خطبة عن (موقف المسلم من الفتن)
يناير 7, 2025خطبة عن (أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ)
يناير 9, 2025الخطبة الأولى (أنتَ على ثَغْرَةٍ فلا يؤتى الإسلام من قبلك)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) المائدة :3، وفي صحيح البخاري: (عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّ رَجُلاً مِنَ الْيَهُودِ قَالَ لَهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، آيَةٌ فِي كِتَابِكُمْ تَقْرَءُونَهَا لَوْ عَلَيْنَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ نَزَلَتْ لاَتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا. قَالَ أَيُّ آيَةٍ قَالَ (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا). قَالَ عُمَرُ قَدْ عَرَفْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ وَالْمَكَانَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ قَائِمٌ بِعَرَفَةَ يَوْمَ جُمُعَةٍ)
إخوة الإسلام
جاء في الأثر: أن الإمام الأوزاعي قال: (أنتَ على ثَغْرَةٍ من ثُغَرِ الإسلامِ، فلا يُؤْتَيَنَّ الاسلام مِن قِبَلِكَ)، فكل رجل من المسلمين هو على ثغرة من ثغر الإسلام، وأن حمى الإسلام وثغوره تحتاج إلى حراسة، لا سيما وقد تكالبت عليهم الأعداء من كل الملل والنحل، ومن كل حدب وصوب، ويقوم بحراسة حمى الإسلام وثغوره كل مسلم ومسلمة في موقعه، يقوم بعمل يخدم به الاسلام، فالحفاظ على الاسلام وتبليغه، والعمل على رفعته، هي مسؤولية الجميع، وأمانة منوطة في أعناق كل فرد مسلم، والله أمرنا أن نحمل الكتاب ونأخذه بقوة، قال تعالى: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:63]،
نعم: أنتَ على ثَغْرَةٍ من ثُغَرِ الإسلامِ، فلا يُؤْتَيَنَّ مِن قِبَلِكَ: إنها قضية العامة من الناس، للإحساس بأن الأمة في خطر، وفي أزمة ضعف الإيمان، وتدهوره من قبل أبنائه، فنتج عن ذلك أن تدافعت عليهم الأعداء، وتسلط عليهم السفلة من الناس، كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في سنن أبي داود: (عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «يُوشِكُ الأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا». فَقَالَ قَائِلٌ وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ قَالَ «بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ وَلَيَنْزِعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهَنَ». فَقَالَ قَائِلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهَنُ قَالَ «حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ».
فاعلم أخي وأختي أنك على ثغرٍ مِن ثغور الإسلام، مهما كان دورك الذي تؤديه نحو دينك ودعوتك، فاحذر أن يٌؤتى الإسلام مِن قِبَلك، وكن دائمًا مدافعًا عن دينك، وهذا الدفاع يكون بثباتك على منهجك، ثم بأداء ما تٌكلف به، ولا تحقرن هذا الدور، فربما لو تكاسلت أو تهاونت فيه يُؤتى الإسلام مِن قِبَلك، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لفصيلة الرماة التي اختارها يوم “أُحد”: (احْمُوا ظُهُورَنَا، فَإِنْ رَأَيْتُمُونَا نُقْتَلُ فلَا تَنْصُرُونَا، وَإِنْ رَأَيْتُمُونَا قَدْ غَنِمْنَا فلَا تَشْرُكُونَا) (رواه أحمد)، وفي رواية: (إِنْ رَأَيْتُمُونَا تَخْطَفُنَا الطَّيْرُ فَلاَ تَبْرَحُوا مَكَانَكُمْ، هَذَا حَتَّى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ، وَإِنْ رَأَيْتُمُونَا هَزَمْنَا القَوْمَ وَأَوْطَأْنَاهُمْ، فَلاَ تَبْرَحُوا حَتَّى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ) (رواه البخاري). وقال كذلك لقائدهم عبد الله بن جبير بن النعمان الأنصاري: (انْضَحِ الْخَيْلَ عَنَّا بِالنَّبْلِ لا يَأْتُونَا مِنْ خَلْفِنَا، إِنْ كَانَتْ لَنَا أَوْ عَلَيْنَا فَاثْبُتْ مَكَانَكَ، لا نُؤْتَيَنَّ مِنْ قِبَلِكَ) (رواه ابن إسحاق في السيرة النبوية)، وفي سنن أبي داود: (حَدَّثَ سَهْلُ ابْنُ الْحَنْظَلِيَّةِ أَنَّهُمْ سَارُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ حُنَيْنٍ فَأَطْنَبُوا السَّيْرَ حَتَّى كَانَتْ عَشِيَّةً فَحَضَرْتُ الصَّلاَةَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَجَاءَ رَجُلٌ فَارِسٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي انْطَلَقْتُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ حَتَّى طَلَعْتُ جَبَلَ كَذَا وَكَذَا فَإِذَا أَنَا بِهَوَازِنَ عَلَى بَكْرَةِ آبَائِهِمْ بِظُعُنِهِمْ وَنَعَمِهِمْ وَشَائِهِمُ اجْتَمَعُوا إِلَى حُنَيْنٍ. فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَقَالَ: «تِلْكَ غَنِيمَةُ الْمُسْلِمِينَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ». ثُمَّ قَالَ: «مَنْ يَحْرُسُنَا اللَّيْلَةَ». قَالَ أَنَسُ بْنُ أَبِى مَرْثَدٍ الْغَنَوِىُّ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: «فَارْكَبْ». فَرَكِبَ فَرَسًا لَهُ فَجَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- : «اسْتَقْبِلْ هَذَا الشِّعْبَ حَتَّى تَكُونَ فِي أَعْلاَهُ وَلاَ نُغَرَّنَّ مِنْ قِبَلِكَ اللَّيْلَةَ». فَلَمَّا أَصْبَحْنَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى مُصَلاَّهُ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ: «هَلْ أَحْسَسْتُمْ فَارِسَكُمْ». قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَحْسَسْنَاهُ. فَثُوِّبَ بِالصَّلاَةِ فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي وَهُوَ يَلْتَفِتُ إِلَى الشِّعْبِ حَتَّى إِذَا قَضَى صَلاَتَهُ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَبْشِرُوا فَقَدْ جَاءَكُمْ فَارِسُكُمْ». فَجَعَلْنَا نَنْظُرُ إِلَى خِلاَلِ الشَّجَرِ فِي الشِّعْبِ فَإِذَا هُوَ قَدْ جَاءَ حَتَّى وَقَفَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنِّي انْطَلَقْتُ حَتَّى كُنْتُ فِي أَعْلَى هَذَا الشِّعْبِ حَيْثُ أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَلَمَّا أَصْبَحْتُ اطَّلَعْتُ الشِّعْبَيْنِ كِلَيْهِمَا فَنَظَرْتُ فَلَمْ أَرَ أَحَدًا. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- : «هَلْ نَزَلْتَ اللَّيْلَةَ». قَالَ: لاَ إِلاَّ مُصَلِّيًا أَوْ قَاضِيًا حَاجَةً. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- : «قَدْ أَوْجَبْتَ فَلاَ عَلَيْكَ أَنْ لاَ تَعْمَلَ بَعْدَهَا». فالله الله أن يؤتى الإسلام من قبلك، فكن حارسا أمينا ومخلصا.
(أنتَ على ثَغْرَةٍ من ثُغَرِ الإسلامِ، فلا يُؤْتَيَنَّ مِن قِبَلِكَ): إنها كلمة تهز كيان المسلم كلما سمعها، وتحرك مشاعره كلما فكر فيها، كلمة لو اتخذناها شعارا في حياتنا لعادت لهذه الأمة أمجادها، ولو وضعها كل شاب وفتاة أمامهما، لأصبحت أمتنا -والله- أفضل الأمم، فالدفاع عن ثغور الاسلام ليس مقصورا على فئة معينة، أو جماعة من الجماعات، بل هو خطاب موجه لكل فرد من المسلمين يقوم بعمل ما، فكأنه يخاطب العالِم في محرابه، والطبيب في عيادته، والمعلم في صفه، والقائد في معسكره، والعامل في عمله، بأن يؤدي كل واحد من هؤلاء عمله على الوجه الأكمل، ليعطي أفضل صورة عن الإسلام وأخلاقه، من خلال عمله الذي يقوم به، فيكون داعية إلى الإسلام بحاله قبل مقاله،
وهناك حق إسلامي، وواجب شرعي، ضيعه الكثيرون، حتى عاد حالنا في المنتديات، وفي الأسواق والمجالس، وفي كل مكان، حال خزي وعار، وصار أمر الإسلام في أعين من يدعيه أمراَ هيناَ، حيث يتخاذل عن الدفاع عن الإسلام، ومهاجمة أعدائه، رغم كثرة ما يسمع من الشبه التي تلقى في المجالس، والاتهامات الباطلة لدين الله عز وجل، ورغم كل ذلك، لا تتحرك فيهم الحمية لدين الله، ولا يقومون بالذب عن هذه الشريعة الغراء، وإن هذا لتقصير كبير وإثم عظيم.
أيها المسلمون
(أنتَ على ثَغْرَةٍ من ثُغَرِ الإسلامِ، فلا يُؤْتَيَنَّ مِن قِبَلِكَ): فالناس لا ينفِّرُهم من الإسلام شيء مثل أن يروا مسلما يكثر من الصلاة والصيام والأدعية والأوراد، ولكنه يسيء إلى الناس بمعاملته، وبيعه وشرائه وقضائه، فأنت حينما تسيء إلى الناس لا تسيء إلى نفسك فحسب، بل إلى الإسلام والمسلمين، فسلوك المؤمن وتصرفاته موضوعة تحت العدسات المكبرة، والأضواء مسلطة على حركاته وسكناته، ولا يحلو للناس شيء كتفحص سلوك غيرهم، ومراقبة أعمالهم، ومحاسبتهم على كل صغيرة وكبيرة، فهل تحب يا أخي أن تسيء إلى دينك وإسلامك وإلى نبيك، إذا كنت لا تحب ذلك فتذكر قول العلماء: (كل رجل من المسلمين على ثغرة من ثغر الإسلام، الله الله لا يؤتى الإسلام من قبلك). فأنت حينما تسيء إلى الناس، تسيء لهدم الدين من حيث لا تشعر، لأن النفوس جبلت على حب من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها، فحاسب نفسك قبل أن تحاسب، وزن أعمالك قبل أن توزن عليك.
(أنتَ على ثَغْرَةٍ من ثُغَرِ الإسلامِ، فلا يُؤْتَيَنَّ مِن قِبَلِكَ): فكل مسلم على وجه الأرض هو عضو في جماعة كبيرة هي (الإسلام)، وكل منا على ثغر من ثغور الإسلام، وهذا الثغر متمثل في ذاتية الشخص، وقضيته الفردية التي يحملها بين كتفيه، وسيلقى بها ربه تعالى، هي أمانة التكليف، وأمانة الرسالة، التي أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أننا كلنا بها مبعوثين، ولو نجح كل منا في حمل الأمانة، وتطبيق الرسالة وبلاغها، لحافظ على الثغر، ونال الكرامة في الدارين، وصار دعوة وقدوة عملية بالسلوك والعمل،
(أنتَ على ثَغْرَةٍ من ثُغَرِ الإسلامِ، فلا يُؤْتَيَنَّ مِن قِبَلِكَ): إن صدق انتمائنا لديننا ووطننا، ينبثق من التحلي بروح المسؤولية، التي يتحقق من خلالها غاية وجود الإنسان على الأرض، حيث قال الله سبحانه: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30]. فهدف الاستخلاف: هو تحقيق عبادة الله، التي تتحقق من خلال بناء الوطن، وعمارة الأرض، قال الله سبحانه: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود:61]. وفي صحيح مسلم: (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ»،
أيها المسلمون
(أنتَ على ثَغْرَةٍ من ثُغَرِ الإسلامِ، فلا يُؤْتَيَنَّ مِن قِبَلِكَ): وسُبُلُ تحقيق ذلك متعدّدة: ومنها: الجهاد بالسيف، والدعوة إلى الله تعالى، ونشر العلم بتأسيس المدارس، وتأليف الكتب، ومنها: مباشرة السياسة للدفاع عن الاسلام والمسلمين من موقع النفوذ، ومنها: الجمعيات الخيرية التي تنفق على الفقراء والمساكين والأرامل والأيتام، ومنها: إنشاء الكتاتيب لتحفيظ القرآن، ومنها: الوعاظ والناصحون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى غير ذلك، وكلهم مساهم من جهته في الدفاع عن هذا الدين، وبما أن الفرد أو الجماعة الواحدة لا تستطيع أن تفعل ذلك كله بنفسها، فكل مسلم في أي بلاد، إذا قام بشيء من ذلك، فهو خادم للدين وللمسلمين من موقعه، وإذا تخلى واحد منهم عن مهمته الجزئية، فقد تخلى عن كل المسلمين، ونشبه ذلك بحدود الدولة التي يرابط فيها الجنود لحمايتها من جهاتها الأربعة، فلا تستغني جهة عن الأخرى، فلو تراجعت فئة سيدخل العدو من جهاتها، ويستبيح بذلك الجميع، قال الله تعالى:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103]
(أنتَ على ثَغْرَةٍ من ثُغَرِ الإسلامِ، فلا يُؤْتَيَنَّ مِن قِبَلِكَ): فالزم ثغرك، واعلم أنكَ لن تجدَ واقعاً أشدَّ فساداً من الواقع الذي نُبِّئ فيه الأنبياءُ، وأُرسِلَ فيه الرُّسُل؛ ولولا شِدَّةُ فسادِه ما أُرسِلُوا ،ولستَ أكرمَ على الله من رُسُلِه ليُصلِحَ لك- دون سَعيٍ منك- واقعاً لم يُصلِحْهُ لهم، وقد أكرمكَ اللهُ بإيجادك في واقعٍ شبيهٍ بواقعهم، لتصلحهُ كما أصلحوه؛ فإن لم تكن منهم، فَسِرْ على آثارهم تكن معهم، ولا تنتظر في حياتك ثمرةَ سيرك؛ فموسى مات في التيه، وعيسى رُفع في الفتنة، ومحمدٌ- عليه وعلى أنبياء الله ورسله الصلاة والسلام- ارتدَّ أعرابُ جزيرته بعد موته، ولو وضعَ أبو بكر رضي الله عنه يَده على خَدِّهِ ويئس- حين انتقض عليه أعرابُ الجزيرة- ما وصلكَ مما وصلكَ من الدين شيء، حسبك أن تؤذِّنَ كما أذَّنَ إبراهيم، ومَا عَسى يبلغُ صوتُ إبراهيم، إنما عليكَ الأذانُ وعلى الله البلاغ، ولكلِ ثغرٍ أذانُه، وكُلُّ الثغورِ شاغرة؛ فإن وجدتَ ثغركَ فالزمه- وذلكَ عبادتُك- وحَسْبُكَ ألا يراكَ اللهُ إلا على ثَغرٍ، أو باحثاً عن ثغر.
أيها المسلمون
(أنتَ على ثَغْرَةٍ من ثُغَرِ الإسلامِ، فلا يُؤْتَيَنَّ مِن قِبَلِكَ): إن ملكات الناس تتفاوت، وقدراتهم تتنوع، ومناقبهم تتباين، وكل ميسر لما خلق له، ورحى المعركة تدور دون توقف، وأقدار الله تمضي بحكمة بالغة، وتدبير محكم، وأبواب الجهاد والإسناد مشرعة لمن أراد، وقد يحتقر المرء نفسه، ويزدري قدرته، وذلك من تلبيس إبليس وضلالات النفس، ولو تأملت ذاتك بصدق، وفحصت قدراتك بموضوعية، لعلمت أنك قد أوتيت حظًا صالحا من الخير، ونصيبًا مقدرًا من العطاء، والعاقل من اهتبل السوانح، وسارع إلى الخيرات، فبينما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعبئ الجيش قبيل معركة بدر، رأى سواد بن غزية واقفًا في غير موضعه، فوكزه بعود كان في يده وقال له: استقم يا سواد، والاستقامة اليوم: أن تكون في موضعك الصحيح ،دون تبديد للجهود، فالمعركة طويلة الأمد، وينبغي أن لا تتحول مع توالي الأيام.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (أنتَ على ثَغْرَةٍ فلا يؤتى الإسلام من قبلك)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
(أنتَ على ثَغْرَةٍ من ثُغَرِ الإسلامِ، فلا يُؤْتَيَنَّ مِن قِبَلِكَ): والثغور التي تحتاج إلى من يسدّها كثيرة ومتعددة: ويأتي في مقدمتها الثغر الفكري، وهذا الثغر يحتاج إلى من يسده من العلماء والمفكرين والدعاة، وذلك بنشر القيم والمفاهيم الإسلامية الصحيحة، ومواجهة الغزو الفكري الذي يأتينا من الخارج، ومن الداخل أيضًا، فهناك من بني جلدتنا من يتبنّى المفاهيم الغربية، ويعمل جاهدًا على نشرها في المجتمعات العربية والإسلامية، ويفضلها على المفاهيم والقيم الإسلامية، ويزعم أن تبنّي المفاهيم والقيم الغربية هو الطريق الوحيد للنهوض. ومن الثغور التي ينبغي أن نعتني بسدها: ثغر التعليم والبحث العلمي، وذلك بالاهتمام بالتعليم في جميع مراحله، وتشجيع البحث العلمي، وتوفير الدعم اللازم له، وتشجيع الباحثين على إجراء بحوث تطبيقية، تُسهم في حل المشكلات الكثيرة التي تعاني منها المجتمعات العربية والإسلامية، ومن الثغور التي تحتاج إلى من يسدها: الثغر الاقتصادي، وسد هذا الثغر يقع على كاهل رجال الفكر الاقتصادي، بإجراء الدراسات والبحوث في مجال الاقتصاد الإسلامي، ويقع على كاهل رجال الأعمال وأصحاب الأموال والشركات بالابتعاد عن الربا، وتجنب التعامل مع البنوك الربوية، واستثمار أموالهم في الدول العربية والإسلامية، وفي القطاعات الإنتاجية الزراعية والصناعية، وذلك من أجل تحقيق الاكتفاء الذاتي من السلع الضرورية، وترك الاعتماد على الآخرين في استيراد ما نأكل وما نلبس وما نركب. ومن الثغور التي يجب أن نوليها قدرًا كبيرًا من الاهتمام: الثغر التقني والصناعي، وبخاصة صناعة الأدوية والأسلحة، لأننا تخلفنا في هذا المضمار، وسبقنا فيه الآخرون بمراحل طويلة، وسد هذا الثغر يتطلب إعداد كوادر مؤهلة للعمل في القطاع الصناعي، وهذا الأمر يمكن تحقيقه بالدراسة العملية، والتدريب الجيد وتشجيع الشباب على الابتكار والاستفادة من الخبرات الأجنبية، والعمل على توطين التكنولوجيا، وعدم الاكتفاء بنقلها. ومن الثغور المهمة والحديثة التي يجب العمل على سدها: ثغر برامج الحماية الإلكترونية، وسد هذا الثغر يتحقق بتأهيل الكوادر في مجال تقنية المعلومات، وبتشجيع ودعم شركات البرمجة العربية، وحثها على تطوير برامج الحماية.
أيها المسلمون
(أنتَ على ثَغْرَةٍ من ثُغَرِ الإسلامِ، فلا يُؤْتَيَنَّ مِن قِبَلِكَ): فأيتها الأخت المسلمة: أنتِ على ثغرةٍ من ثغرات الإسلام، فالله الله أن يؤتى الإسلام من قبلكِ، فمفهوم سد الثغرة في حياة المرأة المسلمة اليوم يكاد أن يكون مفقوداً؛ نظراً لأن كثيراً من النساء وقعن في اللهو، وانصرفن عما أمر الله به، فبدلاً من أن تعيش لهذا الدين، وتقوم بما أمرها الله سبحانه وتعالى به من عبادته، والدعوة إليه، وتربية الأولاد، وإنكار المنكر، والدعوة إلى الله، وتعليم الأخريات العلم الشرعي، نجد بدلاً من هذا كله انصرافاً إلى مباهج الحياة الدنيا وملذاتها.. إلى الثياب.. والحفلات.. والسهرات.. والأسواق.. والسفريات.. ونحو ذلك، فصار هناك خللٌ كبير في هذه الحياة التي نعيشها اليوم، بسبب انصراف المرأة عن المهمة والواجب المطلوب. فالمرأة في ثغرة الأمومة لها دورٌ عظيم.. والمرأة في ثغرة الحياة الزوجية عليها واجب كبير.. والمرأة في ثغرة التعليم والدعوة عليها مسئوليات جسام.. والمرأة في العمل طباً وتمريضاً وتدريساً ونحو ذلك تواجه مشكلاتٍ متعددة، والمرأة في الأعمال الخيرية أدوار مفقودة، والمرأة في التبليغ عن المنكرات ومحاربة الفساد ثغرة عظيمة تحتاج إلى القيام بالمسئولية. فأنت يا أيتها المرأة المسلمة تعلمين أن المسئولية ستسألين عنها أمام الله سبحانه وتعالى
(أنتَ على ثَغْرَةٍ من ثُغَرِ الإسلامِ، فلا يُؤْتَيَنَّ مِن قِبَلِكَ): وسد الثغور يتطلب صفتين رئيسيتين هما: الأمانة والإحسان في أداء العمل، فكل فرد من أفراد الأمة مطالب بأن يؤدي العمل أو الأعمال الموكلة إليه بأمانة، وأن يؤديها بإحسان وإتقان، وهاتان الصفتان من الصفات التي حرص الإسلام على غرسها في نفوس المسلمين، فالأمانة قرينة الإيمان، ففي صحيح ابن حبان: (عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: خَطَبَنَا رَسُول اللَّهِ، فقال في الخُطْبة: «لا إيمانَ لِمَن لا أَمَانَةَ لَهُ، وَلا دِينَ لِمَنْ لا عَهْدَ لَهُ». والإحسان مطلوب في جميع الأمور، ففي صحيح مسلم: (عن شدَّاد بن أوس رضي الله عنه، قال: ثِنْتَانِ حَفِظْتُهُمَا عَنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ: «إنَّ اللّهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ. فَإذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ. وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ. وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ. فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ». وفي الصحيح الجامع: (عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ الله يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلاً أَنْ يُتْقِنَهُ». وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«مَنْ لاَ يَهْتَمُّ بِأَمْرِ الْمُسْلِمِينَ فَلَيْسَ مِنْهُمْ، وَمَنْ لَمْ يُصْبِـحْ وَيُمْسِ نَاصِحاً لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، وَلِكِتَابِهِ، وَلإمَامِهِ، وَلِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَلَيْسَ مِنْهُمْ». (الترغيب والترهيب).
الدعاء