خطبة عن (الأَبْرَص وَالأَقْرَع وَالأَعْمَى)
أغسطس 8, 2023خطبة عن (إياك وذنوب الخلوات)
أغسطس 9, 2023الخطبة الأولى (أنواع النفوس)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (7): (10) الشمس، وقال تعالى: (لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) (1)، (2) القيامة، وقال تعالى: (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي) يوسف (53)، وقال تعالى: (يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي) (27): (30) الفجر
إخوة الاسلام
لقد قرر العلماء أن النفس واحدة، ولكن لها صفات، وتسمى كل نفس (باسم) باعتبار كل صفة، والنفوس تتوارد عليها أحوال: فأحيانًا ترتقي فتكون في أعلى مراتب الارتقاء، وأحيانًا تتردى فتصل إلى أدنى مراتب التردي، فهي تعلو أحيانًا وتقوى، وأحيانًا تكبو وتضعف، وأحيانًا تسود وتقود، وهكذا، فهي أحوال تعتري كل نفس على تفاوت في غلبة حال منها أو آخر، واستقرار النفس على حال من تلك الأحوال لا يلغي طروء الأحوال الأخرى، ويشتق لها الاسم من الحالة الغالبة عليها في لحظة من اللحظات، أو فترة من الفترات، فيُقال نفس أمَّارة، أو لوَّامة، أو مطمئنة. ومن الجدير بالذكر أن أحوال النفس تتَّسِم بالاستقرار النسبي، الأمر الذي يسمح بتزكيتها وارتدادها من جهة أخرى، فالإيمان يزيد وينقص، وقد يصبح الإنسان مؤمنًا، ويمسي كافرًا، فالنفس الإنسانية تتأثر بالتربية وظروف البيئة،
وبناء على ذلك فقد ذكر العلماء المحققون أن النفس باعتبار صفاتها ثلاثة أنواع، وهي:
أولا: النفس الأمارة بالسوء: فقد جاء على لسان امرأة العزيز: (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) (53) يوسف، فالنفس الأمارة هي التي تأمر صاحبها بالشر، وتميل به إلى اللذات والشهوات، غير مبالية بالطريق الذي تنال به هذه الشهوات واللذات حراما كان أو حلالا، فهذه النفس مأوى الشرور ومنبع الأخلاق الذميمة. وهي نفس أمارةً بالسوء، تطيع الشيطان، وتتبع هواها، فيسهل عليها فعل المحرمات والشهوات، ويصعب عليها فعل الطاعات والواجبات، وهي النفس التي تميل إلى الطبيعة البدنية، وتأمر باللذات والشهوات الحسية، وتجذب القلب إلى الجهة السفلية، فهي مأوى الشرور، ومنبع الأخلاق الذميمة، ولذلك فهي تحتاج إلى مجاهدة ومرابطةٍ، ومصابرة، من صاحبها، حتى تستقيم وتزكو وتطمئن.
ثانيا: النفس اللوامة: وهذه النفس تلوم صاحبها على التقصير في الحقوق والواجبات، أو فعل الذنوب والموبقات، وقيل: هي نفس يحصل منها الشر والسوء أحيانا، ثم تندم وتلوم صاحبها، حتى تحمله على التوبة إلى الله سبحانه وتعالى، وقيل: هي نفس تنوَّرت بنور القلب قدر ما تنبَّهت به عن سنة الغفلة، فكلما صدرت عنها سيئة، بحكم جبلتها الظلمانية البشرية، أخذت تلوم نفسها، وتتوب عنها، وقيل: هي جميع النفوس الخيرة والفاجرة، سميت ﴿ لوامة ﴾ لكثرة ترددها وتلومها، وعدم ثبوتها على حالة من أحوالها، ولأنها عند الموت تلوم صاحبها على ما عملت؛ بل نفس المؤمن تلوم صاحبها في الدنيا على ما حصل منه، من تفريط أو تقصير في حق من الحقوق، أو غفلة، وهذه النفس اللوامة هي أحسن حالا من التي قبلها (الأمارة بالسوء )، ولهذا أقسم الله بها فقال سبحانه وتعالى:(لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ* وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ). وقيل: هي النفس التي لا تثبت على حال واحدة، فهي كثيرة التقلب والتلون، فتذكر وتغفل، وتقبل وتعرض، وتلطف وتكثف، وتنيب وتجفو، وتحب وتبغض، وتفرح وتحزن، وترضى وتغضب، وتطيع وتعصي، وتتقي وتفجر، إلى أضعاف ذلك من حالاتها وتلونها، فهي تتلون كل وقت ألوانًا كثيرة، وقيل: هي نفس المؤمن، توقعه في الذنب، ثم تلومه عليه، فهذا اللوم من الإيمان، بخلاف الشقي، فإنه لا يلوم نفسه على ذنب، بل يلومها وتلومه على فواته. ومن الملاحظ أن النفس اللوامة، والنفس الأمَّارة بالسوء، يقفان على طرفي نقيض: طرف يجذب الإنسان إلى حضيض الخسة، وآخر يقف له بالمرصاد، يسجل عليه أخطاءه، ويُؤنِّبه على أفعال السوء التي يرتكبها، سواء بالفعل أو بالنية المبيتة، ولأن هذا الجانب من النفس هو الجانب النظيف الشريف الرادع للنفس الأمَّارة بالسوء، فقد أقسم الله تعالى بها،
ثالثا: النفس المطمئنة: وهي النفس المؤمنة، والتي لا يستبد بها القلق في أي حال من أحوالها ،فهي في السرَّاء شاكرة، وفي الضرَّاء صابرة؛ إنها في حال واحدة أبدًا، من الرضا بما قسم الله لها، فلا الغنى يُطغيها، ولا الفقر يسخطها وينسيها، إنها نفس مطمئنة ثابتة، على حال واحدة في إيمانها بالله، ورضاها بما قسم لها، وهذا الاطمئنان وذلك الرضا، لا يجدهما إلَّا المؤمنون بالله، المتوكِّلون عليه، المفوضون أمورهم إليه، فالاطمئنان الذي تصيبه بعض النفوس، ويكون صفة غالبة عليها، هو ثمرة الإيمان الوثيق بالله، القائم على أصول ثابتة من المعرفة بالله سبحانه وتعالى، وما له سبحانه وتعالى من التعظيم والتبجيل، فلا يقع في هذا الوجود شيء إلا بتقديره سبحانه، وبمقتضى حكمته وعلمه، وعدله،
والنفس المطمئنة: هي التي ارتاحت إلى طاعة الله تعالى، واطمأنت بذكر الله، وتلذذت بالطاعات ،ونفرت من المعاصي والموبقات، وهي التي تنادى يوم القيامة: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ* ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً* فَادْخُلِي فِي عِبَادِي* وَادْخُلِي جَنَّتِي)، (ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ) الذي خلقك، أو ارجعي إلى الجسد الذي خرجت منه، فتبشر بذلك عند القيامة، وعند قيام الناس من قبورهم، تبشر بهذه البشارة العظيمة، وهذه النفس هي التي أعان الله صاحبها عليها في الدنيا، فألزمها طاعة الله سبحانه، ونهاها عن معصيته، وجاهدها في الله عز وجل، ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (7): (10) الشمس، فالمسلم المؤمن يزكي نفسه بطاعة الله، فيطهرها ويعودها ويروضها على طاعة الله، فهذه فهي النفس الزكية والتي يعتني بها صاحبها ويأخذ بزمامها، قال ابن القيم رحمه الله: (فتسمى النفس مطمئنة باعتبار طمأنينتها إلى ربها؛ بعبوديته ومحبته والإنابة إليه والتوكل عليه والرضا به، والسكون إليه. فالطمأنينة إلى الله سبحانه حقيقة، تَرِد منه سبحانه على قلب عبده تجمعه عليه، وتَرُد قلبه الشارد إليه، حتى كأنه جالس بين يديه؛ فتسري تلك الطمأنينة في نفسه، وقلبه ومفاصله وقواه الظاهرة والباطنة، ولا يمكن حصول الطمأنينة الحقيقية إلا بذكر الله ، قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} الرعد (28).
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (أنواع النفوس)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
ومن المعلوم أنه لا يخلو زمان من نفس من هذه النفوس، فالخير في أمة النبي صلى الله عليه وسلم، لا يزال قائمًا إلى أن تقوم الساعة ، ففي صحيح البخاري : يقول صلى الله عليه وسلم: (وَلَنْ تَزَالَ هَذِهِ الأُمَّةُ قَائِمَةً عَلَى أَمْرِ اللَّهِ لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ»، وفي رواية: «لاَ يَزَالُ مِنْ أُمَّتِى أُمَّةٌ قَائِمَةٌ بِأَمْرِ اللَّهِ، لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلاَ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ»؛ وفي رواية للإمام مسلم: «لاَ تَزَالُ عِصَابَةٌ مِنْ أُمَّتِى يُقَاتِلُونَ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ قَاهِرِينَ لِعَدُوِّهِمْ لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ»،
ولكن قد تكثر النفوس الأمَّارة بالسوء في مجتمع أو تقل، وكذا اللوَّامة أو المطمئنة؛ وهذا يحتاج إلى تأمُّل في كثير من المجتمعات؛ ولكن الظاهر، أن كثيراً من الناس اليوم يلهثون في طلب المزيد من متاع الدنيا، ناسين أنهم مفارقوها؛ لذلك فأصحاب النفوس المطمئنة كما هو الظاهر من أحوال الناس هم القليل، وهذا القليل نراه في أقوام يصومون النهار، ويقومون الليل ولا يخافون مقابل كلمة الحق، ومثل هذه النفوس قد ظهرت في كثير من المسلمين، كما ظهرت النفوس الأمَّارة بالسوء، والظاهر أيضًا أن النفوس الأمَّارة ما زالت في ازدياد، وهذه حقيقة واضحة في كثير من العصور، ويُوضِّح هذا قوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ ﴾ [يوسف:52]،
الدعاء