خطبة عن (إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ)
يناير 15, 2025الخطبة الأولى (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول نبي الله يوسف: (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (100) يوسف، وقال تعالى: (اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ) (19) الشورى
إخوة الإسلام
القرآن الكريم: هو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، والصراط المستقيم، من عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم، واليوم -إن شاء الله تعالى- لقاؤنا مع قول يوسف: (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ)، وقوله تعالى: (اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ).
فاللطيف اسم من أسماء الله الحسنى، وله معنيان: أحدهما: بمعنى الخبير، وهو أنَّ علمه دقَّ ولَطف، حتى أدرك السرائر والضمائر والخفيات، وقد روى مسلم في صحيحه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على عائشة ليلة: (فقَالَ «مَا لَكِ يَا عَائِشُ حَشْيَا رَابِيَةً». قَالَتْ قُلْتُ لاَ شَيْءَ. قَالَ «لَتُخْبِرِينِي أَوْ لَيُخْبِرَنِّي اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ»، …فأَخْبَرَتُه، وقالت: مَهْمَا يَكْتُمِ النَّاسُ يَعْلَمْهُ اللهُ”
والمعنى الثاني: اللطيف الذي يوصل أولياءه وعباده المؤمنين إلى الكرامات والخيرات، بالطرق التي يعرفون والتي لا يعرفون، وبالذي يحبون، والذي يكرهون، فيلطف بأوليائه، فييسرهم لليسرى، ويجنبهم العسرى، ويلطف لهم، فيقدر أمورًا خارجية، عاقبتها تعود إلى مصالحهم ومنافعهم، ولهذا قال يوسف صلى الله عليه وسلم: ﴿إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ﴾ [يوسف:100] أي حيث قدَّر أمورًا كثيرة خارجية، عادت عاقبتها الحميدة إلى يوسف وأبيه، وكانت في مبادئها مكروهة للنفوس، ولكن صارت عواقبها أحمدَ العواقب، وفوائدها أجلَّ الفوائد، فيوسف أُلقي في الجب، وهو مظنة الهلكة، ثم بيع عبدا، وهذا مظنة الاستمرار في العبودية، ثم اتهم بامرأة العزيز فسجن، وهذا مظنة البقاء في السجن إلى الموت؛ ولكن ألطاف الله عز وجل على غير حسابات البشر؛ إذ جعل ابتلاءات يوسف (عليه السلام) هي السلم الذي يوصله للتمكين في الأرض؛ فجعله على خزائن الأرض، وجيء بأبويه وإخوته إليه، فجعل سبحانه ابتلاءات يوسف ممهدات لرفعة منزلته، وعلو مكانته، وذلك بلطفه الخفي سبحانه، بحيث لم يشعر يوسف بذلك، ولا شعر به إخوته الذين مكروا به.
أيها المسلمون
ولطف الله سبحانه وتعالى بعباده له صور وأشكال متعددة، ومنها: أنه سبحانه يرحمهم من طاعة أنفسهم الأمَّارة بالسوء، فيوفقهم لنهي النفس عن الهوى، ويصرف عنهم السوء والفحشاء، ومن لطفه بعباده: أنه يقدر أرزاقهم بحسب علمه بمصلحتهم، لا بحسب مراداتهم ،فيقدر لهم الأصلح، وإن كرهوه، لطفًا بهم، وبرًّا وإحسانًا، قال تعالى: ﴿اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ﴾ [الشورى:19]، وقال تعالى: ﴿وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾ [الشورى: 27].
ومن لطف الله بعباده: أنه سبحانه يُقدرُ عليهم أنواع المصائب، والمحن والابتلاء، رحمة بهم، ولطفًا، وسوقًا إلى كمالهم، وكمال نعيمهم، قال تعالى: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 216]، وكذلك يذيق عبده المؤمن حلاوة بعض الطاعات، فينجذب إليها، ويرغب فيها، وتصير له ملكة قوية على فعل طاعات أجلّ
ومن لطفه بعبده: أن يُقدر له أن يتربى في ولاية أهل الصلاح، والعلم والإيمان، وبين أهل الخير، ليكتسب من أدبهم وتأديبهم، وينشأ على صلاحهم وإصلاحهم، قال تعالى: ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا﴾ [آل عمران: 37]،
ومن لطف الله بعبده: أن يجعل رزقه حلالًا، في راحة وقناعة، فيحصل به المقصود، ولا يشغله عن العبادة، والعلم والعمل، بل يُعينه على ذلك، وهذا من لطف الله تعالى بعبده. ومن لطف الله بعبده: أن يعطيه من الأولاد والأموال والأزواج ما به تقرُّ عينه في الدنيا، ويحصل له به السرور، ثم يبتليه ببعض ذلك، فيأخذه، ويعوضه عليه الأجر العظيم، إذا صبر واحتسب، فنعمةُ الله عليه بأخذه على هذا الوجه، أعظم من نعمته عليه في وجوده، ومن لطف الله بعبده المؤمن الضعيف: أن يعافيه من أسباب الابتلاء التي تضعف إيمانه، وتنقص إيقانه، كما أن من لطفه بالمؤمن القوي: تهيئة أسباب الابتلاء والامتحان ويعينه عليها، ويحملها عنه ويزداد بذلك إيمانه ويعظم أجرُه،
ومن لطفه بعبده: إذا مالت نفسه مع شهوات النفس، واسترسلت في ذلك، أن يُنغصها عليه، ويكدرها، لئلا يميل معها كل الميل، ومن لطيف لطف الله بعبده: أن يأجره على أعمالٍ لم يعملها، بل عزم عليها، فيعزم على قُربةٍ من القُرب، ثم تنحل عزيمته لسبب من الأسباب، فلا يفعلها، فيحصل له أجرها، وقد علم تعالى أنه لا يفعلها، سوقًا لبره لعبده وإحسانه بكل طريق. ومن لطف الله بعبده: أن يُجري بشيءٍ من ماله شيئًا من المنافع وخيرًا لغيره، فيثيبه من حيث لا يحتسب، فمن غرس غرسًا، أو زرع زرعًا، فأصابت منه انسان أو حيوان أو طير، آجر الله صاحبه وهو لا يدري، ومن كان عمله صالحًا، وهو مستقيم في غالب أحواله، وإنما يصدر منه أحيانًا بعض الذنوب الصغار، فما يصيبه من الهم والغم والأذى، وبعض الآلام في بدنه، أو قلبه، أو حبيبه أو ماله ونحو ذلك، فإنها مكفرات للذنوب لطفًا من الله بعباده.
أيها المسلمون
الله لطيف بعباده: يلطف بهم في أقداره، وأفعاله، وتدابيره، وأعماله، فهو البر بهم، والرؤوف بحالهم، يلطف بهم من حيث لا يعلمون، ويهيئ مصالحهم من حيث لا يشعرون، ويرزقهم من حيث لا يحتسبون، ويحفظهم بالليل وهم نائمون، وبالنهار وهيم يلهون ويلعبون، ويرأف بهم، ويحلم عليهم، وهم عن ذكره معرضون، ومن لطفه بهم، أن يرزقهم إذا افتقروا، ويغيثهم إذا قحطوا، ويشفيهم إذا مرضوا، ويغفر لهم إذا أذنبوا واستغفروا، ويمهلهم إذا عصوا،
والله لطيف بهم في شرعه: ومن لطفه بهم في شرعه: اليسر والتخفيف، قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (البقرة:185)، وقال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا. يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ ۚ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا} (النساء:26ـ28). وقال تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (المائدة:6).
ومن لطفه في التشريع: أنه تدرج معهم فيما حرم عليهم، كالخمر، وفيما فرض عليهم كالصوم والصلاة والجهاد، وغيرها، وما كلفهم إلا بما يطيقون، ووضع عنهم الإصر والأغلال التي كانت على السابقين، وأسقط عنهم ما لا يستطيعون، ووضع لهم شرعا حكيما تصلح به دنياهم وأخراهم، ومعاشهم ومعادهم، قال تعالى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِير} (الملك:14).
فكم مرَّت بك أحداث الحياة؟، وتنقَّلْتَ فيها من بلاء إلى بلاء، ومن شِدَّة إلى شِدَّة، ومن ضيق إلى ضيق؛ ولكن لطف الله كان معك، وعنايته تعتني بك وتحميك وتُنْجيك، فهل أبصرت لطفه بك بعين فؤادك، وتيقَّنت أن لقضائه وقدره حكمة، وأنَّ ما يُقدِّره خيرٌ كله؟
وكم من بلايا أنت تراها مِحَنًا، ولكن من لطف الله كان من خلفها مِنَح، وكم محنة ظاهرها عذاب، بينما باطنها رحمة، وكم ساق الله لك من خير من بعد المِحَن والابتلاءات!
وكم أوصل اللطيف إليك بِرَّه وإحسانَه، من حيث لا تشعُر، ولعَلَّه كتب لك منزلةً رفيعةً بأمور أنت تكرهها، وكم دفع عنك من الشرور، وفتح لك من أبواب الخير؛ وكم ساق لك الخير من أضيق السُّبُل، كل ذلك من لطفه. وكم أخَّر عنك الخير ولكن ساقه لك في الزمن الأنسب لك دون أن تعلم، فأحسن ظنَّك بمولاك، واعلم أن كل أقداره لطف ورحمة، ولا يرى لُطْفَه إلَّا مَنْ أحْسَنَ النَّظَر إلى حكمته في قضائه وقَدَرِه، وأنَّ ما يُقدِّره خيرٌ كله.
ومن لطف الله تعالى: ذهاب جميع الأسباب المادية، إلا سبب الله تعالى، وانقطاع الحبال، إلا حبله، فلا حول للعباد ولا قوة إلا به سبحانه، وفي مقابلة بلائهم، ومواجهة أعدائهم سبب لطيف يُرجع الناس لدينهم، ويزيد في إيمانهم وعبادتهم، وما على أهل الإيمان إلا اللجوء لربهم سبحانه، ومراجعة دينهم، وتجديد توبتهم، وملاحظة لطف الله تعالى في كل ما يجري عليهم وعلى أمتهم، وسيبدل الله تعالى حالهم من حيث لا يشعرون، وما ذلك على الله بعزيز
ومن لُطْفِ اللهِ بك: أنْ هداك إلى الخير هدايةً لا تخطر ببالك، وقيَّضَ لك كُلَّ سببٍ يحول بينك وبين المعاصي، حتى إنه تعالى إذا عَلِمَ أنَّ الدنيا والمال تقطعك عن طاعته، أو تَحْمِلُكَ على الغفلة عنه، أو على معصية صَرَفَها عنك، وقَدَرَ عليك رِزْقَه، ولهذا قال تعالى: ﴿اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ ﴾ بحسب اقتضاء حِكمَتِه ولُطْفِه ﴿وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ﴾ الذي له القوة كلُّها.
أيها المسلمون
وإنْ شِئْتُمْ أنْ تَعْرِفوا شيئًا من لُطْفِ الله في خَلْقِه: فانظروا إلى خَلْقِ الأجِنَّةِ في الأرحام، حيث خَلَقَنا اللَّطيفُ الخبيرُ في الأرحام خَلْقًا من بَعدِ خَلْقٍ، في ظُلمات ثلاث، وكيف يتنامى الجنينُ في الرَّحم شيئًا فشيئاَ، وكيف تُشَكَّلُ أجهزتُه، وتأمَّلوا لُطْفَ اللهِ بعباده في حاجتهم، ويكفي أنْ نَذْكُرَ لُطْفَه سبحانه في تيسير لُقْمَةٍ واحدةٍ: يتناولها المرءُ من غير كُلْفَةٍ يتجشَّمها، وقد تعاوَنَ على إصلاحها خَلْقٌ كثير؛ من مُصِلِحِ الأرض، وزارِعِها، وساقيها، وحاصِدِها، ومُنقيها، وطاحِنِها، وعاجِنِها، وخابِزِها، وتيسير مَضْغِها مما وَضَعَ اللهُ في الفَمِ من أسنانٍ طاحِنَةٍ وقاطِعَةٍ، ولِسانٍ يُدِيرُ اللُّقمةَ ويسهلها للبَلْعِ، ولُعابٍ يُسَهِّلُ مُرورَها إلى المَرِيء إلى آخِرِ هذه الألطاف الربانية. واستشعارُ العبد للطف الله في كلِّ مجريات الكون، يَمْنَحُ العبدَ حظَّه من هذا الوصف بالتَّلَطُّف بعباد الله، في الدَّعوة إليه تعالى، والهداية إلى سعادة الآخرة بألطف الألفاظ، من غير عنف وتعصُّب وتخاصم؛ فاللهُ لطيفٌ يحبُّ اللطيف من عباده، ويبغض الفَظَّ، الغليظَ القاسي.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
والقرآن الكريم يلفت الأنظار إلى لطف الله بعباده، وإحسانه إليهم، فانظر إلى تدبيره أمر عباده، وحفظه لهم من مكر أعدائهم، قال تعالى: {وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} [إبراهيم:46]، فأعداؤك يمكرون بك بما لا تعلمه وعندهم من الأسباب ما لا تملكه، فكيف تدفع مكرًا لا تعلمه ولا تملك ردَّه إن علمته؟! فيأتيك من الله لطف وحفظ وتدبير يدفع عنك كيدًا لم تكن تعلمه، ولا تملك له ردًا إن علمته، وقد يود الإنسان تمكينًا سريعًا، وعُلوًا لأمر دينه، ويا لها من غاية ما أعظمها! ولكن الله العليم الحكيم بتدبيره، يعد عباده بذلك ويختار هو سبحانه وتعالى كيفية ذلك وزمانه ومكانه، قال تعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} [الأنفال:7].
والعبد قد يريد النصر سهلًا وسريعًا، والله يريد بحكمته في تأخير ذلك أحيانًا من الخير العظيم. فكلما طال الطريق، وبعُدَت الشقة واشتد الأمر، خرج من الطريق كل مخادع وكل مثبط، قال تعالى: {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَـٰؤُلَاءِ دِينُهُمْ ۗ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:49].
والله تعالى يحب أن يرى من عباده تفويض الأمر إِليه، مع بذل الوسع، فهم يردُّون الأمر إِلى علم الله الذى يعلم ولا يعلمون، ولو أصابهم مع ذلك ما يكرهون، قال تعالى: {وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216].
والإنسان ضعيف بطبعه، لا يقوى على الاستمرار في السير فى طريق وعر مليء بالمشقة والعقبات، لا يقوى على ذلك إلا بطلب المدد والقوة والعون ممن يملك أن يُذلِّل له الصعاب، وأن يثبت قلبه على الحق وقدمه على الطريق، وإن ضعف أو أوشك على الترك، تداركته رحمة الله تعالى {إِذْ هَمَّت طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا ۗ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران:122]. فسبحان الله وبحمده! همُّوا بالفشل فلم يبادرهم بالعقوبة، بل تولَّاهم وردَّهم الى الطريق، فنعم المولى ونعم الوكيل، فتوكل على ربك، وإن ضاقت عليك الأرض بما رحبت، وضاقت عليك نفسك، فالإنسان إن صعب عليه الأمر، وضاقت عليه الأرض، فتدبَّر أسماء ربه وجميل صفاته، أتاه من الله لطف ورحمة لا يجدها عند غيره، قال تعالى: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة:118]. فالسعيد من عاش مع ربه، وتعلَّق قلبه به: فهذا الذي يجد الصعاب مقرونةً بلذة القرب، ويجد البلاء مقرونًا بلذة الأجر، ويجد الضيق مقرونًا باللطف والتدبير.
الدعاء