خطبة عن (الْغَدْرُ)
يوليو 30, 2025الخطبة الأولى (احْذَرُوا عِقَابَ اللَّهِ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ) (97): (99) الأعراف، وقال تعالى: (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) (12) البروج، وقال تعالى: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) (102) هود، وقال تعالى: (إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ) (14) ص.
إخوة الإسلام
لقد حذرنا الله جل جلاله من أسباب سخطه وبطشه وعقابه، وحذرنا من نفسه فقال تعالى: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ﴾ آل عمران:28، وقال تعالى: ﴿ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [الأنفال:25]. ومما يعرضنا لسخط الله وعقابه، مخالفة أمره، والوقوع في المعاصي والذنوب، فمعاصينا تتزايد، ومخالفاتنا تتكاثر، وآيات الله وإنذاراته علينا تتوالى، فكم نسمع من المواعظ، وكم نشاهد من العبر، وكم نرى من العقوبات، يقول ابن القيم رحمه الله: (اقشعرت الأرض، وأظلمت السماء، وظهر الفساد في البر والبحر، من ظلم الفجرة، وذهبت البركات، وقلت الخيرات، وهزلت الوحوش، وتكدرت الحياة، من فسق الظلمة، وبكى ضوء النهار، وظلمة الليل، من الأعمال الخبيثة، والأفعال الفظيعة، وشكى الكرام الكاتبون، والمعقبات إلى ربهم من كثرة الفواحش، وغلبة المنكرات والقبائح، وهذا والله منذر بسيل عذاب، قد انعقد غمامه، ومؤذن بليل بلاء، قد أدلهم ظلامه، فاعدلوا عن هذا السبيل، بتوبة نصوح، ما دامت التوبة ممكنة، وبابها مفتوح، وكأنكم بالباب وقد أغلق، ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ﴾ [الشعراء:227].
والمخيف في الأمر: أن العقوبة إذا حلت شملت الجميع، وأصابت الكل، إلا من رحم ربي، ففي الصحيحين: (أن ابْنَ عُمَرَ – رضي الله عنهما – يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – «إِذَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِقَوْمٍ عَذَابًا، أَصَابَ الْعَذَابُ مَنْ كَانَ فِيهِمْ، ثُمَّ بُعِثُوا عَلَى أَعْمَالِهِمْ»، وفي صحيح البخاري: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – «يَغْزُو جَيْشٌ الْكَعْبَةَ، فَإِذَا كَانُوا بِبَيْدَاءَ مِنَ الأَرْضِ يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ». قَالَتْ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ، وَفِيهِمْ أَسْوَاقُهُمْ وَمَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ. قَالَ «يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ، ثُمَّ يُبْعَثُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ»، وفي الصحيحين: (عَنْ زَيْنَبَ ابْنَةِ جَحْشٍ – رضي الله عنهن أَنَّ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – دَخَلَ عَلَيْهَا فَزِعًا يَقُولُ «لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ». وَحَلَّقَ بِإِصْبَعِهِ الإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا. قَالَتْ زَيْنَبُ ابْنَةُ جَحْشٍ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ قَالَ «نَعَمْ ، إِذَا كَثُرَ الْخُبْثُ»،
فإذا أسرف الناس في الظلم والفجور والشذوذ، نزل بهم عذاب الله وغضبه، وحل بهم بطشه وعقابه، فهذه سنة كونية، سارية نافذة، لا تتغير ولا تتبدل، على مر العصور والأجيال، وقد يكون العذاب طوفاناً يغمر الناس، أو زلزالاً يزلزل الأرض، أو جفافاً، أو أعاصيراً، أو صواعقاً، أو أمراضاً جسدية، أو روحية، أو قلقاً، أو حروباً، أو تفرقاً وتمزقاً، قال الله تعالى: ﴿فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ [العنكبوت: 40].
فالمجتمع حين يغرق في الشهوات، وتفشوا فيه المنكرات، ويألف الوقوع في الموبقات، وتقوم الحياة فيه على الذنوب والآثام، فإنه يسقط من عين الله، ويقع في مصارع السوء، وينزل الله به العذاب والعقاب، قال الله تعالى: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾ [الأنعام:44]. ومن الملاحظ والمخيف في هذا الزمان: أن المعاصي في مجتمعنا قد تكاثرت، وتنوعت بشكل مخيف، بل حدثت معاص لم تكن معروفة من قبل، ووقعت منكرات لم نتوقع أبداً أن تقع، ألا نخشى أن يأخذنا الله على غرة، وينزل علينا العذاب على غفلة، قال تعالى: ﴿أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ [يوسف:107]، وقال تعالى: ﴿أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [الأعراف:97-100].
ألا نخشى من العقوبة ونزول العذاب، فمعاصينا تزداد، ونعم الله علينا تتكاثر، أما نخشى أن يحل بنا البلاء، وتسلب منا النعم، أما يخاف أحدنا أن يعصي الله، ثم يختم له بخاتمة السوء، فيخسر الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين، ففي مسند أحمد: (عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ يُعْطِي الْعَبْدَ مِنَ الدُّنْيَا عَلَى مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ». ثُمَّ تَلاَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَىْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ). وفي مسند البزار: (قَالَ صلى الله عليه وسلم: لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ أَوْ لَيُسَلِّطَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ شِرَارَكُمْ فَيَدْعُو خِيَارُكُمْ فَلا يُسْتَجَابُ لَهُمْ). وفي مسند أحمد: (عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «لَعَنَ اللَّهُ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَكَاتِبَهُ». قَالَ وَقَالَ «مَا ظَهَرَ فِي قَوْمٍ الرِّبَا وَالزِّنَا إِلاَّ أَحَلُّوا بِأَنْفُسِهِمْ عِقَابَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ»،
فعلينا أن ننتبه لأنفسنا، ونرجع إلى ربنا، لنتدارك أمرنا، قبل أن ينزل بنا البلاء، وقبل أن يحل بنا العذاب، فإن الله سبحانه وتعالى لا يسلب نعمة أنعمها على قوم، إلا بسبب ذنوبهم ومخالفاتهم، قال الله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [الأنفال:53،54]، وقال تعالى: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ [إبراهيم:7].
أيها المسلمون
ومن أسباب نزول العذاب، وحلول العقاب: أن يخذل المسلم أخاه المسلم، فعندما يعجز المظلومون عن أخذ حقوقهم، وإقامة القصاص ممن ظلمهم، ونهب حقوقهم، ينصرهم الله، ويعاقب المتخاذلين منهم، ففي المستدرك للحاكم: (عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيت أمتي تهاب فلا تقول للظالم يا ظالم فقد تودع منهم)، وفي المعجم للطبراني: (عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أوحى الله إلى ملك من الملائكة أن اقلب مدينة كذا وكذا على أهلها قال إن فيه عبدك فلانا لم يعصك طرفة عين قال اقلبها عليه وعليهم فإن وجهه لم يتمعر لي ساعة قط)، وفي سنن الترمذي: (عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْهُ ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلاَ يُسْتَجَابُ لَكُمْ».
فالمسلم أخو المسلم، لا يخذله، ولا يسلمه لأعدائه، وفي الصحيحين: (أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ – رضي الله عنهما – أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يُسْلِمُهُ ،وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، وفي الصحيحين: (عَنْ أَبِي مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ «الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ، يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا». ثُمَّ شَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ)، وفي صحيح البخاري: (أن النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – «تَرَى الْمُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى عُضْوًا تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ جَسَدِهِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى».
ويتعرض إخواننا من المسلمين المستضعفين في هذا الزمان للقتل والتنكيل، والحصار والتجويع، كما هو الحال في قطاع غزة، وسورية، والسودان، وغيرها من البلاد التي يلاقي فيها المسلمون كل أصناف العذاب، ولم يتحرك المسلمون لنصرتهم، وأسلموهم إلى أعدائهم ، تحت ويلات هذه المحرقة الكبرى وحرب الإبادة الجماعية التي شنها عليهم التحالف وقد بلغ الظلم مداه بالتكبر والتجبر، والإعراض عن الحق، والإمعان في القتل وإراقة الدماء وانتهاك كافة حرمات البشر: من الأطفال، والنساء، والشيوخ، والمرضى، والمصابين، والمعوزين، الذين لم يكن لهم حول ولا قوة لدفع هذه العدوان، ومنع جحيم الظلم الذي انفتح فوق رؤوسهم، وقد تخلّى عنهم الأهل والجيران والإخوة والخلان، وتآمر البعض عليهم مع أعدائهم، فكان البعض منهم عونا للظالمين على المظلومين،
فالمستضعفون من المسلمين يصرخون ويستغيثون، ويستنجدون صبح مساء، يستفزون بقتلاهم وجرحاهم النخوة والرجولة، والأخوّة والعروبة والإسلام، ويستنجدون بالإنسانية والشرائع الدولية، دون أن يهتز لهم جفن، أو يرتجف فيهم عِرق، أو يتدفق في وجوههم دم، وكأن أهل غزة ليسوا عربا ولا مسلمين، فليعلم الجميع: أن عذاب المتخاذلين قادم، وسيصيبهم في مقتل، وسيتذوقون من أسوإ الكؤوس، التي تجرعها الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، فالعذاب قادم، أياً كانت النتيجة النهائية للحرب،
ولذا فمن الواجب علينا أن نهب لنصرتهم قبل أن يحل بنا العذاب، وعلينا أن نتبرأ من المتخاذلين، قبل أن تدور علينا الدائرة، وعلينا أن ننصرهم كل منا حسب استطاعته، مع الدعاء، واللجوء إلى الله تعالى، قال الإمام ابن القيم: «وكثير من الجهال اعتمدوا على رحمة الله وعفوه وكرمه وضيعوا أمره ونهيه، ونسوا أنه شديد العقاب، وأنه لا يُرد بأسه عن القوم المجرمين، ومن اعتمد على العفو مع الإصرار على الذنب فهو كالمعاند». فاحْذَرُوا عباد الله عِقَابَ اللَّهِ، فعلى العاقل أن يحذر من عقوبة المعاصي والخذلان؛ وألا يغتر بالتأخير؛ فإن الله تعالى لا تضره معصية العاصي، فإنه تعالى قد يؤخر العقوبة، ولكن متى نزلت فلا نجاة للعاصي، ففي الصحيحين: (عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُمْلِى لِلظَّالِمِ فَإِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ». ثُمَّ قَرَأَ (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِىَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) هود:102،
أيها المسلمون
والمتأمل لقوله تعالى: (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ): فهذه الآية الكريمة تبث الطمأنينة عند المؤمنين، بأن الله تعالى غير عاجز عن نصرة من يلوذ به، ولكنْ لله حكما وسننا، ولا بد للمؤمنين عموما، من إدراك ما لهم وما عليهم، ويتيقنوا بعد ذلك بأن العاقبة للمتقين ،ولو بعد حين، ولعل تأخر النصر، أو وقوع الابتلاء، أو حدوث ما ظاهره عكس وما وعد الله، إنما هو من عند أنفسنا، ومن الملاحظ أن الأمة الاسلامية اليوم تمر بمحن كثيرة، فأصبحت مأمورة بأمر أعدائها، وأصبحوا متحكمين في كثير من المفاصل المهمة للبلاد الاسلامية، والسبب في هذه الأحوال يرجع إلينا، فهذا الهوان الذي رضيناه لأنفسنا، حين رتعنا في الشهوات، ونسينا المنجيات، ولم نأخذ بالأسباب، وحين تركنا حبل النجاة ،وركنا إلى الأعداء، وعطلنا عقولنا عن الإبداع، واكتفينا لغيرنا بالاتباع، وسكتنا عن الظلم والظالمين، فشُلَّت إرادتنا، وتبعثرت جهودنا، وأصبح غالبيتنا لا يهمه أمر دين ولا أمة، أو أنهم اكتفوا بالحد الأدنى من الإنكار، وهنا، هانت علينا أنفسنا، قبل أن يهون علينا أمر ديننا وأمتنا، فتحكم الصغار، وأفسد الأغيار، وغاب الأخيار.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (احْذَرُوا عِقَابَ اللَّهِ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
والمتدبر لقوله تعالى :(إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ)، فقد ذكر الله هذه الآية تعقيبا على ما حصل للفئة المؤمنة، التي انتصرت بعقيدتها العزيزة على الحياة الذليلة، حين حُفرت الأخاديد، وأضرمت فيها النار، وأُلقي فيها الرافضون للكفر وتأليه الأشخاص، فلا مساومة على دين الله، وظن هؤلاء الطغاة أنهم انتصروا، ولكنهم في الحقيقة خسروا، لأن هدفهم كان تحويل الناس عن دينهم ،وعبادة إله مزعوم، فما تحقق لهم ذلك، بل بقي القوم على التوحيد وإن غابت أجسامهم بقتلهم،
(إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ)، فيحذّرُ اللهُ كل من يعتدي على المؤمنين بأن بطشه شديد، فلا يغتر أحد بقوته أمام بطش الله الشديد، فهو يمهل ولا يهمل، يملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته. فهذا الدين حيّ تكفل الله برعايته، وأكمله الله وأتمّ نعمه علينا به، ورضيه لنا دينا، فهو الدين الخاتم على النبي الخاتم بالكتاب الخاتم للوحي، قال الله تعالى: (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) التوبة (32) ،(33)،
فمطلوب من أتباع هذا الدين: الانتماء الحقيقي لهذا الدين ،لا مجرد الادعاء بأننا مسلمون، وهذا يترتب عليه التزام حقيقي بين العبد وربه سبحانه ، بالاستقامة والصبر على ذلك، فقد تكفل الله بنصر من نصره، فإن تأخر الوعد أو لم يتحقق فلا شك أن الخلل فينا، فالمراجعة ضرورية، ولا يكفي مجرد الالتزام العام بالدين، فلا بد من الأخذ بالأسباب وتحقيقها،
وقوله تعالى :(إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ): فيه تحذير من الظلم، فالظلم وخيم العاقبة، شديد النكاية، يمزق أهله كل ممزق، ويبيدهم شر إبادة، فيخرب الديار ،ويقصم الأعمار، فكم قصم به من أمم، وفرق به جماعات، وخرب به حصون، وأفنى به أجيالا، وسقطت به دول وحكومات، وأهلك به أمماً، قال الله تعالى: (وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ ) (11) :(15) الأنبياء، فيا مبادراً بالظلم ما أجهلك، فإلى متى تغتر بالذي أمهلك، كأنه قد أهملك، فكأنك بالموت وقد جاء بك وأنهلك، وإذن بالرحيل وقد أفزعك الملك، وأسرك البلاء بعد الهوى وعقلك، ويا مطمئناً بالفاني ما أكثر زللك، ويا معرضاً عن النصح كأن النصح ما قيل لك، وقد نزلت بهم الفواجع، وحلت بهم الموجع.وحقا ما قال ربنا: (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ) (12) :(16) البروج
الدعاء