خطبة عن (أنتَ على ثَغْرَةٍ فلا يُؤتى الإسلامُ مِن قِبَلك)
يناير 8, 2025الخطبة الأولى (أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ) (6): (8) الانفطار،
إخوة الإسلام
لقاؤنا اليوم -إن شاء الله تعالى- مع آية من كتاب الله الكريم: نتلوها، ونتدبر معانيها، ونتفهم مراميها، ونرتشف من نبعها الصافي، ورحيقها المختوم، مع قوله تعالى: (يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) (6): الانفطار:
يقول علماء التفسير: (يقول الله تعالى معاتبا للإنسان المقصر في حق ربه، المتجرئ على مساخطه: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ}، أتهاونا منك في حقوقه؟، أم احتقارا منك لعذابه؟، أم عدم إيمان منك بجزائه؟)،
وقال آخرون: (هذا تهديد، لا كما يتوهمه بعض الناس، من أنه إرشاد إلى الجواب، حيث قال: (بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ)، حتى يقول قائلهم: غره كرمه، بل المعنى في هذه الآية: (ما غرك يا ابن آدم بربك الكريم – أي العظيم- حتى أقدمت على معصيته، وقابلته بما لا يليق)،
وقال الشوكاني في تفسيره: (هذا خطاب الكفار: أي ما الذي غرك وخدعك حتى كفرت بربك الكريم، الذي تفضل عليك في الدنيا، بإكمال خلقك وحواسك، وجعلك عاقلا فاهما، ورزقك وأنعم عليك بنعمه التي لا تقدر، على جحد شيء منها)،
أيها المسلمون
في الآية خطاب لكل انسان غافل عن ربه، خدعته الدنيا، وغره الشيطان، وفيها تذكير له، ليعود إلى رشده، ويرجع إلى ربه، فيا أيها الإنسان: ما الذي جعلك تغتَرُّ بربك الجواد، كثير الخير، الحقيق بالشكر والطاعة، أليس هو الذي خلقك فسوَّى خلقك فعَدَلك، وركَّبك لأداء وظائفك، وفي أيِّ صورة شاءها خلقك؟، ويا أيها المعرض عن سبيل الله، المستكبر أو المتكاسل عن اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم, ما غرك بربك الكريم، سوى جهلك بالله، وجهلك بحقيقة نفسك, فالله تعالى هو من خلقك من ماء مستقذر, ثم سواك في بطن أمك، وعدلك على ظهر الأرض, وهو الذي صورك على هيئتك، التي لم تتدخل في اختيارها، حتى صرت تعانده وتعاديه، وتصد عن سبيله، وتعصي أوامره، وتنتهك محارمه، وفي مسند أحمد: (عَنْ بُسْرِ بْنِ جَحَّاشٍ الْقُرَشِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بَصَقَ يَوْماً فِي كَفِّهِ فَوَضَعَ عَلَيْهَا أَصْبُعَهُ ثُمَّ قَالَ «قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يا بَنِى آدَمَ أَنَّى تُعْجِزُنِي وقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ مِثْلِ هَذِهِ حَتَّى إِذَا سَوَّيْتُكَ وَعَدَلْتُكَ مَشَيْتَ بَيْنَ بُرْدَيْنِ وَلِلأَرْضِ مِنْكَ وَئِيدٌ فَجَمَعْتَ وَمَنَعْتَ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ قُلْتَ أَتَصَدَّقُ وَأَنَّى أَوَانُ الصَّدَقَةِ»، فاعرف قدر ربك، لتعرف قدر نفسك، واعرف عظمة ربك، لتعرف عجز نفسك، واعرف جلال ربك، لتعرف ضعف نفسك، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [فاطر:١٥ – ١٧]،
أيها الإنسان: إن ربك الكريم الحنان المنَّان، هو الذي أوجدك من العدم، وسوَّى خَلْقَك في أحسن صورة وأتمِّها، فجعلك معتدلَ القَامَة، جميلَ الصورة، بديعَ الخِلْقَة، أما ترى تناسبَ جوارحك، وعجائبَ حواسِّك، ووظائفَ أعضائك، وكيف تعمل وفق نظام عجيب، وخَلْقٍ بديع مُعجز، يشهد بعظمة الخالق جلَّ جلاله، وعِظَمِ منَّته عليك، وجميل عنايته بك، فلو شاء سبحانه لصوَّرك في صورة قبيحة، وخِلْقَةٍ مهينة، لكنه تعالى كرَّمكَ ورفعك، وفضَّلك على كثير من خلقه، قال تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) (70) الاسراء، فهل يليق بك مع هذا التكريم، أن تكذِّب بوعده، وتعصي أمره، وتتجرأ على حدوده، وحُرماته، فإن الكريم حقيقٌ بالشكر والطاعة جل جلاله، فعلى المسلم أن يتدبَّرَ هذه الآيات الكريمة، وأن يتَّعظ بها، فيعترفَ بمنة الله عليه، وإحسانه إليه، ولُطْفِه به، ويحمده على ذلك، ويحذرَ الغفلة والغرور، ويتذكَّرَ العرْض على الله تعالى، يومَ الدِّين.
أيها المسلمون
(مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ): فمن أعظم المفاسد الأخلاقية، التي يتعرض لها الأفراد والمجتمعات: الغرور: ذلك الداء الذي يدل على نقصان الفطنة، وطمس نور العقل والبصيرة، فينخدع العبد بما آتاه الله من أسباب القوة والجمال، وحطام الدنيا الفاني؛ فيتعالى على الناس، ويتكبر، ثم يتكبر على ربه وخالقه ومولاه، فلا يخضع له، ولا يقوم له بواجب العبودية، بل يسير وراء شهواته ونزواته، غير عابئٍ بنظر الله إليه، وغير مكترث بالناس من حوله، فقد زينت له نفسه المغرورة، وبررت له الأخطاء،
ومن الملاحظ: أن أحد الأسباب الباعثة على تمكن آفة (الغرور) من النفوس هو: الجهل، نعم، الجهل بحقيقة النفس، والجهل بحقيقة الحياة، والجهل بصفات الرب جل وعلا، فإذا جهل الإنسان كل هذه المعاني، رفع نفسه فوق قدرها، وترفع على الخلق، وتكبر على الخالق، فصار من المغرورين، فمن الناس من غرته الحياة الدنيا، ومنهم من غره بالله الغرور، أما الذين غرتهم الحياة الدنيا فهم الذين قالوا: الدنيا خير من الآخرة، فلا بد من إيثارها، وقالوا: اليقين خير من الشك، ولذات الدنيا يقين، ولذات الآخرة شك، فلا نترك اليقين للشك، وغفل هؤلاء عن قول الله تعالى: (مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (96)، (97) النحل،
وهناك غرور العصاة من المؤمنين، بقولهم: (إن الله كريم، وإنا نرجو عفوه)، واتكالهم على ذلك، وإهمالهم الأعمال الصالحة، ونجيب هؤلاء بقولنا: إن الرجاء مقام محمود في الدين، وأن نعمة الله واسعة، ورحمته شاملة، ولكنها تطلب بالإيمان، فالشيطان لا يغوي الإنسان إلا بمثل هذا القول، ولولا حسن الظاهر لما انخدع به القلب، وفي سنن الترمذي وغيره: (عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ». فهذا التمني على الله غّير الشيطان اسمه فسماه رجاء، حتى خدع به الجهال ، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (218) البقرة،
فالرجاء محمود في موضعين: أحدهما: في حق العاصي المنهك، إذا خطرت له التوبة، فيقنطه الشيطان، هنا يقمع القنوط بالرجاء، ويتذكر قوله تعالى: (قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ) الزمر (53)، (54)
ثانيهما: في حق من تغتر نفسه عن فضائل الأعمال، ويقتصر على الفرائض، فيرجّي نفسه نعيم الله تعالى، وما وعد به الصالحين، حتى ينبعث من رجائه نشاط العبادة، فيقبل على الفضائل، ويتذكر قوله تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) المؤمنون: (1): (11)
وهناك غرور طوائف لهم طاعات ومعاص، إلا أن معاصيهم أكثر، وهم يتوقعون المغفرة، ويظنون أنهم بذلك تترجح كفة حسناتهم، مع أن ما في كفة السيئات أكثر، وهذا غاية الجهل ،فترى الواحد يتصدق بدراهم من الحلال والحرام، وما يتناوله من أموال المسلمين أضعاف ذلك، ويظن أن إنفاق عشرة في الصدقة يكفرّ عن مائة من مشبوه المال، وذلك غاية في الجهل والاغترار.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
ومن أعظم الغرور أن ترى المولى عز وجل يُتابع عليك نعمه، وأنت مقيم على ما يكره، فالشيطان وكّل بالغرور، وطبع النفس الأمارة الاغترار، فإذا اجتمع الرأي والبغي والشيطان الغرور، والنفس المغترة، فالشياطين غروا المغترين بالله، وأطمعوهم – مع إقامتهم على ما يسخط الله ويبغضه – في عفوه وتجاوزه، وحدثوهم بالتوبة، لتسكن قلوبهم، ثم دافعوهم بالتسويف، حتى هجم الأجل، فأُخذوا على أسوأ أحوالهم، قال تعالى: (يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (14)، (15) الحديد،
وأعظم الناس غرورا بربه: من إذا مسه الله برحمة منه وفضل قال “هذا لي” أي أنا أهله، وجدير به، ومستحق له، فتأمل وتدبر قوله تعالى: (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا) (35)، (36) الكهف، ففي هذه الآيات مشهد الإنسان الذي غلبه غروره عن إدراك حقيقة الحياة، فغرور الإنسان بما أعطته الدنيا يصرفه عن التفكير في مآله بعد أن يرحل عنها.
ونسيان ساعة الحساب، كان أصل العلة التي ضربت فرعون موسى، فأوردته موارد الهلاك، فنبي الله موسى (عليه السلام) يستعيذ بالله من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب: «وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّى وَرَبِّكُم مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَّا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ» غافر:27. فنسيان حساب الآخرة، ينعكس على أداء الإنسان وسلوكه، فيما أعطاه الله في الدنيا.
فالله عز وجل يحذرك من الوصول إلى هذا الحال، ويعلمك بقرب وقوفك بين يديه للحساب والجزاء، في يوم تشيب لهوله الولدان، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) (لقمان:33).
الدعاء