خطبة عن الصدقة عن الميت، وحديث (أَفَيَنْفَعُهَا إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا)
يونيو 22, 2024خطبة عن (إِذَا غَضِبْتَ فَاسْكُتْ)
يونيو 23, 2024الخطبة الأولى (اترك التَّكَلُّمُ فِيمَا لاَ يَعْنِيك)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
روى الترمذي في سننه: (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ تُوُفِّىَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ يَعْنِى رَجُلٌ أَبْشِرْ بِالْجَنَّةِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «أَوَلاَ تَدْرِي فَلَعَلَّهُ تَكَلَّمَ فِيمَا لاَ يَعْنِيهِ أَوْ بَخِلَ بِمَا لاَ يَنْقُصُهُ»، وروى ابن ماجه في سننه: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «مِنْ حُسْنِ إِسْلاَمِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لاَ يَعْنِيهِ».
إخوة الإسلام
إن ديننا الاسلامي يولي الجانب الأخلاقي عناية تامة، بل وتقوم أحكامه على رعاية الأخلاق، والمحافظة عليها، ولذلك، نُهينا عن فضول الكلام، والتدخل في كل شيء؛ فمن أخلاق المسلم: (تَرْكُهُ مَا لاَ يَعْنِيهِ، ومجانبته فضول الكلام، أو التَّكَلُّمُ فِيمَا لاَ يهمه)،
ومَعْنَى أن تترك مَا لا يَعْنِيك: أَيْ تترك مَا لا يُهِمُّك، وَلا يَلِيقُ بِك قَوْلاً وَفِعْلاً وَنَظَرًا وَفِكْرًا، ممَا لا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ، فِي ضَرُورَةِ دِينِك وَدُنْيَاك، وَلا يَنْفَعُك فِي مَرْضَاةِ ربك، وفي الصحيحين: (عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – «إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ عُقُوقَ الأُمَّهَاتِ، وَوَأْدَ الْبَنَاتِ، وَمَنَعَ وَهَاتِ، وَكَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ»، وقال ابن رجب رحمه الله: “وأكثر ما يراد بترك ما لا يعني: حِفظُ اللسان من لغو الكلام”، فأكثر الناس ذنوبًا أكثرهم كلامًا فيما لا يعنيه، كما في سنن الترمذي: (سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ فَقَالَ «الْفَمُ وَالْفَرْجُ»،
ومن الملاحظ أن الذي يعني الإنسان قسمان: قسمٌ يتعلق بضرورة حياته في معاشهِ، مما يُشبعه من جوع، ويرويه مِن عطش، ويسترُ عورتَه، ويُعِفُّ فَرْجَه، ونحو ذلك، مما يدفعُ الضرورة، دون ما فيه توسعٌ في الملذات واستكثارٌ منها، وهذا القسم لا شكَّ في أنَّه مما يعني الإنسان، وصلاحهُ وسيلةٌ لصلاحِ الآخرة، وقسمٌ يتعلق بسلامتهِ في معاده، وهو الإسلامُ، والإيمانُ، والإحسانُ، والإخلاص، وهذا القسم لا شك في أنَّه أهمُّ ما يعني الإنسان، وهذان القسمان هُما ما دعا النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- إلى الحرص عليه بقوله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم: (احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلاَ تَعْجِزْ)، فإذا فعل الإنسان ما يعنيه، واقتصرَ عليه؛ سَلِمَ من سائر الآفات، وجميع الشرور والمخاصمات، وكان ذلك دالًا على حُسْنِ إسلامِه، ورسوخِ إيمانِه، وحقيقةِ تقواه، ومجانبتِه لهواه، لاشتغالهِ بمصالحهِ الأُخرَويَّة، وإعراضِه عمَّا لا يعنيه من الأمورِ الدنيوية، فالذي يعنيه: هو الذي يعود عليه منه بالمنفعة لدينه أو لدنياه المُوصِلَةِ لآخرته، والذي لا يعنيه: ما لا يعود عليه منه منفعة لدينه ولا لدنياه، وهذا شاملٌ لجميع أنشطة الإنسان، وأعماله من الأقوال والأفعال، كما أنَّه شاملٌ للمحرمات والمشتبهات والمكروهات، وفضول المباحات، التي لا يَحتاج إليها، وكلها مما يحاول الشيطانُ إيقاعَ العبدِ فيه، متدرجًا من الأشدِّ إلى الأخَف، قال النووي: (واعلم أنه ينبغي لكلِّ مُكلَّفٍ أنْ يحفظَ لسانَه عن جميعِ الكلام إلا كلامًا فيه المصلحة، ومتى استوى الكلام وتركه في المصلحة؛ فالسُّنَّةُ الإمساكُ عنه؛ لأنه قد يَنجَرُّ الكلام المباح إلى حرامٍ ومكروهٍ، وذلك كثيرٌ في العادة، والسلامةُ لا يَعدلُها شيء).
أيها المسلمون
ومن النصوص التي تحذرنا من: (تَرْك الانسان مَا لاَ يَعْنِيهِ، ومجانبته فضول الكلام، أو التَّكَلُّمُ فِيمَا لاَ يهمه)، قوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} الإسراء:36، وقوله تعالى: {مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} ق:18، وقول النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- كما في الصحيحين: (وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ»، وفيهما: (أن رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – يَقُولُ «إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ فِيهَا، يَزِلُّ بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ الْمَشْرِقِ»، وفي رواية: (وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لاَ يُلْقِي لَهَا بَالاً يَهْوِى بِهَا فِي جَهَنَّمَ»، وعند الترمذي: (وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ فَيَكْتُبُ اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا سَخَطَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ»، وقال مجاهد: سمعت ابن عباس يقول: (خمس لهن أحب إلي من الدُّهم الموقوفة: لا تتكلم فيما لا يعنيك، فإنه فضل، ولا آمن عليك الوزر.. لا تتكلم فيما يعنيك حتى تجد له موضعًا، فإنه رُبَّ متكلم من أمرٍ يعنيه قد وضعه في غير موضعه فعنت.. ولا تمار حليمًا ولا سفيهًا، فإن الحليم يقليك، والسفيه يؤذيك.. واذكر أخاك إذا غاب عنك بما تحب أن يذكرك به، واعفه مما تحب أن يعفيك منه، وعامل أخاك بما تحب أن يعاملك به.. واعمل عمل رجلٍ يعلم أنه مجازى بالإحسان، مأخوذ بالاحترام). وقيل للقمان الحكيم: (ما حكمتك؟ قال: لا أسألك عما كفيت، ولا أتكلف ما لا يعنيني). وقال عمر رضي الله عنه: (لا تتعرض لما لا يعنيك، واعتزل عدوَّك، واحذر صديقك من القوم إلا الأمين، ولا أمين إلا من خشي الله تعالى، ولا تصحب الفاجر فتتعلم من فجوره، ولا تطلعه على سرك، واستشر في أمرك الذين يخشون الله تعالى).
أيها المسلمون
انتبهوا، فلا تتركوا كل شيء، ولكن عليكم بترك ما لا يعنيكم فقط من شئون الناس، فهناك شؤون للآخرين، ولكنها تعني الإنسان مباشرة، وسيُسأل عنها يوم القيامة: ومن ذلك: ما كان من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ففي صحيح مسلم: (أن رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ»، ولذلك من أنكر عليك منكرا، أو قدم لك نصيحة، فلا يشرع لك أن تقول له: (هذا لا يعنيك، أو أنا حر، أو لا تتدخل في خصوصياتي)؛ لأن هذا الأمر يعني كل مسلم، وسيُسأل عنه يوم القيامة. وفي سنن الترمذي: (عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَنَّهُ قَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الآيَةَ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ «إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا ظَالِمًا فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ مِنْهُ »، وفي سنن ابن ماجه وغيره: (عَنْ أَبِى عُبَيْدَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِنَّ بَنِى إِسْرَائِيلَ لَمَّا وَقَعَ فِيهِمُ النَّقْصُ كَانَ الرَّجُلُ يَرَى أَخَاهُ عَلَى الذَّنْبِ فَيَنْهَاهُ عَنْهُ فَإِذَا كَانَ الْغَدُ لَمْ يَمْنَعْهُ مَا رَأَى مِنْهُ أَنْ يَكُونَ أَكِيلَهُ وَشَرِيبَهُ وَخَلِيطَهُ فَضَرَبَ اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ وَنَزَلَ فِيهِمُ الْقُرْآنُ فَقَالَ (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِى إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) حَتَّى بَلَغَ (وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِىِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ)». قَالَ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مُتَّكِئًا فَجَلَسَ وَقَالَ « لاَ حَتَّى تَأْخُذُوا عَلَى يَدَيِ الظَّالِمِ فَتَأْطِرُوهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا». وفي صحيح البخاري: (أن النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ – رضي الله عنهما – عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ «مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاَهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ فَقَالُوا لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا، وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا. فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا».
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (التَّكَلُّمُ فِيمَا لاَ يَعْنِيك)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
والسؤال: كيف يجاهد الإنسان نفسه على ترك الكلام فيما لا يعنيه؟، والجواب: يكون ذلك بالاستعانة بالله تعالى، ودعاؤه والتضرع إلي، فقد روى مسلم في صحيحه: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «… احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلاَ تَعْجِزْ وَإِنْ أَصَابَكَ شَىْءٌ فَلاَ تَقُلْ لَوْ أَنِّى فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا. وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ ».ومما يعين الانسان على ترك ما لا يعنيه: استفراغ الوسع في معرفة ما يعنى المرء والانشغال به: فمن عرف ما يعنيه ولزمه أوشك أن يترك ما لا يعنيه. ومنها: محاسبة النفس على الدوام. ومصاحبة الجادين الأخيار المشتغلين بما يعنيهم: فإنه على قدر ضرر صحبة البطالين تكون ضرورة صحبة الجادين الذين لا غنى للمرء عنهم في سلوك الطريق المستقيم. وإحياء روح التناصح بين المؤمنين: بتنبيه بعضهم بعضاً عند حدوث تطفل أو فضول أو تدخل فيما لا يعنى، وهذه ثمرة من ثمار مؤاخاة الأخيار الجادين. ومما يعين الانسان على ترك ما لا يعنيه: الإقبال على القرآن الكريم: تلاوة وحفظاً تدبراً وعملاً وتحاكماً وكفي بكتاب الله شغلاً. وتذكر الموت والحساب والجزاء واستشعار العبد أنه في مرحلة سيُجزى بعدها بما عمل فيها.
هذه هي بعض الوسائل المعينة على ترك الفضول، فينبغي للمسلم أن يحرص على حسن إسلامه، فيترك ما لا يعنيه من خصوصيات الناس ويستريح؛ لأنه إذا اشتغل بأمور لا تهمه ولا تعنيه فسيتعب كثيرا، وستكون على حساب تفريطه في واجبات تعنيه. والنفس إن لم تشغلها بالطاعة، شغلتك بالمعصية، فمن اشتغل بالناس نسي أمر نفسه، وأوشك اشتغاله بالناس أن يوقعه في أعراضهم بالقيل والقال.
الدعاء