خطبة عن الهروب من النار ،وحديث ( وَإِنِّي مُمْسِكٌ بِحُجَزِكُمْ أَنْ تَهَافَتُوا فِي النَّارِ )
أكتوبر 18, 2025الخطبة الأولى (إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (7) المجادلة، وقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) (38) فاطر، وقال تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) (3) سبأ، وقال تعالى: (يَابُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) (16) لقمان، وقال تعالى: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) (47) الأنبياء.
إخوة الإسلام
لقاؤنا اليوم -إن شاء الله تعالى- مع هذه الآيات، وقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (7) المجادلة، ففي هذه الآيات يخبر الله سبحانه وتعالى عن سَعةِ عِلمِه، وأنَّه سبحانه وتعالى عالمٌ بغَيبِ السَّمَواتِ والأرضِ، وعَليمٌ بالنِّيَّاتِ، وبما أسَرَّتْه الضَّمائرُ، وأن علم الله تعالى شامل ومحيط بكل شيء، ولا يغيب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، وهو يعلم الماضي والحاضر والمستقبل، سواء كان ذلك الشيء قليلاً أو كثيراً، ظاهراً أو خفياً، فعلمه يحيط بكل ما غاب عن أبصار الخلق، وعن علمهم بما في السماوات والأرض، ويعلم ما تخفيه الصدور من خير أو شر، وهو عليم بما في السرائر والخفايا، وأنه سبحانه لا يَخْفَى عليه ما تَنْطوي عليه الصُّدورُ مِن المُضمَراتِ، وهو سبحانه يَعلَمُ مِن الكافِرِ أنَّه تَمكَّنَ الكُفرُ في قَلبِه، بحيث لو دامَ إلى الأبَدِ ما آمَنَ باللهِ ولا عَبَدَه،
وقَولِه تعالى: (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) (38) فاطر، فيه تَّحذير مِن أن يُضمِرَ الإنسانُ في قَلبِه ما لا يَرضاه اللهُ تعالى، ثمَّ تُحَدِّثُه نَفْسُه بأنَّ هذا لا يَطَّلِعُ عليه إلَّا اللهُ، فيَغتَرُّ بإمهالِ اللهِ له، وفي شرح النووي على صحيح مسلم: في قوله صلى الله عليه وسلم: “الله أعلم بما كانوا عاملين”: قال: (فيه بيان لمذهب أهل الحق أن الله علم ما كان, وما يكون, وما لا يكون لو كان كيف كان يكون), فالله سبحانه قد أحاط بكل شيءٍ علماً، وكتبه في اللوح المحفوظ ، قال تعالى: (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) (61) يونس، وقال الله سبحانه عن نفسه: (إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) (33) البقرة، ومفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو كما قال سبحانه: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) الانعام، (59)،
والله وحده هو الذي يعلم قيام الساعة، ونزول المطر، وما في الأرحام، وعمل الإنسان، وزمان ومكان أجله قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) لقمان (34) ،وهو سبحانه معنا ولا يخفى عليه شيء من أمرنا، قال تعالى: (يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) الحديد (4)، والله مطلع علينا، ويعلم أعمالنا خيراً كانت أو شراً، ثم يخبرنا بها، ويجازينا عليها يوم القيامة، قال سبحانه: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (7) المجادلة، والله سبحانه يعلم وحده الغيب والشهادة، والسر والجهر، كما قال سبحانه عن نفسه: (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9) سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ) (9)، (10) الرعد، وقال سبحانه: (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى) (7) طه.
أيها المسلمون
وقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)، فالناس لا يعلمون إلا ما شاء الله لهم أن يعلموه، فهو سبحانه الذي علم عباده ما فيه مصالحهم في الدنيا والآخرة، والعباد لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء، ولذا قال لنبيه ﷺ: (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [الأعراف:188]، فالله يوحي إلى الرسل ما شاء كما أوحى إلى نبينا ﷺ أشياء كثيرة من أمر الآخرة وأمر القيامة وأمر الجنة والنار، وما يكون في آخر الزمان من الدجال ومن المسيح، وأمر الكعبة، ويأجوج ومأجوج، وغير ذلك مما يكون آخر الزمان، كل هذا من علم الغيب، أوحى الله به إلى نبيه ﷺ وعلمنا إياه وصار معلومًا للناس. وورد في حديثِ قِصَّةِ الخَضِرِ مع موسى عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ: (فلمَّا ركبا في السَّفينةِ جاء عصفورٌ فوقع على حَرفِ السَّفينةِ، فنَقَر في البَحرِ نُقرةً أو نُقرَتَينِ. قال له الخَضِرُ: يا موسى، ما نَقَص عِلْمي وعِلْمُك مِن عِلمِ اللهِ إلَّا مِثلَ ما نقص هذا العُصفورُ بمنقارِه من البَحرِ)
أيها المسلمون
ألا ما أعظم الرب سبحانه، وما أوسع علمه الذي يبهر عقول العقلاء، ويذهل أفئدة النبلاء، ولا يحيط أحدا بشيء من علمه إلا بما شاء، وإذا كان العبد يعلم أن الله بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، فليتق الله ربه، وليحذر من معصيته حتى لا يتعرض لعقوبته، قال تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) (235) البقرة، فمن الآثار الإيمانية بأن الله بكل شيء عليم: أن يتيقن المؤمن دائماً أن الله عليم بما يصنعه بجوارحه، وما يعزم عليه في قرارة نفسه، علماً يجعله دائماً نزَّاعاً للطاعات، مسارعاً إلى الخيرات، مجانباً للسيئات، مراقباً لنفسه بنفسه، وحذراً من نفسه على نفسه، فيحقق المراقبة لله، فيترقى المؤمن من درجة الإيمان إلى مرتبة الإحسان، وهي :« أن تعبد الله كأنك تراه»، «وأن تخشى الله كأنك تراه»، فالغفلة عن هذا المعنى تجعل الإنسان يقتحم بحر الذنوب العميق، ويخوض غماره خوضَ الجسور لا خوضَ الجبان الحذور، وتجعله يتوغل في كل مظلمة، ويتهجم على كل مشأمة، فإذا بلغ علمه اليقين الجازم أن الله يطّلع على خفايا الإنسان، ويحاسبه عليها، ويجازيه حتى على نياته، ويراقبه حتى على خلجاته؛ وَرِث الهيبة من قربان حدودها، فبقدر قوة إيمان الإنسان بسعة علم الله تزداد خشيته، ويعظم ورعه، ويحسن عمله، وترتدع نفسه، ومن آثار الاعتقاد بأن الله عز وجل- بكل شيء عليم: فهذا الاعتقاد يورث المؤمن تعظيم الله والرضا عنه والتسليم لمقاديره حلوها ومرها، فيجعل الإنسان يعتدل في حياته، فلا تبطره النعمة، ولا تقنطه المصيبة، لعلمه أن الجميع من عند الله، وأن ذلك بعلم الله ومشيئته.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
ومن آثار الاعتقاد بأن الله عز وجل- بكل شيء عليم: أن اليقين بعلم الله تعالى للأمور قبل وقوعها وكتابتها عنده سبحانه في اللوح المحفوظ قبل خلقها، يثمر في قلب العبد طمأنينة إزاء ما يقضيه الله تعالى من الأحكام القدرية كالمصائب، والمكروهات التي لم تحدث إلا بعلم الله تعالى وحكمته وأنها ليست عبثًا ولعبًا. قال الله تعالى: (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) [التوبة:٥١]، وقال تعالى: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) [الحديد:٢٢،٢٣]،
ومن آثار الاعتقاد بأن الله عز وجل- بكل شيء عليم: أن يقين العبد بعلم الله تعالى الشامل لكل شيء، ومن ذلك علمه سبحانه بحال عبده المصاب وما يقاسيه من الآلام، فذلك يثمر في القلب الرجاء والأنس بالله تعالى ويدفع اليأس والقنوط من القلب، لأن العبد إذا أيقن أن ربه سبحانه يعلم حاله ولا تخفى منه خافية في ليل أو نهار في بر أو بحر أو سماء، فإن ذلك يثمر في قلب المؤمن تعلقه بربه تعالى العالم بأحوال عباده، فيتضرع بين يديه، ويوجه شكواه إليه، ويلقي بحاجته عند بابه. فإذا وافق هذا الانطراح والانكسار حسن ظن بالله تعالى وقوة اضطرار، لم تتخلف الإجابة، وجاءه الفرج من ربه العليم الحكيم، البر الرحيم.
ومن آثار الاعتقاد بأن الله عز وجل- بكل شيء عليم: تثبيت المؤمنين في ميدان الصراع والنزال مع الباطل وأهله، الحرص على التزود من العلم النافع، وكذا التواضع لله تعالى وللخلق بهذا العلم، وعدم التكبر والفخر به، وهذا إنما يتأتى باليقين بأنه لا علم من علوم الدين والدنيا إلا من الله عز وجل: (قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا) [البقرة:٣٢]، وقال سبحانه: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا) [النحل:٧٨]،
الدعاء