خطبة عن (مَوَدَّةٌ وَرَحْمَةٌ)
يونيو 21, 2025الخطبة الأولى (أَيَّامُ الصَّبْرِ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
روى أبو داود وابن ماجه وصححه الألباني: (قَالَ أَبُو أُمَيَّةَ الشَّعْبَانِيُّ سَأَلْتُ أَبَا ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيَّ فَقُلْتُ يَا أَبَا ثَعْلَبَةَ كَيْفَ تَقُولُ فِي هَذِهِ الآيَةِ (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) قَالَ أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْهَا خَبِيرًا سَأَلْتُ عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ «بَلِ ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنَاهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ حَتَّى إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا وَهَوًى مُتَّبَعًا وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْىٍ بِرَأْيِهِ فَعَلَيْكَ – يَعْنِي بِنَفْسِكَ – وَدَعْ عَنْكَ الْعَوَامَّ فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامَ الصَّبْرِ، الصَّبْرُ فِيهِ مِثْلُ قَبْضٍ عَلَى الْجَمْرِ لِلْعَامِلِ فِيهِمْ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلاً يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِهِ». وَزَادَنِي غَيْرُهُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ (أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْهُمْ قَالَ «أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ».
إخوة الإسلام
الصبر: هو حبس النفس على ما تكره، وهو خلق فاضل كريم، من أخلاق المؤمنين الصادقين، وهو شعبة من شعب الإيمان, فالإيمان نصفان؛ صبر، وشكر، وقد ذكر الله تعالى الصبر في القرآن في مواضع عدة، وأضاف إليه أكثر الخيرات والدرجات، وجعلها ثمرة له، وقرن الله الصبر بالعبادات، والأخلاق والفضائل، فقال تعالى: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ) (45) البقرة، وقرنه بالتسبيح والاستغفار، فقال تعالى: (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ) (48) الطور، وقرن الله الصبر باليقين، فقال تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) (24) السجدة، وقرنه بالتوكل، فقال تعالى: (الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (42) النحل،
والصبر يحبس من يتحلى به عن الوقوع في سخط الله تعالى، ويساعده على تحمل الأمور بحزم وتدبر، والصابرون يوفون أجورهم بغير حساب، قال تعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (10) الزمر، وفي الصحيحين: (عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ – رضي الله عنه – أَنَّ نَاسًا مِنَ الأَنْصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ، حَتَّى نَفِدَ مَا عِنْدَهُ فَقَالَ «مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ، وَمَا أُعْطِىَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ»،
أيها المسلمون
وقد أخْبَرَنا النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بما سيكونُ من قِلَّةِ الدِّينِ في آخِرِ الزَّمانِ، كما أخْبَرَنا بأَجْرِ الصابرين المُتَمَسِّكِين بدِينِهم في هذا الزمان، وفي ذلك حثًّ لنا على الصَّبْرِ، مع رَجاءِ الأَجْرِ من اللهِ، فقال صلى الله عليه وسلم: (فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامَ الصَّبْرِ، الصَّبْرُ فِيهِ مِثْلُ قَبْضٍ عَلَى الْجَمْرِ، لِلْعَامِلِ فِيهِمْ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلاً يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِهِ». قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْهُمْ قَالَ «أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ».
وها نحن نعيش في هذا الزمان، نعيش “زَمانَ الصَبْر” فهي أيام لا طَريقَ لنا فيها إلَّا الصَّبْرُ، وأيَّام يُحمَدُ فيها الصَّبْرُ وأهل الصبر، فهذا الزمان هو الذي تَغلِبُ فيه الفِتَنُ، وتَضعُفُ فيه شَوْكَةُ المُسلِمينَ، “لِلمُتَمَسِّكِ فيه”، أي: لِمَنْ صَبَرَ على التَّمسُّكِ بدِينِه واعْتَصَمَ به، “أَجْرُ خَمْسينَ شَهيدًا منكم”، يَتَضاعَفُ له أجْرُه بأَجْرِ خَمْسينَ من شُهَداءِ الصَّحابَةِ، وهذا مِنْ عِظَمِ بَلاءِ هذا الزَّمانِ، الذي يَجِدُ المُسلِمُ المُسْتَمْسِكُ بدِينِه كالقابِضِ على جَمْرةٍ من نارٍ،
فمن يعش في هذا الزمان، لا يجد على الخير أعواناً إلا القليل، ومع ذلك يصبر على طاعة ربه، ويصبر على الدعوة إلى الله، ويصبر على الإسلام، صبراً كأنه يقبض على الجمر، فنحن الآن في مجتمع تقتحم فيه المعاصي اقتحاماً، فيمشي المؤمن في الشارع فيجد المعاصي، ويفتح التلفاز فيجد المعاصي، وينظر من نافذة داره فيجد المعاصي، ويدخل (الجامعة أو المستشفى أو المؤسسة أو المصنع أو المقر الحكومي) فيجد المعاصي، بل ويذهب للعزاء والافراح فيجد المعاصي، ففي كل مكان تطأه قدمه يجد المعاصي، وإذا أردت أن تعصم نفسك من ذلك كله، وتقبض على دينك، فأنت تقبض على الجمر، فنحن في هذا الزمان يحارب فيه الدعاة، ويعتقل فيه المتمسكون بدينهم، ويعذب فيه الناطق بالحق، وكأننا في زمن من قالوا: {أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ} [النمل:٥٦]، فما هي جريمتهم؟ {إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل:٥٦]،
فنحن الآن في هذا الزمن الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ سَنَوَاتٌ خَدَّاعَاتٌ يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ وَيُخَوَّنُ فِيهَا الأَمِينُ وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ قِيلَ وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ قَالَ الرَّجُلُ التَّافِهُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ». رواه ابن ماجه وأحمد،
وقال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كَيْفَ بِكُمْ وَبِزَمَانٍ». أَوْ «يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ زَمَانٌ يُغَرْبَلُ النَّاسُ فِيهِ غَرْبَلَةً تَبْقَى حُثَالَةٌ مِنَ النَّاسِ قَدْ مَرِجَتْ عُهُودُهُمْ وَأَمَانَاتُهُمْ وَاخْتَلَفُوا فَكَانُوا هَكَذَا». وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ فَقَالُوا وَكَيْفَ بِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ «تَأْخُذُونَ مَا تَعْرِفُونَ وَتَذَرُونَ مَا تُنْكِرُونَ وَتُقْبِلُونَ عَلَى أَمْرِ خَاصَّتِكُمْ وَتَذَرُونَ أَمْرَ عَامَّتِكُمْ» رواه أبو داود وغيره،
وفي سنن الترمذي: «كَيْفَ بِكُمْ إِذَا غَدَا أَحَدُكُمْ فِي حُلَّةٍ وَرَاحَ فِي حُلَّةٍ وَوُضِعَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ صَحْفَةٌ وَرُفِعَتْ أُخْرَى وَسَتَرْتُمْ بُيُوتَكُمْ كَمَا تُسْتَرُ الْكَعْبَةُ». قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مِنَّا الْيَوْمَ نَتَفَرَّغُ لِلْعِبَادَةِ وَنُكْفَى الْمُؤْنَةَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «لأَنْتُمُ الْيَوْمَ خَيْرٌ مِنْكُمْ يَوْمَئِذٍ».
فإذا كنت من هؤلاء المؤمنين القابضين على الجمر، والذين يصلحون ما أفسد الناس من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن هؤلاء الغرباء الذين لا يعتبرون بنظر الناس إليهم، وإنما فقط يعتبرون بنظر الله عز وجل لهم، فوطن نفسك، واعلم بأنك في أيام الصبر، وأن أجرك عظيم، وأنك كمن هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي صحيح مسلم: (عن النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ». قال الإمام النووي: (المراد بالهرج هنا: الفتنة، واختلاط أمور الناس).
أيها المسلمون
وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم: (لِلْعَامِلِ فِيهِمْ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلاً يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِهِ». قال العلماء: (هذا ليس على إطلاقه في كل عمل، وإنما يكون في الأعمال التي يشق فعلها وقت الفتن، وهُوَ مَبْنِيّ عَلَى قَاعِدَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا أَنَّ الْأَعْمَال تَشْرُف بِثَمَرَاتِهَا، وَالثَّانِيَة أَنَّ الْغَرِيب فِي آخِر الْإِسْلَام كَالْغَرِيبِ فِي أَوَّله، وَبِالْعَكْسِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «بَدَأَ الإِسْلاَمُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ» رواه مسلم.
فلا بد أن نعلم أن الصحابة لن يصل إلى درجاتهم أحد، ففي صحيح البخاري: (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ – رضي الله عنه – قَالَ قَالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – «لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلاَ نَصِيفَهُ»، فهذا الأجر يُرِيد به الْمُنْفَرِدِينَ عَنْ أَهْل زَمَانهمْ، فمثلا: (الْإِنْفَاق فِي أَوَّل الْإِسْلَام أَفْضَل) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام لِخَالِدِ بْن الْوَلِيد رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: (لَوْ أَنْفَقَ أَحَدكُمْ مِثْل أُحُد ذَهَبًا مَا بَلَغَ مَدّ أَحَدهمْ وَلَا نَصِيفه). أَيْ مُدَّ الْحِنْطَة وَالسَّبَب فِيهِ أَنَّ تِلْكَ النَّفَقَة أَثْمَرَتْ فِي فَتْح الْإِسْلَام وَإِعْلَاء كَلِمَة اللَّه مَا لَا يُثْمِر غَيْرهَا، وَكَذَلِكَ الْجِهَاد بِالنُّفُوسِ لَا يَصِل الْمُتَأَخِّرُونَ فِيهِ إِلَى فَضْل الْمُتَقَدِّمِينَ لِقِلَّةِ عَدَد الْمُتَقَدِّمِينَ وَقِلَّة أَنْصَارهمْ، فَكَانَ جِهَادهمْ أَفْضَل، وَلِأَنَّ بَذْل النَّفْس مَعَ النُّصْرَة وَرَجَاء الْحَيَاة لَيْسَ كَبَذْلِهَا مَعَ عَدَمهَا، وَلِذَلِكَ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: (أَفْضَل الْجِهَاد كَلِمَة حَقّ عِنْد سُلْطَان جَائِر). جَعَلَهُ أَفْضَل الْجِهَاد لِيَأْسِهِ مِنْ حَيَاته.
أَمَّا النَّهْي عَنْ الْمُنْكَر بَيْن ظُهُور الْمُسْلِمِينَ، وَإِظْهَار شَعَائِر الْإِسْلَام، فَإِنَّ ذَلِكَ شَاقّ عَلَى الْمُتَأَخِّرِينَ، لِعَدَمِ الْمُعِين، وَكَثْرَة الْمُنْكَر فِيهِمْ، كَالْمُنْكِرِ عَلَى السُّلْطَان الْجَائِر، وَلِذَلِكَ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: (يَكُون الْقَابِض عَلَى دِينه كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْر). فلَا يَسْتَطِيع دَوَام ذَلِكَ لِمَزِيدِ الْمَشَقَّة فَكَذَلِكَ الْمُتَأَخِّر فِي حِفْظ دِينه، وَأَمَّا الْمُتَقَدِّمُونَ فَلَيْسُوا كَذَلِكَ، لِكَثْرَةِ الْمُعِين وَعَدَم الْمُنْكَر، فَعَلَى هَذَا يَنْزِل الْحَدِيث،
وأيضا فإن هذا لا يقتضي تفضيل المؤمنين في وقت الفتن على الصحابة. قال الحافظ ابن حجر في الفتح: (حَدِيث لِلْعَامِلِ مِنْهُمْ أَجْر خَمْسِينَ مِنْكُمْ). لَا يَدُلّ عَلَى أَفْضَلِيَّة غَيْر الصَّحَابَة عَلَى الصَّحَابَة، لِأَنَّ مُجَرَّد زِيَادَة الْأَجْر لَا يَسْتَلْزِم ثُبُوت الْأَفْضَلِيَّة الْمُطْلَقَة، وَأَيْضًا فَالْأَجْر إِنَّمَا يَقَع تَفَاضُله بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يُمَاثِلهُ فِي ذَلِكَ الْعَمَل، فَأَمَّا مَا فَازَ بِهِ مَنْ شَاهَدَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ زِيَادَة فَضِيلَة الْمُشَاهَدَة فَلَا يَعْدِلهُ فِيهَا أَحَد.
أيها المسلمون
وللصبر ثمرات عظيمة، ومنها: أن الصابرين هم أهل الفوز والنجاة: قال تعالي عن المؤمنين: “إِنِّي جَزَيْتُهُمْ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمْ الْفَائِزُونَ) (111) المؤمنون، وكذلك بشرنا الله عز وجل بما يقال لأهل الجنة يوم القيامة: (سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) (24) الرعد، ومن ثمرات الصبر: أن الصابرين في معية الله تعالى، قال تعالى :”كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) (249) البقرة, والصابرون يوفون أجورهم بغير حساب: قال الله تعالى: “إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ” [الزمر:10]. ومن ثمرات الصبر: أن الله يعوض الصابرين خيرا: ففي سنن ابن ماجه: (عن سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاَءً قَالَ «الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ يُبْتَلَى الْعَبْدُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلاَؤُهُ وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَمَا يَبْرَحُ الْبَلاَءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ وَمَا عَلَيْهِ مِنْ خَطِيئَةٍ». ومن ثمرات الصبر: أن الصبر سبب لتكفير السيئات وزيادة الحسنات: ففي صحيح البخاري: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ «مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلاَ وَصَبٍ وَلاَ هَمٍّ وَلاَ حُزْنٍ وَلاَ أَذًى وَلاَ غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إِلاَّ كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ»، ومن ثمرات الصبر: أن الصبر سبب لهداية القلوب: يقول سبحانه: “وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ” [التغابن:11] قال علقمة: (هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله، فيرضى المسلم)، فمن أصابته مصيبة فعلم أنها من قدر الله فصبر، واحتسب واستسلم لقضاء الله هدى الله قلبه، وعوضه عما فاته من الدنيا هدى في قلبه، ويقينًا صادقًا، وقد يخلف عليه ما كان أخذ منه خيرًا.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (أَيَّامُ الصَّبْرِ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
مخطئ وواهم من تصور له أحلامه أن الحياة سهلة، وان دروبها مفروشة بالرمال الناعمة ،وأنها مزروعة بالورود والرياحين، فالحقيقة التي لا مراء فيها إن دروب الحياة مليئة بالأشواك، ومليئة بالمصاعب والعقبات والعراقيل، ولا يكاد امرؤ أن يخلو من البلايا والنوازل، والمؤمنون هم الأكثر ابتلاء دون غيرهم. فمن حكمة الله جل شأنه أن يبتلي عباده، وان يمتحن صدق إيمانهم في كثير من الأمور، كالخوف، والجوع، والفقر، وفقد الأحبة، والفراق، والخسارة في التجارة، ونقص الأموال، وغير ذلك من الأهوال والمصائب والشدائد، التي تحتاج إلى نفوس قوية بإيمانها، وعزائم جبارة تستطيع حمل هذه الأهوال والتعايش معها، والصبر عليها، دون تبرم، ودون أي اعتراض أو شكوى، بل رضا واحتسابا لله، مصداقا لقوله تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) (155): (157) البقرة، وقد أثنى الله على هؤلاء الذين اختبر إيمانهم فثبتوا وصبروا وصابروا، وقد تحروا الهداية من الله وقبلوها، وعملوا بها، فكانت لهم المغفرة، وقد وعدهم الله بالفوز العظيم، وبأنه سبحانه وتعالى سيوفيهم أجورهم، وسيعطيهم بتوسعة وبلا حساب، وبلا نهاية عظمى، يقول سبحانه: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (10) الزمر.
ولذلك، فإِذَا كَثُرَت عَلَيْكَ الفِتَنُ، ورَأَيْتَ النَاسَ يَنْحَرِفُونَ عَنِ الطَّرِيْقِ مِنْ حَوْلِكَ، فَاِصْبِرْ, وإِذَا كَثُرَت الفِتَنُ وَالـمُغْرِيَاتُ، وَزَادَتْ فِي النَّاسِ الـمَعَاصِي وَالـمُنْكَرَاتُ، فَاصبر، ولاَ بُدَّ لِلإِنْسَانِ أَنْ يَتَفَقَدَ جَذْوَةَ نُورِ الإِيْمَانِ فِي قَلْبِهِ لِئلَا تَنْطَفِئ، وَيَأْمُرَ مَنْ حَوْلَهُ بِالـمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الـمُنْكَرِ، وَإِنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ لَا يَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنْ إِنْكَارِ الـمُنْكَرِ باليَدِ أَوِ اللِّسَانِ، فَلَا بُدَّ مِنَ الِإنْكَارِ بِالقَلْبِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيْمَانِ، وَلَيْسَ دُونَ ذَلِكَ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيْمَانٍ،
واعلم أن السَائِرَ إِلَى اللهِ فِي جِهَادٍ حَتَى يَصِلَ إِلَى مُبْتَغَاهُ، وَإِنَّ النَّفْسَ جَمُوحَةٌ مُتَقَلِّبَةٌ، فَلَا يَأْمَنِ الإِنْسَانُ شَرَّهَا، وَلَا يَرْكَنْ إِلَى حَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ، رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيْحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: “بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا”.
الدعاء