خطبة عن (أنواع النفوس)
أغسطس 8, 2023خطبة عن (النظر في عواقب الأمور ومآلاتها)
أغسطس 9, 2023الخطبة الأولى (إياك وذنوب الخلوات)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
روى ابن حبان في صحيحه، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة، وضعفه غيرهم: (عَنْ أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَا كَرِهَ اللَّهُ مِنْكَ شَيْئًا، فَلَا تَفْعَلْهُ إِذَا خَلَوْتَ).
إخوة الإسلام
من الواجب على كل مسلم أن يحذر من الوقوع في الذنوب والمعاصي، وخاصة ذنوب الخلوات ,فذنوب الخلوات تعني: اقتراف العبد للذنب في سرّه أو خلوته، وهي شكلٌ من أشكال النفاق والرياء والخبث، والله تعالى قد ذم من يستخفي بذنبه من الناس، ولا يستخفي من الله، فقال الله تعالى: (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً) النساء:108. كما روى ابن ماجه وصححه الألباني: (عَنْ ثَوْبَانَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: (لأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا) قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لاَ نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لاَ نَعْلَمُ، قَالَ: (أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا). وفي صحيح مسلم: (عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ الأَنْصَارِيِّ قَالَ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنِ الْبِرِّ وَالإِثْمِ فَقَالَ «الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ وَالإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ».
كما حذر السلف الصالح من ذنوب الخلوات: يقول ابن عباس رضي الله عنه وهو يُفسِّر قوله تعالى: ﴿ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ غافر (19)، قال: (هُوَ الرَّجُلُ يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِ الْبَيْتِ بَيْتَهُمْ – سواء كان بيت جاره أو صديقه أو أحد أقاربه- وَفِيهِمُ الْمَرْأَةُ الْحَسْنَاءُ، أَوْ تَمُرُّ بِهِ وَبِهِمُ الْمَرْأَةُ الْحَسْنَاءُ، فَإِذَا غَفَلُوا لَحَظَ إِلَيْهَا، فَإِذَا فَطِنُوا غَضَّ، فَإِذَا غَفَلُوا لَحَظَ، فَإِذَا فَطِنُوا غَضَّ [بَصَرَهُ عَنْهَا] وَقَدِ اطَّلَعَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِهِ أَنَّهُ وَدَّ أَنْ لَوِ اطَّلَعَ عَلَى فَرْجِهَا)، وقال أيضا عن المذنب في الخلوات: “وخوفك من الريح إذا حرَّكت سِترَ بابك وأنت على الذنب، ولا يضطرب فؤادك من نظر الله إليك أعظم من الذنب إذا عمِلته”.
ويقول العابد الزاهد بِلَالُ بْنُ سعد رحمه الله: (لَا تَكُنْ وَلِيًّا للَّه فِي العلانية وعدوَّه في السِّرِّ، ولا
تكن عدوَّ إبليس والنفس والشهوات في العلانية وصديقهم فِي السِّرِّ)،
ويقول ابن رجب: “خاتمة السوء تكون بسبب دسيسةٍ باطنة بين العبد وربه”.
فإذا كان المرء يوقِنُ فعليًّا أن الله تعالى يراه ومُطَّلِعٌ عليه، فكيف يتجرَّأ على معصيته؟! وكيف يجعل الله أهون الناظرين إليه؟! فيهتم لنظر الناس، ولا يهتمُّ لنظر الله تعالى! وأين نحن من قوله تعالى: ﴿ أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى ﴾ [العلق: 14]، فرب العالمين جلَّ جلالُه يسمع ويرى، وهو مُطَّلِع على الصغيرة والكبيرة، وستعرض عليك أعمالك يوم القيامة بالصوت والصورة، قال تعالى: ﴿ وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 49]. فأصحاب ذنوب الخلوات نسوا أو تناسوا أن الله بكل شيء عليم، وأنه سبحانه: {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} المجادلة (7).
فعلى كل مسلم أن يربي نفسه على الخوف من الله في السر والعلن، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} الملك (12)، وقال تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} الرحمن (46)، وقال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} النازعات (40)، (41)
أيها المسلمون
ومن المعلوم أن لذنوب الخلوات آثارا سيئة في الدنيا والآخر: فذنوب الخلوات إذا لم يتب العبد منها، تكون سببا في انتكاسته، وتتغير أحواله إلى الأسوإ، قال ابن القيم: “أجمع العارفون بالله أن ذنوب الخلوات هي أصل الانتكاسات”.
وذنوب الخلوات هي عنوان كبير لضعف تعظيم الله في قلب العبد. قال ابن الجوزي:” الحذر الحذر من الذنوب، خصوصًا ذنوب الخلوات، فإن المبارزة لله تعالى تُسقط العبد من عينه، وأصلح ما بينك وبينه في السر، وقد أصلح لك أحوال العلانية ” “صيد الخاطر”، و قال ابن الأعرابي: “أخسر الخاسرين من أبدى لِلنَّاسِ صَالِح أعماله، وبارز بالقبيح من هُوَ أقرب إِلَيْهِ من حبل الوريد”. وقال ابن الجوزي: “وقد يُخفي الإنسان ما لا يرضاه الله عز وجل فيُظهِره الله سبحانه عليه ولو بعد حين، ويُنطِق الألسنة به وإن لم يشاهده الناس، وربما أوقع صاحبه في آفة يفضحه بها بين الخلق، فيكون جوابًا لكل ما أخفى من الذنوب، وذلك ليعلم الناس أن هناك من يُجازي على الزلل”، وفي الصحيحين: قال صلى الله عليه وسلم:« إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ، وَهْوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ)
والذنوب والخطايا سواء في الخلوات أو في الجلوات هي من أسباب قلة التوفيق، وحرمان الرزق، ففي سنن ابن ماجه وحسنه الألباني: (عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «لاَ يَزِيدُ فِي الْعُمْرِ إِلاَّ الْبِرُّ وَلاَ يَرُدُّ الْقَدَرَ إِلاَّ الدُّعَاءُ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ ».
ومن الآثار السيئة لذنوب الخلوات: عَدَمُ كَمالِ العُبودِيَّةِ، فإذا اسْتَوَتْ سَريرَةُ العَبْدِ وعَلانِيَتُه؛ كان عَبْداً حقًّا. والسَّيِّئاتُ في الخَلَواتِ تَنْسِفُ الحَسَناتِ الظاهِراتِ،
فيا أصحاب الذنوب في الخلوات، يا من تجلس على جوَّالك وتنظر الى الحرام، ويا من تُراسِل البنات والمتزوِّجات وتعبث بأعراض الناس، ويا من تستمع للحرام، وتتكلَّم بالحرام، وتتعامل بالحرام، تذكَّر يا أخي أن ذنوب الخلوات تُسْقِطك من عين، وتجعل حسناتك هباءً منثورًا، وتجعلك تموت على سوء الخاتمة، فهل من توبة صادقة من هذه الذنوب؟ وهل من رجوع حقيقي إلى الله، قال تعالى: ﴿وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [الحشر: 18، 19].
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (إياك وذنوب الخلوات)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
أما عن العلاج من ذنوب الخلوات، فيكون أولا: بالالتجاء إلى الله تعالى بالدعاء, والتضرع إليه ، أن يصرف عنك الذنوب والمعاصي، قال تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) البقرة/ 186. والعلاج يكون أيضا: بمجاهدة النفس، ودفع وسوستها، وتزكيتها بطاعة الله، قال تعالى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا. فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا . قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا . وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) الشمس 7: 10، وقال تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) العنكبوت:69 .
والعلاج من ذنوب الخلوات يكون أيضا: باستشعار مراقبة الله تعالى، وأنه رقيب، ومطلع عليك في كل حال. فيستشعر المسلم استحياءه من الله أكثر من استحيائه من الخلق, وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (واستحي من الله استحياءك رجلاً مِنْ أهلكَ) صححه الألباني رحمه الله في “السلسلة الصحيحة”
والعلاج يكون بتذكر الموت، وجزاء المذنبين، وتذكر ما أعده الله لعباده الصالحين من جنة عرضها السموات والأرض، قال تعالى: (أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ) فصلت:40 . ومن طرق علاج ذنوب الخلوات: أن تقلل من الخلوات: فلا تجلس وحدك، فبعض المعاصي تستثار بالخلوة، فحين يختلي الإنسان يقوى سلطان الشيطان عليه، فتتحرك شهوته لارتكاب المعصية.
ألا فاحذروا ذنوب الخلوات فهن المهلكات، وهنيئا لمن كان باطنه وسره أفضل وأطهر من ظاهره وعلانيته، وخلواته أصدق مع الله تعالى من جلواته،
الدعاء