خطبة عن ( أمي أُحبك يا أمي )
يوليو 8, 2017خطبة عن (مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ؟ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ)
يوليو 8, 2017الخطبة الأولى ( احذوا التدين المغشوش )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) المائدة 3، وقال الله تعالى : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ) (38) البقرة ، وقال الله تعالى : (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ) (101): (103) آل عمران ،وروى مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع : (وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ كِتَابَ اللَّهِ. وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّى فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ ». قَالُوا نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ. فَقَالَ بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا إِلَى النَّاسِ « اللَّهُمَّ اشْهَدِ اللَّهُمَّ اشْهَدْ ». ثَلاَثَ مَرَّاتٍ) ، وفي رواية للبيهقي : ( قال صلى الله عليه وسلم « يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ فَلَنْ تَضِلُّوا أَبَدًا كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ ». وروى الحاكم في مستدركه (أن رسول الله صلى الله عليه و سلم خطب الناس في حجة الوداع فقال : قد يئس الشيطان بأن يعبد بأرضكم و لكنه رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحاقرون من أعمالكم فاحذروا يا أيها الناس إني قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا : كتاب الله و سنة نبيه صلى الله عليه و سلم )
إخوة الإسلام
ما هو الدين ؟ ، وما معنى التدين ؟ ، ومتى يكون هذا التدين مغشوشا ؟ ، وما هي صور هذا التدين المغشوش في واقعنا ؟ : حول هذه الأسئلة ، وتلك المعاني ، سوف يكون لقاؤنا اليوم -إن شاء الله- ،وبداية أقول : الدين في اللغة بمعنى: الطاعة والانقياد. والدين في الاصطلاح العام: ما يعتنقه الإنسان ويعتقده ويدين به من أمور الغيب والشهادة وفي الاصطلاح الإسلامي: الدين هو التسليم والطاعة والتذلل والخضوع والعبودية لله تعالى والانقياد له. والدين هو ملة الإسلام وعقيدة التوحيد والتي هي دين جميع المرسلين من لدن آدم ونوح إلى خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم. قال الله تعالى: ( إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ ) [آل عمران: 19] ،والدين هو الطريق والمنهج الذي يرشد إلى الحق في الاعتقادات وإلى الخير في السلوك والمعاملات. قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33]. والدين هو جوهر الوجود وهو روح الحياة ، والإنسان من غير دين ضائع في هذه الدنيا ، ولذلك كان الدين أمرا عاما في تاريخ البشر لم يخلُ منه مجتمع من المجتمعات ، فالدين شيء أساسي في حياة البشر يتعلق بالفطرة البشرية ، أما التدين : فهو التمسك بعقيدة معينة ، يلتزمها الإنسان في سلوكه ، فلا يؤمن إلا بها ، ولا يخضع إلا لها ، ولا يأخذ إلا بتعاليمها ، ولا يحيد عن سننها وهديها ،فحقيقة التدين هي التمسك بجميع أوامر الدين وترك نواهيه ظاهراً وباطناً، فمن تمسك بالدين ظاهراً وباطناً فهو المتدين حقيقة، ومن تمسك به ظاهراً وتركه باطناً فهو مدَّعٍ للتدين، وليس متديناً، فالتدين : هو أن يظهر أثر الدين في حياة الناس وفي علاقاتهم وفي سلوكياتهم. والتدين الصحيح ينعكس في علاقة المسلم بربه وفي علاقته بالناس ابتداء بأسرته، وبجيرانه ، وبمجتمعه ، وبأمته بالإنسانية جمعاء ، بل بغير الإنسان ،بالحيوان ،وبالكون، وبالبيئة ، والتدين .. يظهر في علاقة الإنسان المؤمن العابد المخلص لربه المحب له الراضي عنه الراجي لرحمته الخائف من عذابه ، كما قال تعالى : {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ ويَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} الزمر 9 ، والمسلم المتدين يعيش في حياته متوازنا بين الرجاء والخوف ،وهو في علاقته بالناس مؤدي للحقوق، والناس يعيشون في خيره ،ويسلمون من شره ،كما عرف النبي صلى الله عليه وسلم المسلم.. ففي الصحيحين عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو – رضى الله عنهما – عَنِ النَّبِىِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ « الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ » ، وفي سنن الترمذي« الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ وَالْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ ». فالمسلم المتدين هو مصدر سلام لمن حوله ، والناس يأمنونه ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، مَا يُسْلِمُ عَبْدٌ حَتَّى يُسْلِمَ قَلْبُهُ ، وَلاَ يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يَأْمَنَ جَارُهُ بَوَائِقَهُ ، قَالُوا : وَمَا بَوَائِقُهُ ؟ قَالَ : غَشْمُهُ وَظُلْمُهُ ) رواه البزار ، وللتدين مظاهر متعلقة بالقلب والجوارح ينبغي مراعاتها، والحرص على تحقيقها. فالتدين الحقيقي يظهر في أخلاق الشخص ومعاملاته ، فالنبي عليه الصلاة والسلام حينما مدحه ربه قال سبحانه {وإنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} القلم: 4، وذلك لأن أبرز ما يتجلى فيه الإيمان الخلق ، وفي مسند أحمد عَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ قَالَ سَأَلَتُ عَائِشَةَ فَقُلْتُ أَخْبِرِينِي عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَتْ كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنُ ).
أيها المسلمون
وإذا كان هناك تدين حقيقي وصحيح وأصيل وصاف ونقي ، فهناك أيضا تدين مغلوط ومغشوش وكاذب ومخادع ، والرسول صلى الله عليه وسلم هو القائل كما في صحيح مسلم: (مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّى ». والمقصود بالتدين المغشوش : هو الذي لا يتقيد بالمقاصد الشرعية التي أُنزلت لأجلها الكتب ،وأرسلت الرسل ،والمتمثلة في عبادة الباري سبحانه، والعمل لأجل الفوز بالمقام العالي في يوم المعاد، وتوظيف النصوص الشرعية في تحقيق العبودية الكاملة لله تعالى، والنأي عن مواطن الشبه واستخدام الدين سلمًا لقطف الدنايا من حطام الدنيا. فالتدين المغشوش هو : الذي يقدم المصلحة الدنيوية على المصلحة الأخروية، والمصلحة الشخصية على المصلحة العامة من غير مبرر شرعي، وهو الذي يصلح ظاهره لأجل الناس ويقبح باطنه، والتدين المغشوش : هو التدين الذي يبدو صاحبه قديسًا أو «ملاكًا» أمام الخلق، ويصبح «إبليسًا» لعينًا أمام الخالق. وصاحب التدين الكاذب : لا يقر له قرار، وليس له حد يقف عنده، فالمحرك الرئيس له هو مصلحته الخاصة، فدرجة تدينه تزداد أو تنقص كلما غلا أو رخص هدفه المنشود، وشعاره الدائم هو «حيثما كانت مصلحتي فثم ديني». فصاحب التدين المغشوش : لا يعدم حيلة في تزيين عمله، وتجميل صنيعه، فتراه تذرف عيناه في مجالس العلم والوعظ، وتبدو أضراسه في مجالس اللهو، وصاحب التدين المغشوش : تجده مناصرًا للظلمة أو مؤازرًا للمظلومين، لأنه مستعد لتوظيف الدين والعلم لكل المتناقضات ما دام يصب ذلك في مصلحته، ولهذا فحين سُئل شميط بن عجلان رحمه الله: هل يبكي المنافق؟ قال: «يبكي من رأسه، أما من قلبه فلا!». فالمنافقون في زمن النبوة كانوا يلجؤون إلى التدين المغشوش لمآرب في أنفسهم، وقد أظهرت عوراتـهم الآيات القرآنية ، فقال تعالى : {إذَا جَاءَكَ الْـمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إنَّ الْـمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ 1 اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ إنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ 2 ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} [المنافقون: ١ – ٣]، وأصحاب التدين الشكلي المغشوش لا يرون أي غضاضة في التهام أموال غيرهم باسم التدين والتزهد، وفي الذكر الحكيم ، قال تعالى : {إنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 34]، وهذا النوع من الناس آفة في الدين والدنيا معًا، وتتمثل هذه الظاهرة في الانحراف عن التدين الحق ،إلى التدين المغشوش ، واستغلال الناس لهذه الظاهرة، فخرج أناس لا يخافون الله ،ولكن عليهم مظهر التدين ،أو ظهروا وتلبسوا لباس الدين ،فوثق الناس بهم ،وقدموهم ،واحترموهم ،وكانت النتيجة مصائب عظمى وكوارث متعددة، فمثلا الإنسان اذا أراد أن يخطب للزواج ما عليه إلا أن يلبس لباس التدين ،وحينئذ تفتح له الأبواب على مصاريعها ،فيتم الزواج ،ثم نكتشف أن الرجل غير متدين ،أو متدين تدينا مغشوشا، وأننا أعطيناه ثقتنا وزوجناه، فكانت المشاكل التي لا عد لها ولا حصر.كما لا يستحيي أصحاب التدين المغشوش من الاعتراض ،أو توجيه التهم إلى أهل العفة ،والنزاهة ولو كانوا أنبياء – عليهم السلام -، فهذا الخارجي وأبو الخوارج ذو الخويصرة التميمي يعترض على قسمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في غنائم حنين ويطالبه بالعدل – وهو العادل -، فلا يزيد الحبيب صلى الله عليه وسلم بأن قال: « قَدْ آذَوْا مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَصَبَرَ » رواه أحمد . والغريب أن صاحب التدين الكاذب قد يعرض نفسه للمهالك، وعلمه للنشر، وماله للإنفاق؛ مع سوء الطوية، ويكون أول من تُسعر بهم جهنم يوم القيامة، ففي صحيح مسلم : (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ … قَالَ نَعَمْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ فَأُتِىَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا قَالَ قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ. قَالَ كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لأَنْ يُقَالَ جَرِىءٌ. فَقَدْ قِيلَ.ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِىَ فِى النَّارِ وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ فَأُتِىَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا قَالَ تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ. قَالَ كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ. وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارِئٌ. فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِىَ فِى النَّارِ. وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ فَأُتِىَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا قَالَ مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلاَّ أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ قَالَ كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ هُوَ جَوَادٌ. فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ ثُمَّ أُلْقِىَ فِى النَّارِ ». وقد تظهر بعض آثار الأعمال الصالحة من صلاة وصيام وصدقة في أعمال أصحاب التدين المغشوش ،فيحملون أطنانًا من الحسنات، ولكنها تختفي وتفنى وراء تلك الجبال من الموبقات والسيئات، فلم تكن هذه الطاعات تحجزهم عن ركوب الخطايا، فهم أولياء فيما يظهر للناس، وظلمة فيما يختفي من أعمالهم، ومصداق ذلك قول المعصوم صلى الله عليه وسلم ، كما في صحيح مسلم (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ ». قَالُوا الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لاَ دِرْهَمَ لَهُ وَلاَ مَتَاعَ. فَقَالَ « إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِى يَأْتِى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاَةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِى قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِى النَّارِ ». وصاحب التدين الكاذب يدعو ويحث الناس على فعل الخيرات، واجتناب المحارم، ولكن لا يُخضِع نفسه لهذا القانون، وكأن شعاره «خذ علمي ،ولا تأخذ بعملي»، ومصداق ذلك قول الحبيب المعصوم صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري : « يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِى النَّارِ ، فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ فِى النَّارِ ، فَيَدُورُ كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ ، فَيَجْتَمِعُ أَهْلُ النَّارِ عَلَيْهِ ، فَيَقُولُونَ أَىْ فُلاَنُ ، مَا شَأْنُكَ أَلَيْسَ كُنْتَ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ قَالَ كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلاَ آتِيهِ ، وَأَنْهَاكُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ » . ولا يتورع صاحب التدين المغشوش في القول على الله بغير حق ،ما دام هذا المسلك يدر عليه بالنفع الدنيوي، يقول ابن القيم في مثل هؤلاء القوم: «كل من آثر الدنيا من أهل العلم واستحبها، فلابد أن يقول على الله غير الحق في فتواه وحكمه، في خبره وإلزامه، لأن أحكام الرب – سبحانه – كثيرًا ما تأتي على خلاف أغراض الناس، ولاسيما أهل الرئاسة، والذين يتبعون الشبهات، فإنهم لا تتم لهم أغراضهم إلا بمخالفة الحق ودفعه كثيرًا، فإذا كان العالم والحاكم محبين للرئاسة، متبعين للشهوات، لم يتم لهم ذلك إلا بدفع ما يضاده من الحق، ولاسيما إذا قامت له شبهة، فتتفق الشبهة والشهوة، ويثور الهوى، فيخفى الصواب، وينطمس وجه الحق، وإن كان الحق ظاهرًا لا خفاء به، ولا شبهة فيه أقدم على مخالفته، وقال: لي مخرج بالتوبة» (الفوائد: ص١٤٥). وصاحب التدين المغشوش قد يقوم ببناء مسجد أو مدرسة أو مرفق حيوي، ولكن مراده ليس وجه الله تعالى واليوم الآخر، بل له شأن وأمر آخر، وقد قَصَّ علينا القران الكريم خبر أبي عامر الفاسق وتظاهره بالتدين الكاذب وقيامه ببناء مسجد للضعفاء وأبناء السبيل، بحسب زعمه، وهدفه الحقيقي هو الكيد والمكر للدعوة، ففضح الله تعالى أمره، وسمى ما بناه مسجد الضرار، قال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْـمُؤْمِنِينَ وَإرْصَادًا لِّـمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إنْ أَرَدْنَا إلَّا الْـحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [التوبة: 107]، ثم قال تعالى: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّـمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْـمُطَّهِّرِينَ} [التوبة: 108]. ولقد عاب عدد غير قليل من علماء الإسلام أمثال هؤلاء الحمقى الذين يوظفون دينهم لأجل اللقمة ويسترزقون به، حتى إن الحاكم روى في تاريخه عن ربيعة الرأي أنه قال للإمام مالك: يا مالك من السفلة؟ قال: «قلت من أكل بدينه»، فقال لي: ومن أسفل السفلة؟ قلت: «من أصلح دنيا غيره بفساد دينه». فأصحاب التدين المغشوش موجودون في كل زمان ومكان، ويطلون رؤوسهم أو يختفون ويتوارون عن الأنظار بحسب مصالحهم، ويجيدون التلوُّن والتقمصَّ بقوالب مختلفة ومتنوعة، فهم آفة الأمم، وسبب الانتكاسة والهزائم التي تعاني منها أمة الإسلام في الأزمنة المتأخرة. فالواجب على كل شخص أن يتقي الله تعالى وأن يكون هدفه ورأس ماله الحقيقي إخلاص العبادة لله تعالى ،وأن يكون شعاره ، قول الله تعالى : {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِـحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110].
أيها المسلمون
لقد كان الجيل الإسلامي الأول (جيل الصحابة رضوان الله عليهم) سمحا في أخلاقه ومعاملاته، يميل إلى الانسجام مع مقتضى الفطرة وليس في حياته مكان للتكلف، مع جد وصلابة في الحق في وقتها وفي محلها. عن أبى سلمة بن عبد الرحمن قال: “لم يكن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متحزقين ولا متماوتين وكانوا يتناشدون الشعر في مجالسهم ويذكرون أمر جاهليتهم فإذا أريد أحد منهم على شيء من أمر الله دارت حماليق عينيه كأنه مجنون”(رواه البخاري في الأدب المفرد وابن أبي شيبة في المصنف وحسنه الألباني). فالإسلام منهاج حياة شامل ومتكامل، يخاطب قلب الإنسان وعقله، ويعنى بتهذيب شكله ومظهره بما ينسجم مع مقتضى الفطرة وحقائق الإيمان. ومحاولة حصره في مظاهر معينة من الشعائر الدينية أو تغليف تعاليمه بمزاج فرد أو مجموعة ،والإسلام دين الاستقامة الدائمة على طريق الحق ، وهو دين يرفض الفهم الخاطئ أو الظاهري أو التجزيئي للنصوص ، ويرفض التعامل المتعسف أو المصلحي معها ، ويرفض تنزيلها التنزيل المجانب للواقع . كما يطلب من المسلم أن يؤمن إيمانا أبديا بالكتاب كله ولا يكن من الذين عاب عليهم المولى عز وجل إيمانهم ببعض الكتاب وكفرهم بالبعض الآخر لأن ذلك يؤدي بالضرورة إلى أنصاف الحلول وإلى سياسة الترقيع وإلى خلط الاوراق وتلبيس الحق بالباطل وإلى التدين المغشوش المنتشر في العالم الإسلامي انتشار النار في الهشيم. قال تعالى : (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (85) البقرة ،وقال تعالى : (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ) البقرة 91، فهذا التدين المغشوش كان ولا يزال وسيظل أحد الأسباب الرئيسية لتخلف المسلمين وانحطاطهم وتسلط الطغاة والمجرمين على رقابهم.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( احذوا التدين المغشوش )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
ومن أبرز مظاهر هذا التدين المغشوش في حياتنا : – العبادة الموسمية وهي عبارة عن أداء شريحة واسعة من المسلمين للعبادة في أوقات دون أوقات وفي أمكنة دون أمكنة ، يتجلى هذا خاصة في شهر رمضان حيث يهرع الجميع للاستجابة لأوامر الله وتشهد المساجد اكتظاظا لا مثيل له وحركية عجيبة وأجواء منعشة تسر الناظرين ولكن المصيبة العظمى والمتكررة سنويا أن يتفلت هؤلاء الرمضانيون من العبادة بمجرد انقضاء شهر الرحمة بعد أن تذوقوا حلاوة الإيمان ولذة القرب من الله ومتعة الطاعة والمناجاة ، يعودون من جديد إلى الذنوب والمعاصي ، ويلقون من جديد بأنفسهم في نار جهنم. فهذه إحدى الفنانات صرحت أنها رفضت تصوير مشاهد إباحية خادشة للحياء احتراما لشهر العبادة وأجلتها لما بعد رمضان. كما نلحظ هذا أيضا أيام الجمع والأعياد وليلة السابع والعشرين من رمضان حيث يقصد الملايين من المسلمين عفو الله ثم ينسون العبادة في بقية الأيام والليالي بل نرى كثيرا من حكام العرب يصلون الجمعة والأعياد فقط في محاولة لاستغفال الشعوب من خلال الظهور بمظهر العباد الزهاد ( ومخطئ من ظن أن للثعلب دين) . ونلحظ هذا أيضا في موسم الحج حيث يأتي الناس من كل فج عميق رجالا وركبانا لتلبية نداء سيدنا ابراهيم، ثم وبكل سهولة ينقضون غزلهم من بعد قوة أنكاثا.. وهذه إحدى الراقصات أدت فريضة الحج ثم عادت لتمارس مهنتها الشريفة وبتلك الملابس الساترة التي يعرفها الجميع ، وهي ترقص الجمهور مستمتع ويمدحها بأعلى صوته الله الله عليك يا حاجة ، الله يرضى عليك يا حاجة ، الله يطول في عمرك يا حاجة. وهذه أخرى بعدما نزلت من الطائرة مباشرة خلعت حجابها وهي التي التزمت به طوال الرحلة وأثناء أداء المناسك. كما ان العديد من الحجاج يعودون إلى بلدانهم وهم تاركون للصلاة.
ومن مظاهر التدين المغشوش: – عدم تأثير العبادة في سلوك المسلم أثناء حركته في الحياة الخاصة والعامة : فنفس الشخص الذي يصلي في الصف الأول ويذرف الدمع خشوعا ويأتي بالنوافل والأوراد كلها ، هو نفسه الذي يكذب في السوق ويغش في البضاعة ،ويطفف في الميزان ،ويأكل حقوق الناس ، ويؤذي إخوانه وأهله وجيرانه. ومن مظاهر التدين المغشوش :– تعظيم بعض الشعائر وبالمقابل تعطيل أحكامها وأدوارها وأهدافها. فمثلا : يتنافس المسلمون في الغرب على بناء المساجد والمعابد وإنفاق مبالغ ضخمة لزخرفتها ، وهذه المبالغ الخالية كان بالإمكان تخصيص أجزاء منها لتأسيس مدارس نموذجية ودور حضانة متطورة ووسائل إعلام تعنى بقضاياهم وتعبر عن آرائهم ، ومشاريع اقتصادية تمول تحركاتهم وتشغل عاطليهم ومنظمات حقوقية تدافع عن مظالمهم ، يبنون المساجد ويهملون بناء الساجد ، يشيدون المعابد ويهملون تشييد العابد ،ويتنافس القادة العرب على طباعة المصحف الشريف وتوزيعه بملايين النسخ ولا يوجد على وجه الارض من حارب أحكامه وعطل حدوده مثلهم.
أيها المسلمون
ألا فاحذروا التدين المغشوش ، والزموا أنفسكم التدين الحق ، قال تعالى : ( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ) (31) ،(32) آل عمران، وقال صلى الله عليه وسلم « يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ فَلَنْ تَضِلُّوا أَبَدًا كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ » رواه البيهقي .
الدعاء