خطبة حول حديث ( الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ )
يوليو 12, 2025خطبة عن (أسباب نعيم القبر)
يوليو 12, 2025الخطبة الأولى (أَدَاءُ الْأَمَانَاتِ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) النساء:58، وروى الامام الترمذي في سننه: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- «أَدِّ الأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ وَلاَ تَخُنْ مَنْ خَانَكَ».
إخوة الإسلام
للأمانة مفهوم واسع؛ فهي لا تقتصر على حفظ الودائع؛ بل هي كل ما ائتُمن عليه العبد من الحقوق، سواء أكانت هذه الحقوق لله تعالى، أم للعباد، فالأمانة تشمل كل ما عُهِد إلى العبد حفظُه وأداؤه، من حقوق الله تعالى، وكذلك حقوق الآدميين. وسوف أقتصر كلامي اليوم -إن شاء الله تعالى – عن أداء الأمانات الخاصة بالعباد، وهذه الأمانات لها صور متعددة: وأذكر لكم منها: الأمانات الماليَّةُ: ومنها الودائِعُ وهي التي تُعطى للإنسانِ ليحفَظَها لأهلِها، وكذا الديون، ففي صحيح البخاري: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ «مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّى اللَّهُ عَنْهُ، وَمَنْ أَخَذَ يُرِيدُ إِتْلاَفَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ»، وروى الطبراني في المعجم الكبير: (عن عبد الله بن مسعود: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: القتل في سبيل الله يكفر الذنوب كلها، أو قال كل شيء، إلا الأمانة، والأمانة في الصلاة والأمانة في الصوم والأمانة في الحديث، فأشد ذلك الودائع)، ومن الأمانات المالية: ما يؤتمن عليه الموظف والعامل في عمله، من أموال الدولة، أو الشركة والمؤسسة، وكذا أموال الشريك في شركته، أو تجارته، وما يجمع من غنائم الحرب، أو أموال الذكاة والصدقات، فمن أخذ مالا وهو مؤتمن عليه، فهذا يسمى غلول، قال تعالى: (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) آل عمران:161، وفي سنن أبي داود: (عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ عَلَى عَمَلٍ فَرَزَقْنَاهُ رِزْقًا فَمَا أَخَذَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ غُلُولٌ». وفيه أيضا: (عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ قَالَ بَعَثَنِي النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- سَاعِيًا ثُمَّ قَالَ «انْطَلِقْ أَبَا مَسْعُودٍ وَلاَ أُلْفِيَنَّكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَجِيءُ عَلَى ظَهْرِكَ بَعِيرٌ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ لَهُ رُغَاءٌ قَدْ غَلَلْتَهُ». قَالَ إِذًا لاَ أَنْطَلِقُ. قَالَ « إِذًا لاَ أُكْرِهُكَ». وفي الصحيحين: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – اسْتَعْمَلَ عَامِلاً فَجَاءَهُ الْعَامِلُ حِينَ فَرَغَ مِنْ عَمَلِهِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا لَكُمْ، وَهَذَا أُهْدِيَ لِي. فَقَالَ لَهُ «أَفَلاَ قَعَدْتَ فِي بَيْتِ أَبِيكَ وَأُمِّكَ فَنَظَرْتَ أَيُهْدَى لَكَ أَمْ لاَ». ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – عَشِيَّةً بَعْدَ الصَّلاَةِ فَتَشَهَّدَ وَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ «أَمَّا بَعْدُ، فَمَا بَالُ الْعَامِلِ نَسْتَعْمِلُهُ، فَيَأْتِينَا فَيَقُولُ هَذَا مِنْ عَمَلِكُمْ ،وَهَذَا أُهْدِيَ لِي. أَفَلاَ قَعَدَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ فَنَظَرَ هَلْ يُهْدَى لَهُ أَمْ لاَ، فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لاَ يَغُلُّ أَحَدُكُمْ مِنْهَا شَيْئًا، إِلاَّ جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى عُنُقِهِ، إِنْ كَانَ بَعِيرًا جَاءَ بِهِ لَهُ رُغَاءٌ، وَإِنْ كَانَتْ بَقَرَةً جَاءَ بِهَا لَهَا خُوَارٌ، وَإِنْ كَانَتْ شَاةً جَاءَ بِهَا تَيْعَرُ، فَقَدْ بَلَّغْتُ».. وفي مسند أحمد: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «هَدَايَا الْعُمَّالِ غُلُولٌ»، فكل ما يأخذه الموظف من الناس أو الشركات بسبب وظيفته فهو غلول، وخيانة للأمانة، ومن صور أداء الأمانات: رد العاريَّة: فقد يُعِيرك شخصٌ شيئًا، فيعطيك إيَّاها: من إناءٍ أو فِراشٍ أو سيَّارةٍ، أو أثاث، أو أدوات ومعدات، أو غير ذلك، أو استأجرت بيتا أو محلا وما أشبَهَ ذلك، فكلُّ هذه من الأماناتِ التي أمرنا أن نؤديها إلى أصحابها صالحة سليمة فلا نضيعها، ولا نسيئ استخدامها، ومن صور الأمانات: أمانة المجلس، ففي مسند أحمد: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «الْمَجَالِسُ بِالأَمَانَةِ)، وفي سنن البيهقي: (عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- :«إِذَا حَدَّثَ الرَّجُلُ بِحَدِيثٍ ثُمَّ الْتَفَتَ فَهِيَ أَمَانَةٌ»، فكل ما قيل وما يحدث في المجالس، والمقابلات، والمكالمات، أصبح أمانة، فلا يجوز للمسلم أن يفشي الأسرار التي يُستأمن على حفظها، فتكون الأمَانَة بكتمانها، وعدم افشائها أو نقلها للآخرين، ومن صور الأماناتِ: ما يكونُ بَينَ الرَّجُلِ وزَوجتِه من الأمور الخاصَّةِ؛ ففي صحيح مسلم: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «إِنَّ مِنْ أَشَرِّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ الرَّجُلَ يُفْضِي إِلَى امْرَأَتِهِ وَتُفْضِي إِلَيْهِ ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَا»، وفي المعجم الكبير للطبراني: (عن أسماء بنت يزيد قالت: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجال والنساء، فقال: عسى رجل يحدث بما يكون بينه وبين أهله، أو عسى امرأة تحدث بما يكون بينها وبين زوجها، فأرم القوم فقلتُ: أي والله يا رسول الله، إنهم ليفعلون، وإنهن ليفعلن، قال: فلا تفعلوا، فإن مثل ذلك، مثل شيطان لقي شيطانة في ظهر الطريق، فغشيتها والناس ينظرون)، ومن صور أداء الأمانات: الأمانةُ في الرِّسالاتِ: وتكونُ الأمانةُ فيها بتبليغِها إلى أهلِها تامَّةً، غيرَ منقوصةٍ ولا مزادٍ عليها، وعلى وَفقِ رغبةٍ مُحمِّلِها، سواءٌ أكانت رسالةً لفظيَّةً أو كتابيَّةً أو عَمَليَّةً. وفي مسند أحمد: (أن الْحَارِثَ بْنَ ضِرَارٍ الْخُزَاعِيَّ قَالَ قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَدَعَانِي إِلَى الإِسْلاَمِ فَدَخَلْتُ فِيهِ وَأَقْرَرْتُ بِهِ فَدَعَانِي إِلَى الزَّكَاةِ فَأَقْرَرْتُ بِهَا وَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرْجِعُ إِلَى قَوْمِي فَأَدْعُوهُمْ إِلَى الإِسْلاَمِ وَأَدَاءِ الزَّكَاةِ فَمَنِ اسْتَجَابَ لِي جَمَعْتُ زَكَاتَهُ فَيُرْسِلُ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- رَسُولاً لإِبَّانِ كَذَا وَكَذَا لِيَأْتِيَكَ مَا جَمَعْتُ مِنَ الزَّكَاةِ فَلَمَّا جَمَعَ الْحَارِثُ الزَّكَاةَ مِمَّنِ اسْتَجَابَ لَهُ وَبَلَغَ الإِبَّانَ الَّذِي أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ يُبْعَثَ إِلَيْهِ احْتَبَسَ عَلَيْهِ الرَّسُولُ فَلَمْ يَأْتِهِ فَظَنَّ الْحَارِثُ أَنَّهُ قَدْ حَدَثَ فِيهِ سَخْطَةٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَرَسُولِهِ فَدَعَا بِسَرَوَاتِ قَوْمِهِ فَقَالَ لَهُمْ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ وَقَّتَ لِي وَقْتاً يُرْسِلُ إِلَىَّ رَسُولَهُ لِيَقْبِضَ مَا كَانَ عِنْدِي مِنَ الزَّكَاةِ وَلَيْسَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الْخُلْفُ وَلاَ أَرَى حَبْسَ رَسُولِهِ إِلاَّ مِنْ سَخْطَةٍ كَانَتْ فَانْطَلِقُوا فَنَأْتِيَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ إِلَى الْحَارِثِ لِيَقْبِضَ مَا كَانَ عِنْدَهُ مِمَّا جَمَعَ مِنَ الزَّكَاةِ فَلَمَّا أَنْ سَارَ الْوَلِيدُ حَتَّى بَلَغَ بَعْضَ الطَّرِيقِ فَرِقَ فَرَجَعَ فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ الْحَارِثَ مَنَعَنِي الزَّكَاةَ وَأَرَادَ قَتْلِي. فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الْبَعْثَ إِلَى الْحَارِثِ فَأَقْبَلَ الْحَارِثُ بِأَصْحَابِهِ إِذِ اسْتَقْبَلَ الْبَعْثَ وَفَصَلَ مِنَ الْمَدِينَةِ لَقِيَهُمُ الْحَارِثُ فَقَالُوا هَذَا الْحَارِثُ فَلَمَّا غَشِيَهُمْ قَالَ لَهُمْ إِلَى مَنْ بُعِثْتُمْ قَالُوا إِلَيْكَ. قَالَ وَلِمَ قَالُوا إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ بَعَثَ إِلَيْكَ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ فَزَعَمَ أَنَّكَ مَنَعْتَهُ الزَّكَاةَ وَأَرَدْتَ قَتْلَهُ. قَالَ لاَ وَالَّذِي بَعَثَ مُحَمَّداً بِالْحَقِّ مَا رَأَيْتُهُ بَتَّةً وَلاَ أَتَانِي. فَلَمَّا دَخَلَ الْحَارِثُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «مَنَعْتَ الزَّكَاةَ وَأَرَدْتَ قَتْلَ رَسُولِي». قَالَ لاَ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا رَأَيْتُهُ وَلاَ أَتَانِي وَمَا أَقْبَلْتُ إِلاَّ حِينَ احْتَبَسَ عَلَىَّ رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- خَشِيتُ أَنْ تَكُونَ كَانَتْ سَخْطَةً مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَرَسُولِهِ. قَالَ فَنَزَلَتِ الْحُجُرَاتُ (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)، ومن صور أداء الأمانات: الأمانة في البيع والشراء ،والمعاملات التجارية، فمن طفَّفَ أو بخس في المكيال والميزان، أو غشَّ في البيع والشراء، فقد خان الأمانة، فَحَقٌّ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ أَلَّا يَغِشَّ مُؤْمِنًا، وَلَا مُعَاهَدًا، ففي صحيح مسلم: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَرَّ عَلَى صُبْرَةِ طَعَامٍ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلاً فَقَالَ «مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ». قَالَ أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ «أَفَلاَ جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ كَيْ يَرَاهُ النَّاسُ مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي»، وفي سنن ابن ماجه :(أن رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ وَلاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ بَاعَ مِنْ أَخِيهِ بَيْعًا فِيهِ عَيْبٌ إِلاَّ بَيَّنَهُ لَهُ». ومِن صُوَرِ الأمانةِ: أن تنصَحَ من استنصحك، أو استشارك، وأن تَصدُقَ مع مَن وَثِق برأيِك؛ فإذا عرَض عليك أحَدٌ من النَّاسِ موضوعًا مُعَيَّنًا، وطلَب منك الرَّأيَ والمشورةَ والنَّصيحةَ، فاعلَمْ أنَّ إبداءَ رأيِك له أمانةٌ، فإذا أشَرْتَ عليه بغيرِ الرَّأيِ الصَّحيحِ فذلك خيانةٌ. ففي سنن أبي داود: «وَمَنْ أَشَارَ عَلَى أَخِيهِ بِأَمْرٍ يَعْلَمُ أَنَّ الرُّشْدَ فِي غَيْرِهِ فَقَدْ خَانَهُ». وفي سنن الترمذي: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «الْمُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ»، ومن صور أداء الأمانات: الأمانةُ في الشَّهادةِ: وتكونُ بتحَمُّلِها بحسَبِ ما هي عليه في الواقِعِ، وبأدائِها دونَ تحريفٍ أو تغييرٍ، أو زيادةٍ أو نقصانٍ. ومن صور أداء الأمانات: الأمانةُ في القضاءِ، والحكم بين الناس: وتكونُ بإصدارِ الأحكامِ وَفْقَ أحكامِ العَدلِ أو الفضل، وموافقة للكتاب والسنة، ومن صور أداء الأمانات: الأمانةُ في الكتابةِ: بأن تكونَ الكتابة على وَفقِ ما يُمليه صاحب الحق، فلا يكونُ فيها تغييرٌ ولا تبديلٌ، ولا زيادةٌ ولا نقصٌ، وأن تكونَ خاليةً من الكَذِبِ والتَّلاعُبِ بالألفاظ. ومن صور أداء الأمانات: الأمانةُ في الوِلايةِ: وتكون الأمانة في الولاية بين الحاكم والمحكومين، وهي تشمل كلُّ الجوانب التي يكون فيها الحاكم أو الوالي مسؤولاً عن الرعية، وقد حذَّر النبي -صلى الله عليه وسلم- الحاكم الذي يُقصِّر في الأمانة، ففي صحيح مسلم: (قال -صلى الله عليه وسلم-: (ما مِن عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً، يَمُوتُ يَومَ يَمُوتُ وهو غاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ، إلَّا حَرَّمَ اللَّهُ عليه الجَنَّةَ). وتشمل الأمانة في الولاية كل من كان مسؤولاً على أمرٍ من أمور المسلمين، فعليه أن يراعي الأمانة التي وكَّله الله -تعالى- بها، يقول -صلى الله عليه وسلم-: (اللَّهُمَّ، مَن وَلِيَ مِن أَمْرِ أُمَّتي شيئًا فَشَقَّ عليهم، فَاشْقُقْ عليه، وَمَن وَلِيَ مِن أَمْرِ أُمَّتي شيئًا فَرَفَقَ بهِمْ، فَارْفُقْ بهِ). وتكون أيضا بإسناد الأعمالِ إلى مُستَحِقِّيها الأكْفاءِ لها، وحِفظُ أموالِ النَّاسِ وأجسامِهم وأرواحِهم وعقولِهم، وصيانتُها ممَّا يؤذيها أو يَضُرُّ بها، وحِفظُ الدِّينِ الذي ارتضاه اللهُ لعبادِه، من أن ينالَه أحَدٌ بسُوءٍ، وحِفظُ أسرارِ الدَّولةِ، إلى غيرِ ذلك من الأمورٍ التي تخص الرعية، ومن صور أداء الأمانات: أداء حقَّ الأجير، فمن استأجر أجيراً فمنعه حقّه؛ فقد خان الأمانة، لما يرويه النبي -صلى الله عليه وسلم-: (قالَ اللَّهُ: ثَلاثَةٌ أنا خَصْمُهُمْ يَومَ القِيامَةِ: رَجُلٌ أعْطَى بي ثُمَّ غَدَرَ، ورَجُلٌ باعَ حُرًّا فأكَلَ ثَمَنَهُ، ورَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أجِيرًا فاسْتَوْفَى منه ولم يُعطِه أجرَه). وفي سنن ابن ماجه: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «أَعْطُوا الأَجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ». وأما أمانة الأجير: أن يوفي صاحب العمل حقه، فيؤدي عمله بإتقان، ولا يبخسه حقه، ففي المعجم الأوسط للطبراني: (أن رسول الله قال: إن الله عز وجل يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه)، فمن أخذ الأجر حاسبه الله على العمل، ومن صور أداء الأمانات :أن يقوم كل فرد من أفراد الأسرة والمجتمع بمسئولياته، ففي الصحيحين: (أن رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – يَقُولُ «كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهْوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ – قَالَ وَحَسِبْتُ أَنْ قَدْ قَالَ – وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي مَالِ أَبِيهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ»، ومن صور أداء الأمانات: تربية الأولاد، فأولادك أمانة، فإن لم تُحسِن تربيتَهم ورعايتَهم فقد خُنْتَ الأمانة؛ والبيت أمانة وجب على الزوج أن يُراعيها؛ بحسن اختيار الزوجة، وحسن تربية الأبناء، والإنفاق على الأُسرة، من غير بُخل أو إسراف، والمرأة مستأمنةٌ على بيتها، وعلى تربية أبنائها، وحسن الإنفاق من مال زوجها، وفي صحيح ابن حبان: (أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الله سائل كل راع عما استرعاه احفظ أم ضيع)، وهكذا، فالتَّاجِرُ يجِبُ أن يكونَ أمينًا، والزَّارعُ فيما يزرَعُ ويحصُدُ يجبُ أن يكونَ أمينًا، والصَّانِعُ فيما يصنَعُ ويُبدِعُ يجِبُ أن يكونَ أمينًا، والعالِمُ فيما يعلَمُ ويُنتِجُ يجِبُ أن يكونَ أمينًا، والموظَّفُ فيما يَعمَلُه ويؤَدِّيه يجِبُ أن يكونَ أمينًا، والمؤذِّنُ أمينٌ مُؤتَمَنٌ، والإمام في مسجده أمين مؤتمن، وهكذا ومن صور أداء الأمانات: الأمانة العلمية، وتكون بتأديتها دونَ تحريفٍ أو تغييرٍ، ونسبةُ الأقوالِ إلى أصحابِها، وعدَمُ انتحالِ الإنسانِ ما لغَيرِه منها. والتلاميذ والطلاب عند المعلم أمانة، وقضيتك عند المحامي أمانة، ومن صور أداء الأمانات: الأمانة في الفتوى: فمن تصدر الفتوى لا بد أن يكون عالما بما يفتي به، وإلا فمن أفتى عن جهل فقد خان الأمانة، ففي سنن أبي داود: (عَنْ جَابِرٍ قَالَ خَرَجْنَا فِي سَفَرٍ فَأَصَابَ رَجُلاً مِنَّا حَجَرٌ فَشَجَّهُ فِي رَأْسِهِ ثُمَّ احْتَلَمَ فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ فَقَالَ هَلْ تَجِدُونَ لِي رُخْصَةً فِي التَّيَمُّمِ فَقَالُوا مَا نَجِدُ لَكَ رُخْصَةً وَأَنْتَ تَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أُخْبِرَ بِذَلِكَ فَقَالَ «قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللَّهُ أَلاَّ سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ (الجهل) السُّؤَالُ إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيَعْصِرَ». أَوْ «يَعْصِبَ». شَكَّ مُوسَى « عَلَى جُرْحِهِ خِرْقَةً ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهَا وَيَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ». وفيه أيضا: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «مَنْ أُفْتِىَ بِغَيْرِ عِلْمٍ كَانَ إِثْمُهُ عَلَى مَنْ أَفْتَاهُ»، وفي صحيح مسلم: (أن رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ «إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يَتْرُكْ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالاً فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا».
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (أَدَاءُ الْأَمَانَاتِ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
فأداء الأمانة من أخلاق المؤمنين، ومن صور الأمانة عند السابقين: ما جاء في الصحيحين: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – قَالَ قَالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – «اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ رَجُلٍ عَقَارًا لَهُ، فَوَجَدَ الرَّجُلُ الَّذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ فِي عَقَارِهِ جَرَّةً فِيهَا ذَهَبٌ، فَقَالَ لَهُ الَّذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ خُذْ ذَهَبَكَ مِنِّي، إِنَّمَا اشْتَرَيْتُ مِنْكَ الأَرْضَ، وَلَمْ أَبْتَعْ مِنْكَ الذَّهَبَ. وَقَالَ الَّذِي لَهُ الأَرْضُ إِنَّمَا بِعْتُكَ الأَرْضَ وَمَا فِيهَا، فَتَحَاكَمَا إِلَى رَجُلٍ، فَقَالَ الَّذِي تَحَاكَمَا إِلَيْهِ أَلَكُمَا وَلَدٌ قَالَ أَحَدُهُمَا لِي غُلاَمٌ. وَقَالَ الآخَرُ لِي جَارِيَةٌ. قَالَ أَنْكِحُوا الْغُلاَمَ الْجَارِيَةَ، وَأَنْفِقُوا عَلَى أَنْفُسِهِمَا مِنْهُ، وَتَصَدَّقَا»، ومن صور الأمانة عند السابقين: ما رواه البخاري في صحيحه: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – عَنْ رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – «أَنَّهُ ذَكَرَ رَجُلاً مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَأَلَ بَعْضَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يُسْلِفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ، فَقَالَ ائْتِنِي بِالشُّهَدَاءِ أُشْهِدُهُمْ. فَقَالَ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا). قَالَ فَأْتِنِي بِالْكَفِيلِ. قَالَ كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلاً. قَالَ صَدَقْتَ. فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، فَخَرَجَ فِي الْبَحْرِ، فَقَضَى حَاجَتَهُ ،ثُمَّ الْتَمَسَ مَرْكَبًا يَرْكَبُهَا، يَقْدَمُ عَلَيْهِ لِلأَجَلِ الَّذِى أَجَّلَهُ، فَلَمْ يَجِدْ مَرْكَبًا، فَأَخَذَ خَشَبَةً، فَنَقَرَهَا فَأَدْخَلَ فِيهَا أَلْفَ دِينَارٍ، وَصَحِيفَةً مِنْهُ إِلَى صَاحِبِهِ، ثُمَّ زَجَّجَ مَوْضِعَهَا، ثُمَّ أَتَى بِهَا إِلَى الْبَحْرِ، فَقَالَ اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّى كُنْتُ تَسَلَّفْتُ فُلاَنًا أَلْفَ دِينَارٍ، فَسَأَلَنِي كَفِيلاً، فَقُلْتُ كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلاً، فَرَضِيَ بِكَ، وَسَأَلَنِي شَهِيدًا، فَقُلْتُ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا، فَرَضِيَ بِكَ، وَأَنِّي جَهَدْتُ أَنْ أَجِدَ مَرْكَبًا، أَبْعَثُ إِلَيْهِ الَّذِي لَهُ فَلَمْ أَقْدِرْ، وَإِنِّي أَسْتَوْدِعُكَهَا. فَرَمَى بِهَا فِي الْبَحْرِ حَتَّى وَلَجَتْ فِيهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ، وَهْوَ فِي ذَلِكَ يَلْتَمِسُ مَرْكَبًا، يَخْرُجُ إِلَى بَلَدِهِ، فَخَرَجَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ، يَنْظُرُ لَعَلَّ مَرْكَبًا قَدْ جَاءَ بِمَالِهِ، فَإِذَا بِالْخَشَبَةِ الَّتِي فِيهَا الْمَالُ، فَأَخَذَهَا لأَهْلِهِ حَطَبًا، فَلَمَّا نَشَرَهَا وَجَدَ الْمَالَ وَالصَّحِيفَةَ، ثُمَّ قَدِمَ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ، فَأَتَى بِالأَلْفِ دِينَارٍ، فَقَالَ وَاللَّهِ مَا زِلْتُ جَاهِدًا فِي طَلَبِ مَرْكَبٍ لآتِيَكَ بِمَالِكَ، فَمَا وَجَدْتُ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِي أَتَيْتُ فِيهِ. قَالَ هَلْ كُنْتَ بَعَثْتَ إِلَيَّ بِشَيْءٍ قَالَ أُخْبِرُكَ أَنِّى لَمْ أَجِدْ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِي جِئْتُ فِيهِ. قَالَ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَدَّى عَنْكَ الَّذِي بَعَثْتَ فِي الْخَشَبَةِ فَانْصَرِفْ بِالأَلْفِ الدِّينَارِ رَاشِدًا»
أيها المسلمون
وأداء الأمانات علامة على صدق الإيمان وقوته، وتضييع الأمانة علامة على نقص الإيمان، وآية من آيات النفاق؛ ففي الصحيحين: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاَثٌ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ». وفي مسند أحمد: (عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَلَّمَا خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلاَّ قَالَ «لاَ إِيمَانَ لِمَنْ لاَ أَمَانَةَ لَهُ وَلاَ دِينَ لِمَنْ لاَ عَهْدَ لَهُ»، وفي الصحيحين: (عَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثَيْنِ، رَأَيْتُ أَحَدَهُمَا وَأَنَا أَنْتَظِرُ الآخَرَ: حَدَّثَنَا: (أَنَّ الْأَمَانَةَ نَزَلَتْ فِي جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ (أي: في وسطها)، ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ القُرْآنِ، ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ)، وَحَدَّثَنَا عَنْ رَفْعِهَا قَالَ: (يَنَامُ الرَّجُلُ النَّوْمَةَ، فَتُقْبَضُ الْأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ….، فَيُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ، فَلَا يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّي الْأَمَانَةَ، فَيُقَالُ: إِنَّ فِي بَنِي فُلَانٍ رَجُلًا أَمِينًا! وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ: مَا أَعْقَلَهُ وَمَا أَظْرَفَهُ وَمَا أَجْلَدَهُ! وَمَا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ). وتضييع الأمانة علامة من علامات الساعة؛ ففي صحيح البخاري: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: بَيْنَمَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي مَجْلِسٍ يُحَدِّثُ الْقَوْمَ، جَاءَهُ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ فَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُحَدِّثُ، فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: سَمِعَ مَا قَالَ فَكَرِهَ مَا قَالَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ لَمْ يَسْمَعْ، حَتَّى إِذَا قَضَى حَدِيثَهُ قَالَ: (أَيْنَ السَّائِلُ عَنِ السَّاعَةِ؟)، قَالَ: هَا أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (فَإِذَا ضُيِّعَتِ الْأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ)، قَالَ: كَيْفَ إِضَاعَتُهَا؟ قَالَ: (إِذَا وُسِّدَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَة). وقد حذَّر النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الزمن الذي تُقلَب فيه الحقائق، وتُزوَّر الوقائع، وتُغيَّر العناوين، فقال: (سيأتي على الناس سنوات خدَّاعات يُصدَّق فيها الكاذب، ويُكذَّب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويُخوَّن فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة)، قيل: وما الرويبضة؟ قال: (الرجل التافه يتكلَّم في أمر العامة) [رواه ابن ماجه وصحَّحه الألباني]. واعلموا أن خائن الأمانة مفضوح يوم القيامة على رؤوس الأشهاد؛ ففي صحيح البخاري: (عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الْغَادِرَ يَنصِبُ اللهُ لَهُ لِوَاءً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُقَالُ: أَلَا هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانٍ). فالأمانة من كمال الإيمان، وحسن الإسلام ، وهي التي يقوم عليها أمر السماوات والأرض، وهي محور الدين، وامتحان رب العالمين، وبالأمانة يُحفظ الدين والأعراض والأموال والأجسام والأرواح والمعرف والعلوم وغيرها من أمور الدين، والأمين يحبه الله ويحبه الناس، ألا فلنحافظ على الأمانات ونرضي رب الأرض والسموات0
الدعاء