خطبة عن (اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ)
يوليو 21, 2024خطبة عن (فضائل لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) مختصرة
يوليو 22, 2024الخطبة الأولى (إياك والغش)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
قال تعالى: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) (1): (3) المطففين، وقال تعالى: (فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا) الاعراف:85، وروى الإمام مسلم في صحيحه: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَرَّ عَلَى صُبْرَةِ طَعَامٍ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلاً فَقَالَ «مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ». قَالَ أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ «أَفَلاَ جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ كَيْ يَرَاهُ النَّاسُ مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي».
إخوة الإسلام
لقد نهى الإسلام الحنيف، والشرع الحكيم عن الغش، في جميع صوره ومظاهره, بل وتوعد من غش بالويل والخسران, فقال تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينْ. الّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُون. وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} [المطففين:1-3]. وكذلك حذّر النبي صلى الله عليه وسلم من الغش، وتوعّد فاعله، ففي الصحيحين: (أن رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ «مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إِلاَّ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ». فالغش كبيرة من كبائر الذنوب؛ ففي صحيح مسلم: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلاَحَ فَلَيْسَ مِنَّا، وَمَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا». وكفى بهذا اللفظ النبوي: (فَلَيْسَ مِنَّا) زاجراً عن الغش، ورادعاً من الولوغ في حياضة الدنسة النجسة، وحاجزاً من الوقوع في مستنقعه الآسن، ولذلك، فنحن في أشد الحاجة إلى عرض هذا الوعيد على القلوب، لتحيا به الضمائر، فتراقب الله تعالى في أعمالها، دون أن يكون عليها رقيب من البشر، فمضار الغش وخيمة، ونتائجه عظيمة، فمن مضار الغش: أنه طريق موصل إلى النار، ودليل على دناءة النفس وخبثها، فلا يفعله إلا كل دنيء نفس، هانت عليه، فأوردها مورد الهلاك والعطب، ومن مضار الغش: البعد عن الله وعن الناس، وأنه طريق لحرمان إجابة الدعاء، وطريق لحرمان البركة في المال والعمر، ودليل على نقص الإيمان، ومن مضار الغش: أنه سبب في تسلط الظلمة والكفار، قال ابن حجر: “ولهذه القبائح – أي الغش – التي ارتكبها التجار، والمتسببون، وأرباب الحرف والبضائع، سلط الله عليهم الظلمة فأخذوا أموالهم، وهتكوا حريمهم، وبل وسلط عليهم الكفار فأسروهم واستعبدوهم، وأذاقوهم العذاب والهوان ألواناً) .
أيها المسلمون
وللغش صور ومظاهر متعددة، ومنها: الغش في البيع والشراء: وما أكثره في زماننا هذا، ويكون الغش فيهما بمحاولة إخفاء العيب، ويكون بالغش في ذاتية البضاعة، أو عناصرها أو كميتها، أو وزنها، أو صفاتها الجوهرية، أو مصدرها، قال ابن تيمية: (والغش يدخل في البيوع بكتمان العيوب، وتدليس السلع، مثل أن يكون ظاهر المبيع خيرًا من باطنه، كالذي مرَّ عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأنكر عليه). (ويدخل الغش في الصناعات مثل الذين يصنعون المطعومات من الخبز، والطبخ، والعدس، والشواء وغير ذلك، أو يصنعون الملبوسات كالنسَّاجين، والخيَّاطين، ونحوهم، أو يصنعون غير ذلك من الصناعات، فيجب نهيهم عن الغش والخيانة والكتمان)
ومن صور الغش: الغش في الزواج: ومن مظاهره: أن بعض الآباء قد يخفي مرضاً أو عيباً في ابنته، ولا يبنه للخاطب، ليكون على بينة من أمره، فإذا دخل بها اكتشف ما فيها من مرض أو عيب، ومنهم: من يقدم ابنته الصغيرة البكر للخاطب، ويوم البناء – ليلة العرس – يجدها الكبيرة الثيب، أو تملأ الفتاة وجهها بكل الألوان والأصباغ، لتبدو جميلة في عينيه، ولو نظر إليها دون هذا القناع من المساحيق، لما وقعت في عينيه موقع الرضا، ومن الغش في الزواج: أن يعمد الخاطب إلى التشبع بما لم يعط ، فيُظهر أنه صاحب جاه، وأنه يملك من العقارات والسيارات الشيء الكثير، بل ويسعى إلى استئجار سيارة فارهة ليُظهر بأنه يملك، ولا يملك في الحقيقة شيئاً، ومن الغش كذلك: أن يعمد بعض الناس إلى تزكية الخاطب عند من تقدم لهم، ومدحه والإطراء عليه، وأنه من المصلين الصالحين، مع أن هذا الخاطب لا يعرف للمسجد طريقاً.
ومن صور الغش: الغش في النصيحة: وذلك بعدم الإخلاص فيها، والقصد من بذلها أغراض دنيوية، فالمؤمن مرآة أخيه، فإذا رأى فيه عيباً أصلحه، والنصيحة تكون بكف الأذى عن المسلمين، وتعليمهم ما يجهلونه من دينهم، وإعانتهم عليه بالقول والفعل، وستر عوراتهم، وسد خلاتهم، ودفع المضار عنهم، وبجلب النافع لهم، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، وفي صحيح مسلم: (أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «الدِّينُ النَّصِيحَةُ» قُلْنَا لِمَنْ قَالَ «لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ».
ومن صور الغش: غش الراعي للرعية، وغش الرعية للراعي: ففي صحيح البخاري: (عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ عَادَ مَعْقِلَ بْنَ يَسَارٍ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ فَقَالَ لَهُ مَعْقِلٌ إِنِّي مُحَدِّثُكَ حَدِيثًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – سَمِعْتُ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – يَقُولُ «مَا مِنْ عَبْدٍ اسْتَرْعَاهُ اللَّهُ رَعِيَّةً، فَلَمْ يَحُطْهَا بِنَصِيحَةٍ، إِلاَّ لَمْ يَجِدْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ»، وهذا الوعيد الشديد يدخل فيه كل من استرعاه الله رعية، سواء كانت صغيرة أم كبيرة، ابتداء من أفراد الأسرة، ونهاية بولي أمر المسلمين، فيجب على الجميع النصح لرعيته، وعدم غشهم، فالموظف يجب عليه أن ينصح في وظيفته، والأب يجب عليه أن ينصح أولاده، قال ابن القيم رحمه الله: “وكم ممن أشقى ولده وفلذة كبده في الدنيا والآخرة بإهماله وترك تأديبه، وإعانته على شهواته، ويزعم أنه يكرمه وقد أهانه، وأنه يرحمه وقد ظلمه، ففاته انتفاعه بولده، وفوت عليه حظه في الدنيا والآخرة، وإذا تأملت الفساد في الأولاد، رأيت عامته من قبل الآباء)، وقال ابن عثيمين: (من الأسباب التي يستحق فاعلها دخول النار، دون الخلود فيها: الغش للرعية، وعدم النصح لهم، بحيث يتصرف تصرفًا ليس في مصلحتهم، ولا مصلحة العمل)، وأما غش الرَّعيَّة للرَّاعي: (فيكون بمدحه، وإطرائه بما ليس فيه؛ كأن يذكروا له أعمالًا وإنجازات لم يعملها، أو بعدم نصحه إذا ما رأوا منه منكرًا، أو غير ذلك).
ومن صور الغش: الغش في الامتحان: وما أكثر طرقه ووسائله بين الطلاب والطالبات، والسبب في ذلك: هو ضعف الوازع الديني، ورقة الإيمان، وقلة المراقبة لله تعالى، أو انعدامها، قال ابن باز رحمه الله : ” فلا يجوز للطلبة والطالبات الغش في جميع المواد لعموم الحديث (مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي)
ومن صور الغش: الغش في القول: وذلك عند إدلاء الشاهد بالشهادة، فيشهد بشهادة فيها زور وبهتان وكذب، ونحو ذلك، ففي الصحيحين: (عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ – رضي الله عنه – قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – «أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ» . قُلْنَا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ «الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ». وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ فَقَالَ «أَلاَ وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ، أَلاَ وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ». فَمَا زَالَ يَقُولُهَا حَتَّى قُلْتُ لاَ يَسْكُتُ). وفي مسند أحمد: (عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- «إِنَّ بَيْنَ يَدَىِ السَّاعَةِ تَسْلِيمَ الْخَاصَّةِ وَفُشُوَّ التِّجَارَةِ حَتَّى تُعِينَ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا عَلِى التِّجَارَةِ وَقَطْعَ الأَرْحَامِ وَشَهَادَةَ الزُّورِ وَكِتْمَانَ شَهَادَةِ الْحَقِّ وَظُهُورَ الْقَلَمِ»
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (إياك والغش)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
ومن صور الغش: الغش في تعلُّم العلم: كأن يحصل على شهادة لا يستحقها، وقد يتبوأ بها منصبًا، وهو ليس أهلًا لذلك المنصب، وبهذا الغش يخرج جيل جاهل، غير مؤهل لقيادة الأمة. ومن صور الغش: عدم الوفاء بالعقود: كالعقود التي تعمل في الإنشاءات، والمقاولات ،وغيرها من المعاملات التي أبرمت فيها العقود، فعدم الوفاء بها يعتبر من الغش المحرم، والله سبحانه يأمر بالوفاء، وعدم الغش، حيث يقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ} [المائدة:1].
ومن صور الغش أيضًا: ترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وعدم الإنكار على الأصحاب والأقارب، محاباة لهم ومداهنة، فحق هؤلاء على المسلم أن ينصحهم، ويأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، فإن لم يفعل فقد غشهم.
هذه هي بعض مظاهر الغش في المجتمعات، وهي غيض من فيض، وقطرة من بحر، ليحيا بها من حيي عن بينة، ويهلك من هلك على بينة، وعلى كل من وقع في صورة من صور الغش أن يتقي الله، وأن يستشعر رقابة علام الغيوب، ويتذكر عقابه وعذابه، ويعلم أن الدنيا فانية، وأن الحساب واقع، على النقير والفتيل والقطمير.
الدعاء