -: لما وَلِيَ عمر، قالت رُعاة الشاة في ذروة الجبال: من هذا الخليفة الصالح الذي قد قام على الناس؟ فقيل لهم: وما علمكم بذلك؟ قالوا: إنا إذا قام على الناس خليفة صالح، كَفَّت الذئاب والأُسْد عن شِيَاتِنا. وقال حسن القصار – رحمه الله -: كنت أحلب الغنمَ في خلافة عمر، فمررت براعٍ وفي غنمه نحو من ثلاثين ذئبًا حسبتهم كلابًا، ولم أكن رأيتُ الذئابَ من قبل، فقلت: يا راعي، ما ترجو بكل هذه الكلاب؟ فقال: يا بُني، إنها ليست كلابًا، وإنما هي ذئاب، يا بُني، إذا صلح الرأس، فليس على الجسد بأس.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( أمير المؤمنين : عمر بن عبد العزيز )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
إن عمر بن عبد العزيز شخصية إسلامية تاريخية نالت حظها من حب الله وحب الناس جميعا وما ذلك إلا لما تميزت به هذه الشخصية من صفات نادرة صارت مضرب المثل ، ومن أهم هذه الصفات هو العدل الذي ملأ به الأرض ، ورد المظالم إلى أهلها حتى أنهم ليقولون: إن الشياه والذئاب والوحوش كانت ترعى في مكان واحد فلا تعتدي الوحوش على الشياه ولا تقربها . وكان عصره عصراً مميَّزاً عن العصور التي بعده , وكانت سيرته أشبه بسيرة الخلفاء الراشدين ، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى عصره , وأثنى عليه ، فعَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ قَالَ : سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ سَمُرَةَ يَقُولُ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : ( لاَ يَزَالُ الإِسْلاَمُ عَزِيزاً إِلَى اثْنَيْ عَشَرَ خَلِيفَةً ) ثُمَّ قَالَ كَلِمَةً لَمْ أَفْهَمْهَا ، فَقُلْتُ لأَبِي : مَا قَالَ ؟ فَقَالَ : ( كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ ) . ومن أهم تلك الصفات التي تميزت بها تلك الشخصية أيضا: هي الزهد والخشية من الله ، وتقواه وترك الدنيا بزخارفها وزينتها . قال مالك بن دينار : الناس يقولون: مالك زاهد ، إنما الزاهد عمر بن عبد العزيز الذي أتته الدنيا فتركها . وقد استحق أن يطلق عليه لقب: خامس الخلفاء الراشدين . فقد روى أبو عبيدة السري بن يحيى بن أخي هناد بن السري قال: سمعت قبيصة بن عقبة يقول: سفيان الثوري يقول: الخلفاء خمسة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهم . وقال حرملة : سمعت الشافعي يقول: الخلفاء خمسة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعمر بن عبد العزيز . ولقد استقام الناس في عهده ولزموا جادة الطريق ، والناس على دين ملوكهم ، فقد كان العامة في زمن الوليد وسليمان يسأل بعضهم بعضا عن المغنيات والقيان والتشييد والبنيان ، أما في زمن عمر بن عبد العزيز فقد كان يسأل بعضهم بعضا عن القرآن وحفظه وتلاوته وورده . وقد عدَّ كثير من العلماء عمرَ بن عبد العزيز رحمه الله من مجددي هذا الدين ، فعنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا ) .رواه أبو داود وصححه الألباني ،ويقال : إنه خطب الناس فقال في خطبته : أيها الناس ، إن لي نفساً تواقة لا تُعطَى شيئا إلا تاقت إلى ما هو أعلى منه ، وإني لما أعطيت الخلافة تاقت نفسي إلى ما هو أعلى منها ، وهي الجنة ، فأعينوني عليها ، يرحمكم الله . ثم قال : أيها الناس ! إنه لا كتاب بعد القرآن ، ولا نبي بعد محمد عليه السلام ، وإني لست بقاضٍ ولكني منفِّذ ، وإني لست بمبتدع ولكني متبع ، إن الرجل الهارب من الإمام الظالم ليس بظالم ، ألا إن الإمام الظالم هو العاصي ، ألا لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق عز وجل . وقال: وإني لست بخير من أحد منكم ، ولكنني أثقلكم حِملاً ، ألا لا طاعة لمخلوق في معصية الله ، ألا هل أَسْمعتُ ؟ . وكان يختار ولاته بعد تدقيق شديد، ومعرفة كاملة بأخلاقهم وقدراتهم؛ فلا يلي عنده منصبًا إلا من رجحت كفته كفاءة وعلمًا وإيمانًا، وكان عمر لا يكتفي بحسن الاختيار بعد دراسة وتجربة، بل كان يتابع ويراقب، لكن مراقبته لم تكن مراقبة المتهم، بل كان يراقب تطبيق السياسة العامة التي وضعها للدولة. وإذا كان قد أخذ نفسه بالشدة والحياة الخشنة، فإنه لم يلزم بها ولاته، بل وسّع عليهم في العطاء، وفرض لهم رواتب جيدة تحميهم من الانشغال بطلب الرزق، وتصرفهم عن الانشغال بأحوال المسلمين، كما منعهم من الاشتغال بالتجارة، وأعطى لهم الحرية في إدارة شئون ولاتهم؛ فلا يشاورونه إلا في الأمور العظيمة، وكان يظهر ضيقه من الولاة إذا استوضحوه في الأمور الصغيرة.. كتب إليه أحد ولاته يستوضح منه أمرًا لا يحتاج إلى قرار من الخليفة، فضاق منه عمر، وكتب إليه: “أما بعد، فأراك لو أرسلتُ إليك أن اذبح شاة، ووزِّع لحمها على الفقراء، لأرسلت إلي تسألني: كبيرة أم صغيرة؟ فإن أجبتك أرسلت تسأل: بيضاء أم سوداء؟ إذا أرسلت إليك بأمر، فتبيَّن وجه الحق منه، ثم أمْضِه”.
أيها المسلمون
ومن الدروس المستفادة من حياة عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-: فإن من خلال ما سبق من سيرته نستفيد الآتي: زهده وتخليه عن مظاهر الدنيا البراقة : فقد كان يحمل بين جوانبه نفساً تواقة للمعالي وكأنه يتمثل بيت الشاعر أبي الطيب المتنبي: وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام … القدوة : حيث ضرب من نفسه مثالاً رائعاً في الزهد والورع ومحاسبة النفس والأهل والعشيرة وإقامة الشرع على نفسه ومن حوله…. ترتيب الأولويات: فقد قدم رد المظالم على غيرها من الأعمال، ولهذا انتهج سياسة واضحة في رد المظالم، بدأ بنفسه، ثم أهله وعشيرته، وعزل الولاة الظلمة وعين الأخيار من أهل الكفاءة والأمانة والعلم، لإقامة العدل وتطبيق الشرع.. الخ. … وضوح الرؤية في الخطوات الإصلاحية : حيث جدّد مفهوم الشورى وبيعة الحاكم وحق الأمة في الاختيار، عمل على توكيل الأمناء على الولايات، ونشره للعدل في كافة الدولة، إحياؤه للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حرصه على سلامة معتقد الأمة الصحيح ومحاربته للمعتقدات الفاسدة، واهتمامه بالعلماء وتوظيفه لخدمة الإسلام من خلال الدعوة والعلم والتعليم والتزكية،.
أيها المسلمون
ونأتي إلى الخاتمة ، إلى لحظات الرحيل وفراق الدنيا الفانية إلى الدار الباقية ، فقد كانت خلافة عمر كالنسيم العاطر، تنسم المسلمون هواءه الطيب ورائحته الزكية، فلم تطل حياة هذا الخليفة العظيم الذي أُطلق عليه “خامس الخلفاء الراشدين”، فتوفي وهو دون الأربعين من عمره، قضى منها سنتين وبضعة أشهر في منصب الخلافة، ولقي ربه في (24 رجب 101هـ =6 من فبراير720م). وعندما وصل نبأُ موتِ الخليفة “عمر بن عبدالعزيز – رضي الله عنه – إلى إمبراطور الروم الذي كان خَصمًا عنيدًا لدولة الإسلام، بكى بكاءً شديدًا أذهل حاشيته، فسألوه عن ذلك، فأجابهم بكلمات تُعتبر من أصدق وأجمع ما قِيل في تأبين الخليفة أمير المؤمنين – رضي الله عنه – حيث قال: ماتَ والله رجلٌ عادلٌ، ليس لعدله مثيلٌ، وليس ينبغي أنْ يَعجبَ الناس لراهبٍ ترك الدنيا؛ ليعبدَ الله في صومعته، إنما العجبُ لهذا الذي أتته الدنيا حتى أناختْ عند قدمه، فأعرض عنها. فما رأيكم – أيها الناس – برجل يبكيه أعدى أعدائه؟! ويحكى أنه لما حضرته الوفاة، ذهب بعض الأصحاب ليعودوه، وكان عمر قد ترك من الأولاد خمسة عشر ولدًا، فقالوا له وهو يعالجُ سكرات الموت: ماذا تركت لأولادك يا أمير المؤمنين؟ وإذا بأمير المؤمنين يجيب بكلمة واحدة: تركت لهم تقوى الله!
قالوا :كيف يا أمير المؤمنين؟! فيقول أمير المؤمنين: إن كانوا صالحين، فالله يتولَّى الصالحين، وإن كانوا غير ذلك، فلن أترك لهم شيئًا يستعينون به على معصية الله. ولما اقتربت لحظات الرحيل ، فإذا بعمر يصدر الأمر إلى زائريه بالانصراف فورًا؛ ليتركوه وحدَه على فراش الموت، وتدخل عليه فاطمة الوفيَّة، الأمينة، الزاهدة، بنت الخلافة، ولكنها رَمَتِ الدنيا كلَّها وراء ظهرها، تدخل عليه وهو في السكرات، فيقول لها: يا فاطمة، اخرجي الآن؛ فإنني أرى خَلْقًا يزاحمون عليَّ مكاني هذا، أرى خَلْقًا غريبًا ذوي أجنحة لم أرهم قبل الآن، اخرجي يا فاطمة، اخرجي يا فاطمة،
فآن للغريب أن يرى حماه، وآنَ للغريب أن يرى رباه، آن للغريب أن يعودَ إلى دار البقاء، اخرجي يا فاطمة؛ إن هناك أجسامًا نورانيَّة ذوي أجنحة؛ مثني، وثُلاث، ورُباع، اخرجي يا فاطمة، فإن الرُّوح تُزَف؛ لأنها ستصل إلى خالقها الأعظم، ستكون في ضيافة الرحمن؛ ﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي ﴾ [الفجر:27 -30]. وكأن عمر وهو في ساعة الاحتضار كان يرتِّل آيةً واحدة في كتاب الله، ختم بها سِجِلَّ حياته، هذه الآية هي قوله – تعالي -: ﴿ تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [القصص: 83].
الدعاء