خطبة عن ( حقوق الإنسان في الإسلام )
فبراير 13, 2017خطبة عن ( طريق الحق واحد )
فبراير 14, 2017الخطبة الأولى ( إِنَّمَا يَسْتَرِيحُ مَنْ غُفِرَ لَهُ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
روي في الصحيحين البخاري ومسلم : (عَنْ أَبِى قَتَادَةَ بْنِ رِبْعِىٍّ الأَنْصَارِىِّ أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – مُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةٍ فَقَالَ « مُسْتَرِيحٌ ، وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ » . قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْمُسْتَرِيحُ وَالْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ قَالَ « الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وَأَذَاهَا إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ ، وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ وَالْبِلاَدُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ » ، وروى الإمام أحمد في مسنده وصححه الألباني (عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَاتَتْ فُلاَنَةُ وَاسْتَرَاحَتْ. فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَقَال « إِنَّمَا يَسْتَرِيحُ مَنْ غُفِرَ لَهُ ».
إخوة الإسلام
كثيرا ما نسمع هذه الكلمات ( فلان مات واستراح ) وآخر يقول :(أتمنى أن أموت لأستريح )، والمتقول بمثل هذه العبارات ، أو المعتقد فيها ، فهو أحد أمرين : إما أنه يردد هذه العبارة وهو لا يعي ولا يفهم ما يقول، فهذا يحتاج إلى من ينبهه ، ويفهمه حقيقة الأمر . وإما أنه يعتقد أن ما نكابده في الدنيا من المحن والفتن والمصائب والأمراض لا يعدله أي شيء، ولذلك فهو يظن أن الموت راحة للميت أياً كان مصيره. وهذا أيضا مخطئ ، ويحتاج إلى من يبلغه أقوال النبي – صلى الله عليه وسلم – في ذلك ، أما من يشك أو لا يؤمن بحياة البرزخ، ويعتقد أن الموت فناء، أو أن الميت يكون كالنائم إلى قيام الساعة، فهذا منكر لحياة البرزخ، ويكون بهذا الاعتقاد قد أنكر ما هو معلوم من الدين بالضرورة، وقد صحح رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المفهوم الخاطئ كما في الحديث المتقدم حيث (قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَاتَتْ فُلاَنَةُ وَاسْتَرَاحَتْ. فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَقَال « إِنَّمَا يَسْتَرِيحُ مَنْ غُفِرَ لَهُ ».
وفي الحديث الآخر بين رسول الله صلى الله عليه وسلم أصناف الناس بعد خروج الروح ، وهم في قبورهم
فقال صلى الله عليه وسلم « مُسْتَرِيحٌ ، وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ » . قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْمُسْتَرِيحُ وَالْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ قَالَ « الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وَأَذَاهَا إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ ، وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ وَالْبِلاَدُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ » فلا شك أن بعض الموتى إذا مات استراح ، وبعضهم إذا مات لقي أشد العذاب، فأهل الإيْمان والعمل الصالح إذا لقوا الله استراحوا في حياتِهم البرزخية، ومن ثُمَّ في حياتِهم الأخروية من متاعب الدنيا وهمِّها، وحزنِها، وعسرها، وشدتِها، وما يجري عليهم فيها، استراحوا لأن الله أكرمهم من فضله وإحسانه برضاه وجنته، وأهل الكفر والفسوق والعصيان فسيصلون النار وبئس القرار، وربك يخلق ما يشاء ويختار، والقبر كما قال إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار. وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ) ومَعْنَاهُ أَنَّ كُلَّ مُؤْمِنٍ مَسْجُونٌ مَمْنُوعٌ فِي الدُّنْيَا مِنَ الشَّهَوَاتِ الْمُحَرَّمَةِ وَالْمَكْرُوهَةِ مُكَلَّفٌ بِفِعْلِ الطَّاعَاتِ الشَّاقَّةِ فَإِذَا مَاتَ اسْتَرَاحَ مِنْ هَذَا وَانْقَلَبَ إِلَى مَا أَعَدَّ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ مِنَ النَّعِيمِ الدَّائِمِ وَالرَّاحَةُ الْخَالِصَةُ مِنَ النُّقْصَانِ ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَإِنَّمَا لَهُ مِنْ ذَلِكَ مَا حَصَّلَ فِي الدُّنْيَا مَعَ قِلَّتِهِ وَتَكْدِيرِهِ بِالْمُنَغِّصَاتِ فَإِذَا مَاتَ صَارَ إِلَى الْعَذَابِ الدَّائِمِ وَشَقَاءِ الْأَبَدِ . وهكذا يجلي لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حقيقة الأمر ، فليس كل من مات استراح وسعد ، فلا يسعد في قبره ويستريح إلا المؤمن ، الذي غفر الله له ذنوبه ، وحط عنه سيئاته ، ومحا عنه غدراته وفجراته ، فقَال « إِنَّمَا يَسْتَرِيحُ مَنْ غُفِرَ لَهُ ». ولهذا نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تمني الموت ، لاعتقادنا أن في الموت راحة ، ففي الصحيحين (عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « لاَ يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ فَإِنْ كَانَ لاَ بُدَّ مُتَمَنِّيًا فَلْيَقُلِ اللَّهُمَّ أَحْيِنِى مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِى وَتَوَفَّنِى إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِى ». وفي رواية في صحيح للبخاري ، يبين رسول الله صلى الله عليه وسلم العلة والسبب من النهي عن تمني المؤمن للموت ، فيقول صلى الله عليه وسلم : (وَلاَ يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ إِمَّا مُحْسِنًا فَلَعَلَّهُ أَنْ يَزْدَادَ خَيْرًا ، وَإِمَّا مُسِيئًا فَلَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَعْتِبَ »، وجاء في صحيح ابن ماجة وصحيح ابن حبان وسنن البيهقي (عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ أَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ بَلِىٍّ قَدِمَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَكَانَ إِسْلاَمُهُمَا جَمِيعًا فَكَانَ أَحَدُهُمَا أَشَدَّ اجْتِهَادًا مِنَ الآخَرِ فَغَزَا الْمُجْتَهِدُ مِنْهُمَا فَاسْتُشْهِدَ ثُمَّ مَكَثَ الآخَرُ بَعْدَهُ سَنَةً ثُمَّ تُوُفِّىَ. قَالَ طَلْحَةُ فَرَأَيْتُ فِى الْمَنَامِ بَيْنَا أَنَا عِنْدَ بَابِ الْجَنَّةِ إِذَا أَنَا بِهِمَا فَخَرَجَ خَارِجٌ مِنَ الْجَنَّةِ فَأَذِنَ لِلَّذِى تُوُفِّىَ الآخِرَ مِنْهُمَا ثُمَّ خَرَجَ فَأَذِنَ لِلَّذِى اسْتُشْهِدَ ثُمَّ رَجَعَ إِلَىَّ فَقَالَ ارْجِعْ فَإِنَّكَ لَمْ يَأْنِ لَكَ بَعْدُ. فَأَصْبَحَ طَلْحَةُ يُحَدِّثُ بِهِ النَّاسَ فَعَجِبُوا لِذَلِكَ فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. وَحَدَّثُوهُ الْحَدِيثَ فَقَالَ « مِنْ أَىِّ ذَلِكَ تَعْجَبُونَ » فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا كَانَ أَشَدَّ الرَّجُلَيْنِ اجْتِهَادًا ثُمَّ اسْتُشْهِدَ وَدَخَلَ هَذَا الآخِرُ الْجَنَّةَ قَبْلَهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « أَلَيْسَ قَدْ مَكَثَ هَذَا بَعْدَهُ سَنَةً ». قَالُوا بَلَى. قَالَ « وَأَدْرَكَ رَمَضَانَ فَصَامَهُ وَصَلَّى كَذَا وَكَذَا مِنْ سَجْدَةٍ فِى السَّنَةِ ». قَالُوا بَلَى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « فَمَا بَيْنَهُمَا أَبْعَدُ مِمَّا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ ».
أيها المسلمون
وهكذا يتبين لنا أن الموت ليس فناء ، وليس نهاية المطاف ، ولكن بالموت ينتقل الانسان من حياة إلى حياة ، ينتقل من الحياة الدنيا إلى حياة البرزخ ، أو حياة القبر ، فحياة البرزخ هي حياة ما بين الدنيا والآخرة ، ولها قوانينها ، ونعيمها وعذابها ، وهي تختلف عن حياة ما قبلها وحياة ما بعدها، وهذا البرزخ يشرف أهله فيه على الدنيا والآخرة)
فإذا مات الإنسان فقد انتقل إلى البرزخ وبقي فيه حتى يبعث الله من في القبور، وقد ورد ذكره في كتاب الله ، فقال تعالى: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) المؤمنون 99 ، 100 ، وقد يسأل سائل ، ماذا عن حياة القبر أو البرزخ ؟ فأقول مستعينا بالله تعالى : الحياة في البرزخ للروح لا للجسم والبدن ، فالجسم يبلى ، كما في البخاري مسلم ، قَالَ صلى الله عليه وسلم « وَلَيْسَ مِنَ الإِنْسَانِ شَىْءٌ إِلاَّ يَبْلَى إِلاَّ عَظْمًا وَاحِدًا وَهُوَ عَجْبُ الذَّنَبِ وَمِنْهُ يُرَكَّبُ الْخَلْقُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ».فالحياة في البرزخ والعذاب والنعيم والشقاء والسعادة هي للروح ، وقد يكون هناك اتصال بالجسد احيانا ، وشاهد ذلك ما رواه أبو داود والبيهقي وصححه الألباني (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « مَا مِنْ أَحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَىَّ إِلاَّ رَدَّ اللَّهُ عَلَىَّ رُوحِى حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلاَمَ ». وقد يكون هذا خاصا بالأنبياء عليهم السلام لأن أجسادهم لا تبلى ، ولا تأكلها الأرض ، ففي سنن أبي داود بسند صحيح (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِنَّ مِنْ أَفْضَلِ أَيَّامِكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِيهِ خُلِقَ آدَمُ وَفِيهِ قُبِضَ وَفِيهِ النَّفْخَةُ وَفِيهِ الصَّعْقَةُ فَأَكْثِرُوا عَلَىَّ مِنَ الصَّلاَةِ فِيهِ فَإِنَّ صَلاَتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَىَّ ». قَالَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ تُعْرَضُ صَلاَتُنَا عَلَيْكَ وَقَدْ أَرِمْتَ يَقُولُونَ بَلِيتَ. فَقَالَ « إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَرَّمَ عَلَى الأَرْضِ أَجْسَادَ الأَنْبِيَاءِ »…. ثم نأتي إلى سؤال آخر : كيف تحيا الروح في حياة القبر أو البرزخ ؟
والإجابة : أن للأرواح بعد الموت وفي حياة البرزخ أو ( حياة القبر ) أحوال متعددة ، تختلف باختلاف إيمان وعمل صاحبها في الدنيا ، فأرواح الأنبياء وحياتهم ، تختلف عن أرواح الشهداء وحياتهم ،وتختلف عن أرواح المؤمنين ، وهذه تختلف عن أرواح المعذبين من المسلمين ، وتختلف عن أرواح الكافرين والمشركين والمنافقين ، فلكل من هؤلاء حياته التي تختلف عن حياة الآخرين ولهذا ثبت في الحديث: (أَنَّ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « نَسَمَةُ الْمُؤْمِنِ إِذَا مَاتَ طَائِرٌ تَعْلُقُ بِشَجَرِ الْجَنَّةِ حَتَّى يُرْجِعَهُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلَى جَسَدِهِ يَوْمَ يَبْعَثُهُ اللَّهُ » رواه احمد وغيره. وأما الشهداء فأرواحهم أكمل وأنعم ، فهي تتنعم في الجنة، فهي أكمل من أرواح المؤمنين من غير الشهداء، قال تعالى: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ) (169) :(171) آل عمران ، وفي صحيح مسلم : ( عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ (سَأَلْنَا عَبْدَ اللَّهِ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) قَالَ أَمَا إِنَّا قَدْ سَأَلْنَا عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ « أَرْوَاحُهُمْ فِى جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ تَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ ثُمَّ تَأْوِي إِلَى تِلْكَ الْقَنَادِيلِ فَاطَّلَعَ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمُ اطِّلاَعَةً فَقَالَ هَلْ تَشْتَهُونَ شَيْئًا قَالُوا أَيَّ شَيْءٍ نَشْتَهِى وَنَحْنُ نَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ شِئْنَا فَفَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّهُمْ لَنْ يُتْرَكُوا مِنْ أَنْ يُسْأَلُوا قَالُوا يَا رَبِّ نُرِيدُ أَنْ تَرُدَّ أَرْوَاحَنَا فِي أَجْسَادِنَا حَتَّى نُقْتَلَ فِي سَبِيلِكَ مَرَّةً أُخْرَى. فَلَمَّا رَأَى أَنْ لَيْسَ لَهُمْ حَاجَةٌ تُرِكُوا ».وفي رواية للدارمي (سَأَلْنَا عَبْدَ اللَّهِ عَنْ أَرْوَاحِ الشُّهَدَاءِ وَلَوْلاَ عَبْدُ اللَّهِ لَمْ يُحَدِّثْنَا أَحَدٌ. قَالَ : أَرْوَاحُ الشُّهَدَاءِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي حَوَاصِلِ طَيْرٍ خُضْرٍ لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ ، تَسْرَحُ فِي أَيِّ الْجَنَّةِ شَاءُوا ثُمَّ تَرْجِعُ إِلَى قَنَادِيلِهَا ، فَيُشْرِفُ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ فَيَقُولُ : أَلَكُمْ حَاجَةٌ تُرِيدُونَ شَيْئاً؟ فَيَقُولُونَ : لاَ إِلاَّ أَنْ نَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا فَنُقْتَلَ مَرَّةً أُخْرَى) فالشهداء لما بذلوا أجسادهم لله وأتلفوها لله؛ عوض الله أرواحهم أجسادا تتنعم بواسطتها وهي حواصل طير خضر. وأما من غير الشهيد فروحه تتنعم وحدها بدون جسد، تأخذ شكل طائر، …… نسمة يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده مرة ثانية، وأما روح الكافر إذا مات فتحبس وتنقل إلى النار، -أعوذ بالله- وتعذب في النار إلى يوم القيامة، فالروح في حياة البرزخ أو ( القبر ) باقية ، إما في نعيم ، وإما في عذاب، وهذا هو المعني بقوله صلى الله عليه وسلم كما في سنن الترمذي « إِنَّمَا الْقَبْرُ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ أَوْ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النَّارِ » ، ففي الدنيا، الآن الإنسان مكون من روح وجسد، والنعيم والعذاب في الدنيا على الجسد أشد، وفي البرزخ بعد الموت العكس ، فالأحكام على الروح أشد، تتألم الروح وتتنعم أكثر من الجسد، ولهذا الجسد يبلى ويكون ترابا، ويوم القيامة يكون العذاب أو النعيم على حد سواء، فإذا بعث الله الأجساد، وعرفت الأرواح أجسادها صار الجسد والروح على حد سواء في النعيم والعذاب، ومن هنا نفهم أن حياة الأرواح متفاوتة في مستقرها في حياة البرزخ أعظم تفاوت ، فمنها أرواح في أعلى عليين ، وهي أرواح الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ، وهم أيضا متفاوتون في منازلهم كما رآهم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في ليلة الإسراء .ومنها ما هو في حواصل طيور خضر تسرح في الجنة حيث شاءت ، وهي أرواح بعض الشهداء لا جميعهم كما قد يتوهم ، بل من الشهداء من تحبس روحه عن دخول الجنة لدين عليه أو غيره ، ففي صحيح مسلم : ( عَنْ أَبِى قَتَادَةَ أَنَّهُ سَمِعَهُ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَامَ فِيهِمْ فَذَكَرَ لَهُمْ « أَنَّ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالإِيمَانَ بِاللَّهِ أَفْضَلُ الأَعْمَالِ ». فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تُكَفَّرُ عَنِّى خَطَايَايَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « نَعَمْ إِنْ قُتِلْتَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأَنْتَ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ مُقْبِلٌ غَيْرُ مُدْبِرٍ ». ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « كَيْفَ قُلْتَ ». قَالَ أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَتُكَفَّرُ عَنِّى خَطَايَايَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « نَعَمْ وَأَنْتَ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ مُقْبِلٌ غَيْرُ مُدْبِرٍ إِلاَّ الدَّيْنَ فَإِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَالَ لِي ذَلِكَ ». وفي رواية لمسلم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « يُغْفَرُ لِلشَّهِيدِ كُلُّ ذَنْبٍ إِلاَّ الدَّيْنَ ». ومنهم من يكون محبوسا على باب الجنة كما في مسند أحمد عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ قَالَ صَلَّى النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- الصُّبْحَ فَقَالَ « هَا هُنَا أَحَدٌ مِنْ بَنِى فُلاَنٍ ». قَالُوا نَعَمْ. قَالَ « إِنَّ صَاحِبَكُمْ مُحْتَبَسٌ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ فِي دَيْنٍ عَلَيْهِ » ومنها أرواح تعذب بسبب بعض المعاصي التي وقع فيها العبد في الدنيا، مثل: (الذي يكذب الكذبة تبلغ الآفاق يعذب بكلوب من حديد يدخل في شدقه حتى يبلغ قفاه، والذي نام عن الصلاة المكتوبة يشدخ رأسه بصخرة، والزناة والزواني يعذبون في ثقب مثل التنور ضيق أعلاه وأسفله واسع توقد من تحته النار، والمرابي يسبح في بحر من دم وعلى الشط من يلقمه حجارة، وأيضاً الذي كان لا يستنزه من بوله، والذي يمشي بالنميمة بين الناس، والذي غلَّ من الغنيمة، إلى غير ذلك مما ذكره أهل العلم في مستقر الأرواح، وكل ذلك تشهد له السنة) ومنهم من يكون محبوسا في قبره ، محبوسا في الأرض لم تعل روحه إلى الملأ الأعلى ، فإنها كانت روحا سفلية أرضية ، فإن الأنفس الأرضية لا تجامع الأنفس السماوية كما لا تجامعها في الدنيا معرفة ربها ومحبته وذكره والأنس به والتقرب إليه ، بل هي أرضية سفلية لا تكون بعد المفارقة لبدنها إلا هناك ،
فالنفس العلوية التي كانت في الدنيا عاكفة على محبة الله وذكره والتقرب إليه والأنس به تكون بعد المفارقة في الأرواح المناسبة لها ، فالمرء مع من أحب في البرزخ ويوم المعاد ، فالروح بعد المفارقة تلحق بأشكالها وإخوانها وأصحاب عملها فتكون معهم هناك ، فليس للأرواح سعيدها وشقيها مستقر واحد ، بل روح في أعلى عليين وروح أرضية في أسفل سافلين ، فالأرواح تنقسم إلى مرسلة ومحبوسة وعلوية وسفلية ، ولها بعد المفارقة صحة ومرض ، ولذة ونعيم ، وألم أعظم مما كان لها في حال اتصالها بالبدن بكثير ، فهنالك الحبس والألم والعذاب والمرض والحسرة ، وهنالك اللذة والراحة والنعيم والإطلاق
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( إِنَّمَا يَسْتَرِيحُ .. مَنْ غُفِرَ لَهُ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
وماذا عن تزاور الأرواح بعد الموت ؟ وهل تتلاقى فيما بينها ؟ قال العلماء : أما الأرواح المعذبة – عياذاً بالله – فهي في شغل بما هي فيه من العذاب عن التزاور والتلاقي، وأما الأرواح المنعمة والمرسلة غير المحبوسة ، فهي تتزاور وتتلاقى وتتذاكر ما كان منها في الدنيا، فتكون كل روح مع من تحب، وروح نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في الرفيق الأعلى، قال الله تعالى: (وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً) النساء 69 ،وهذه المحبة ثابتة في الدنيا، وفي دار البرزخ، وفي دار الجزاء، والمرء مع من أحب في هذه الدور الثلاثة ( الدنيا ، والبرزخ ، والآخرة ). وقال الشعبي رحمه الله : عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضْيَ اللهُ عَنْهُمَا: (أَنَّ رَجُلا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم , فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, إِنِّي لأُحِبُّكَ حَتَّى إِنِّي لأَذْكُرُكَ, فَلَوْلا أَنِّي أَجِيءُ فَأَنْظُرُ إِلَيْكَ ظَنَنْتُ أَنَّ نَفْسِي تَخْرُجُ, فَأَذْكُرُ أَنِّي إِنْ دَخَلْتُ الْجَنَّةَ صِرْتُ دُونَكَ فِي الْمَنْزِلَةِ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيَّ, وَأُحِبُّ أَنْ أَكُونَ مَعَكَ فِي الدَّرَجَةِ, فَلَمْ يَرُدَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا, فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ), فَدَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم , فَتَلاهَا عَلَيْهِ) رواه الطبراني في المعجم وقال تعالى: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي) الفجر 27 : 30أي ادخلي في جملتهم وكوني معهم، وهذا يقال للروح عند الموت. وقد جاءت سنة صريحة بتلاقي الأرواح وتعارفها؛ ففي سنن أبي داود (عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: (لَمَّا حَضَرَتْ كَعْبًا الْوَفَاةُ أَتَتْهُ أُمُّ بِشْرٍ بِنْتُ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ فَقَالَتْ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِنْ لَقِيتَ فُلانًا فَاقْرَأْ عَلَيْهِ مِنِّي السَّلامَ، قَالَ: غَفَرَ اللَّهُ لَكِ يَا أُمَّ بِشْرٍ؛ نَحْنُ أَشْغَلُ مِنْ ذَلِكَ قَالَتْ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَمَا سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (إِنَّ أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ فِي طَيْرٍ خُضْرٍ تَعْلُقُ بِشَجَرِ الْجَنَّةِ)، قَالَ: بَلَى؛ قَالَتْ: فَهُوَ ذَاكَ)
أيها المسلمون
أما عن معرفة الموتى بأحوال الأحياء: فيرى بعض أهل العلم أن أرواح الموتى من المؤمنين ، يعرفون أحوال الأحياء، فيتألمون من السيء، ويستبشرون بالحسن، ويفرحون به. ففي مسند أحمد (حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَمَّنْ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- « إِنَّ أَعْمَالَكُمْ تُعْرَضُ عَلَى أَقَارِبِكُمْ وَعَشَائِرِكُمْ مِنَ الأَمْوَاتِ فَإِنْ كَانَ خَيْراً اسْتَبْشَرُوا بِهِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ قَالُوا اللَّهُمَّ لاَ تُمِتْهُمْ حَتَّى تَهْدِيَهُمْ كَمَا هَدَيْتَنَا » وفي سنن أبي داود والنسائي وغيرهما (عَنْ أَوْسِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِنَّ مِنْ أَفْضَلِ أَيَّامِكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِيهِ خُلِقَ آدَمُ وَفِيهِ قُبِضَ وَفِيهِ النَّفْخَةُ وَفِيهِ الصَّعْقَةُ فَأَكْثِرُوا عَلَىَّ مِنَ الصَّلاَةِ فِيهِ فَإِنَّ صَلاَتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَىَّ ». قَالَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ تُعْرَضُ صَلاَتُنَا عَلَيْكَ وَقَدْ أَرِمْتَ يَقُولُونَ بَلِيتَ. فَقَالَ « إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَرَّمَ عَلَى الأَرْضِ أَجْسَادَ الأَنْبِيَاءِ ».
وفي مسند البزار (عَنْ عَبْدِ اللهِ ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، قَالَ : إِنَّ لِلَّهِ مَلائِكَةً سَيَّاحِينَ يُبَلِّغُونِي عَنْ أُمَّتِي السَّلامَ قَالَ : وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : حَيَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ تُحَدِّثُونَ وَنُحَدِّثُ لَكُمْ ، وَوَفَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ تُعْرَضُ عَلَيَّ أَعْمَالُكُمْ ، فَمَا رَأَيْتُ مِنَ خَيْرٍ حَمِدْتُ اللَّهَ عَلَيْهِ ، وَمَا رَأَيْتُ مِنَ شَرٍّ اسْتَغْفَرْتُ اللَّهَ لَكُمْ. وقال مجاهد رحمه الله : (إن الرجل ليبشر في قبره بصلاح ولده من بعده)، وقال عمرو بن دينار رحمه الله : (ما من ميت يموت إلا ويعلم ما يكون في أهله بعده). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : (استفاضت الآثار بمعرفة الميت أهله، وأحوال أهله، وأصحابه في الدنيا، وأن ذلك يعرض عليه) وقد ورد في الصحيحين عن أبي طلحة أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أَمَرَ يَوْمَ بَدْرٍ بِأَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ رَجُلًا مِنْ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ فَقُذِفُوا فِي طَوِيٍّ مِنْ أَطْوَاءِ بَدْرٍ خَبِيثٍ مُخْبِثٍ وَكَانَ إِذَا ظَهَرَ عَلَى قَوْمٍ أَقَامَ بِالْعَرْصَةِ ثَلَاثَ لَيَالٍ، فَلَمَّا كَانَ بِبَدْرٍ الْيَوْمَ الثَّالِثَ أَمَرَ بِرَاحِلَتِهِ فَشُدَّ عَلَيْهَا رَحْلُهَا ثُمَّ مَشَى وَاتَّبَعَهُ أَصْحَابُهُ، وَقَالُوا: مَا نُرَى يَنْطَلِقُ إِلَّا لِبَعْضِ حَاجَتِهِ، حَتَّى قَامَ عَلَى شَفَةِ الرَّكِيِّ فَجَعَلَ يُنَادِيهِمْ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ: (يَا فُلانُ بْنَ فُلانٍ، وَيَا فُلانُ بْنَ فُلانٍ أَيَسُرُّكُمْ أَنَّكُمْ أَطَعْتُمْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَإِنَّا قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا، فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟)
قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا تُكَلِّمُ مِنْ أَجْسَادٍ لَا أَرْوَاحَ لَهَا ،فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : (وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ) ، وثبت عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:(إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ وَإِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ) رواه البخاري كما شرع النبي صلى الله عليه وسلم لأمته إذا سلموا على أهل القبور أن يسلموا عليهم سلام من يخاطبونه، فيقول: (السَّلامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) مسلم وهذا خطاب لمن يسمع ويعقل، ولولا ذلك لكان هذا الخطاب بمنزلة خطاب المعدوم والجماد. وعن ابن شماسة المهري قال: (حَضَرْنَا عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَهُوَ فِي سِيَاقَةِ الْمَوْتِ فَبَكَى طَوِيلًا وَحَوَّلَ وَجْهَهُ إِلَى الْجِدَارِ، فَجَعَلَ ابْنُهُ يَقُولُ: يَا أَبَتَاهُ أَمَا بَشَّرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِكَذَا؟ أَمَا بَشَّرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِكَذَا؟ قَالَ: فَأَقْبَلَ بِوَجْهِهِ فَقَالَ: إِنَّ أَفْضَلَ مَا نُعِدُّ شَهَادَةُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، إِنِّي كُنْتُ عَلَى أَطْبَاقٍ ثَلاثٍ، ….)….. ثم قال (فَإِذَا أَنَا مُتُّ فَلا تَصْحَبْنِي نَائِحَةٌ وَلا نَارٌ، فَإِذَا دَفَنْتُمُونِي فَشُنُّوا عَلَيَّ التُّرَابَ شَنًّا، ثُمَّ أَقِيمُوا حَوْلَ قَبْرِي قَدْرَ مَا تُنْحَرُ جَزُورٌ وَيُقْسَمُ لَحْمُهَا حَتَّى أَسْتَأْنِسَ بِكُمْ وَأَنْظُرَ مَاذَا أُرَاجِعُ بِهِ رُسُلَ رَبِّي) رواه مسلم ، فدل ذلك على أن الميت يستأنس بالحاضرين عند قبره ويسر بهم. وقد روى أبو داود في سننه بإسناد لا بأس به عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: (كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا فَرَغَ مِنْ دَفْنِ الْمَيِّتِ وَقَفَ عَلَيْهِ فَقَالَ: (اسْتَغْفِرُوا لأَخِيكُمْ وَسَلُوا لَهُ بِالتَّثْبِيتِ فَإِنَّهُ الآنَ يُسْأَلُ)، فأخبر أنه يسأل حينئذ، وإذا كان يسأل فإنه يسمع التلقين. وعن عطاء الخراساني قال: قدمت المدينة فأتيت ابنة ثابت بن قيس ابن شماس فذكرت قصة أبيها، قالت: (لما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم (لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ) ، وآية (وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) ، جلس أبيّ في بيته يبكي، ففقده رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسأله عن أمره، فقال: إني امرؤ جهير الصوت، وأخاف أن يكون قد حبط عملي، فقال: (لَسْتَ مِنْهُمْ، بَلْ تَعِيشُ بِخَيْرٍ، وتَمُوتُ بِخَيْرٍ، ويُدْخِلُكَ اللَّهُ الْجَنَّةَ)، فلما كان يوم اليمامة مع خالد بن الوليد استشهد، فرآه رجل من المسلمين في منامه، فقال: إني لما قتلت انتزع درعي رجل من المسلمين وخبأه في أقصى العسكر وهو عنده، وقد أكب على الدرع برمة ، وجعل على البرمة رحلا، فائت الأمير فأخبره، وإياك أن تقول هذا حلم فتضيعه، وإذا أتيت المدينة فائت فقل لخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن عليَّ من الدين كذا وكذا، وغلامي فلان من رقيقي عتيق، وإياك أن تقول هذا حلم فتضيعه، قال: فأتاه فأخبره الخبر فوجد الأمر على ما أخبره، وأتى أبا بكر فأخبره فأنفذ وصيته، فلا نعلم أحدا بعدما مات أنفذ وصيته غير ثابت بن قيس بن شماس) ،وعلى ذلك فالسلف مجمعون على هذا، وقد تواترت الآثار عنهم بأن الميت يعرف زيارة الحي له ويستبشر به
الدعاء