خطبة حول معنى قوله تعالى ( وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ )
ديسمبر 26, 2023خطبة عن (الرِّبَاطَ الرِّبَاطَ)
ديسمبر 28, 2023الخطبة الأولى (أيها الناس عليكم بالرباط والغزو والجهاد)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
أخرج الطبراني في معجمه وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة: (عن عبدالله بن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أوَّلُ هذا الأمرِ نُبوَّةٌ ورحمةٌ، ثمَّ يكونُ خلافةً ورحمةً، ثمَّ يكونُ مُلكًا ورحمةً، ثمَّ يتكادمون عليه تكادُمَ الحُمُرِ، فعليكم بالجِهادِ، وإنَّ أفضلَ جهادِكم الرِّباطُ، وإنَّ أفضلَ رباطِكم عَسْقلانُ)، وفي المستدرك للحاكم: (أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقول: (إن الله بدأ هذا الأمر حين بدأ بنبوة ورحمة ثم يعود إلى خلافة ثم يعود إلى سلطان ورحمة ثم يعود ملكا ورحمة ثم يعود جبرية تكادمون تكادم الحمير أيها الناس عليكم بالغزو والجهاد ما كان حلوا خضرا قبل أن يكون مرا عسرا ويكون تماما قبل أن يكون رماما أو يكون حطاما فإذا أشاطت المغازي وأكلت الغنائم واستحل الحرام فعليكم بالرباط فإنه خير جهادكم)
إخوة الإسلام
لقاؤنا اليوم -إن شاء الله تعالى- مع هذا الحديث النبوي الكريم، نتفهم معانيه، ونعرج في مراميه، ونعمل بما جاء فيه، فقوله (صلى الله عليه وسلم) في هذا الحَديثِ: “أول هذا الأمْرَ” فهو يعني به الإسلامَ، فقد بدأ الاسلام “نُبوَّةٌ ورحمةٌ“، فمُنذُ أن بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أنْ تَوَفَّاه اللهُ عَزَّ وجَلَّ، فقد شَمِلتْ تلك الفَترةُ رَحمةً وعَدلًا بَينَ الناسِ، ثم كانت بعده “خِلافةً ورَحمةً” وهمُ الذين تَوَلَّوُا الحُكمَ بَعدَه صلى الله عليه وسلم وهم: (أبو بَكرٍ ثم عُمَرُ ثم عُثمانُ ثم علِيٌّ وولده رَضيَ اللهُ عنهم جَميعًا)، وإنْ لم تَسلَمْ تلك الفَتراتُ مِنَ الفِتَنِ، إلَّا أنَّ الرَّحمةَ والعَدلَ لم يُنزَعا مِنَ الحاكم والرَّعيَّةِ، بل كانتا سائِدَتيْنِ فيهم، وذلك بفَضلِ ما تَرَبَّى عليه الصَّحابةُ، ووَرِثوه عنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، ويقول صلى الله عليه وسلم:(ثمَّ يكونُ مُلكًا ورحمةً)، وفي هذا إشارة إلى الخلافة: (الأموية والعباسية والعثمانية)، ويقول صلى الله عليه وسلم واصفا هذه الحقبة من الخلافة: (ثمَّ يتكادمون عليه تكادُمَ الحُمُرِ)، ففيها: ظُهورُ مُلوكٍ وحُكَّامٍ بَعدَ الخِلافةِ، الأصلُ فيهمُ الفَسادُ وظُلمُ الناسِ، وإيذاؤُهم بغَيرِ حَقٍّ، فتُنزَعُ الرَّحمةُ والعَدلُ منهم، وإنْ تَخلَّلَ هذا عَدلٌ فلا حُكمَ له؛ لِأنَّ الكَلامَ عنِ الغالِبِ، لا النَّادِرِ، وقوله صلى الله عليه وسلم (يتكادمون عليه تكادم الحمر) هذا من إعلام ودلائل نبوته صلى الله عليه وسلم لأن ذلك الأمر قد تحقق، وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (فعليكم بالجهاد، وإنَّ أفضلَ جهادِكم الرِّباطُ) ، فدل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على المخرج من أزمة الفتن التي يعيشها المسلمون، وهو الجهاد، وفي الحديث إشارة إلى ضعف دين المسلمين، وأنهم يتنازعون السلطة، بسبب التفرق والاختلاف ،وانتشار الحزبية بينهم، وهذا مما يعني ضرورة العودة إلى الدين، ولا يتأتى ذلك إلا ببناء العقيدة الصحيحة أولاً، والرباط على ذلك، وبذل الجهد في نشر دعوة الحق. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (وإنَّ أفضلَ رباطِكم عَسْقلانُ)، ففيه: (إشارة إلى أفضل الرباط، على اعتبار أن هذا الرباط في بلاد الشام، لأن بلاد الشام مطمع الكفار)، وهذا أيضاً من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم، فقد تحقق ما أخبر به،
وعسقلان مدينة في جنوب فلسطين، وتقع (غزة) جنوب غرب عسقلان، وهي تابعة لعسقلان، وعرفت بـ “غزة عسقلان” وَهُمَا مِنْ الْأَرَاضِي الْمُقَدَّسَةِ، الَّتِي بَارَكَ اللَّهُ فِيهَا، وكانت لموقعها الاستراتيجي هدفا للغزاة، فالسيطرة عليها كان يعني التحكم في الطرق المؤدية إلى معظم أنحاء فلسطين، شمالاً وجنوباً وشرقاً، ولمدينة عسقلان مكانة دينية عند المسلمين، فقد نُقل عن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله عنها: ” لولا أن تعطّل الثغور، وتضيق عسقلان بأهلها، لأخبرتكم بما فيها من الفضل”. كما قال عنها الصحابي الجليل عبد الله بن عمر: ” لكل شيء ذروة، وذروة الشام عسقلان”. وكذلك قال عنها ابن تيمية رحمه الله: (وأمّا عسقلان فإنّها من ثغور المسلمين كان صالحو المسلمين يقيمون بها لأجل الرباط في سبيل الله).
أيها المسلمون
فيا مَن اخترتَم أرض فلسطين وعسقلان وغزة سكنًا وموطنا، اصبِرْوا وصابِروا ورابِطوا ولا تغفلوا، فإنَّكم في أرض الرِّباط، وأنَّكم في الصَّفوة؛ وأهل الصَّفوة يُبتلَون، ويمحَّصون ما لا يُبتلى ويمحَّص به غيرهم، ففي سنن البيهقي: (قَالَ ابْنُ حَوَالَةَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ (اخْتَرْ لِي إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ قَالَ :« إِنِّي أَخْتَارُ لَكَ الشَّامَ فَإِنَّهُ صِفْوَةُ اللَّهِ مِنْ بِلاَدِهِ وَإِلَيْهِ يَجْتَبِي صِفْوَتَهُ مِنْ عِبَادِهِ، يَا أَهْلَ الْيَمَنِ عَلَيْكُمْ بِالشَّامِ، فَإِنَّ صِفْوَةَ اللَّهِ مِنْ أَرْضِهِ الشَّامَ، أَلاَ فَمَنْ أَبَى فَلْيَسْتَقِ فِي غُدَرِ الْيَمَنِ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ تَكَفَّلَ لِي بِالشَّامِ وَأَهْلِهِ»، فيا مَنِ اخترتَ الشام، أبشِرْ، فإنَّك لن تُضَيَّع، ففي سنن أبي داود: (عَنِ ابْنِ حَوَالَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «سَيَصِيرُ الأَمْرُ إِلَى أَنْ تَكُونُوا جُنُودًا مُجَنَّدَةً، جُنْدٌ بِالشَّامِ وَجُنْدٌ بِالْيَمَنِ وَجُنْدٌ بِالْعِرَاقِ». قَالَ ابْنُ حَوَالَةَ خِرْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَدْرَكْتُ ذَلِكَ. فَقَالَ «عَلَيْكَ بِالشَّامِ فَإِنَّهَا خِيَرَةُ اللَّهِ مِنْ أَرْضِهِ يَجْتَبِي إِلَيْهَا خِيَرَتَهُ مِنْ عِبَادِهِ، فَأَمَّا إِنْ أَبَيْتُمْ فَعَلَيْكُمْ بِيَمَنِكُمْ وَاسْقُوا مِنْ غُدُرِكُمْ فَإِنَّ اللَّهَ تَوَكَّلَ لِي بِالشَّامِ وَأَهْلِهِ». قال أبو إدريسَ: مَن تَكفَّلَ اللَّهُ بِهِ، فلا ضيعةَ عليه. فلا تقلق ولا تخَف على رِزقك في أرض البركة والخير؛ قال تعالى: ﴿وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 71]، وكان يقال للشَّأم: عماد دار الهجرة، وما نقص من الأرض زِيدَ في الشَّأم، وما نقص من الشأم زِيدَ في فلسطين، وكان يُقال: (هي أرض المَحْشَر والمَنْشَر، وبها مَجمع الناس، وبها يَنزل عيسى ابن مريم، وبها يُهلِك اللهُ شيخَ الضلالة الكذَّاب الدجَّال).
أيها المسلمون
والمتابع اليوم لأخبار أهالي فلسطين عامة، وغزة خاصة، والمتتبع لجهادهم في مدافعة الصهاينة المحتلين، يتبين له أنهم يستحقون لقب أعجوبة العالم، ففي ظل ما يعيشونه من واقع يفتقر إلى مقومات العيش، ومع الحصار الذي يشتد عليهم، وما احتوته الحروب من جنون النار والدخان وأزيز الرصاص، ووقع القذائف في كل مكان، والشهداء بالآلاف والجرحى بعشرات الآلاف، فالمتابع لذلك يتعجب لشأنهم، كيف يحيا هؤلاء؟، وما الذي يصبرهم على احتمال المكوث في غزة؟، والمتأمل في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم المتقدم يعلم قدر هذه الأرض، وأجرها ومكانتها في الإسلام، فكم من صالح فهم المقصد، فلزم ساحل عسقلان مرابطاً، وكم من عالم ارتحل إلى عسقلان لينال شرف الرباط فيها، ومنهم من مات فيها مرابطاً كعمر بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (أيها الناس عليكم بالغزو والجهاد)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
وبرغم الآلام والمواجع التي أقضت المضاجع، وأحرقت الأفئدة، إلا أن حقيقة إدراك أهل غزة لعظيم أجر الرباط بشكل عام، وعظيم أجر الرباط في هذا الساحل بشكل خاص، يوقر في قلوبهم أنهم على ثغر من ثغور الإسلام، فهم يتذكرون أن عظم الأجر في عظم البلاء، فغزة آسرة للأفئدة بأجر رباطها، وقد نجح أهل غزة بتمسكهم بالرباط في هذه الأرض، قهراً لعدوهم، فالرباط يعرّف بأنه «الإقامة بثغر من ثغور المسلمين تقوية لهم»، ويُسن الرباط في الثغور خوفاً من اقتحام العدو بلد المسلمين، وأجره عظيم، وإذا تعين على أناس وجب عليهم، وعلى ولي الأمر أن يجعل على الثغور جنوداً أقوياء ليحفظوا الحدود، والرباط يشمل المجاهد وغيره، إذا ما اقترنت النية، فالرباط وتطبيق سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم هما الباعث على مكابدة الحصار والبقاء في غزة؛ فيا أهل فلسطين وعسقلان وغزة صموداً وفداء، وهنيئاً لكم عظيم أجر الرباط بإذن الله.
الدعاء