خطبة عن (استغناء المسلم) 2
يناير 16, 2024خطبة عن (وعود الرحمن لأهل الإيمان)
يناير 17, 2024الخطبة الأولى (استغناء المسلم) 1
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (15) فاطر، وفي سنن الترمذي: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ «لأَنْ يَغْدُوَ أَحَدُكُمْ فَيَحْتَطِبَ عَلَى ظَهْرِهِ فَيَتَصَدَّقَ مِنْهُ فَيَسْتَغْنِىَ بِهِ عَنِ النَّاسِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ رَجُلاً أَعْطَاهُ أَوْ مَنَعَهُ ذَلِكَ فَإِنَّ الْيَدَ الْعُلْيَا أَفْضَلُ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ»، وفي الجامع الصغير للطبراني: (عن جابر بن عبدالله وسهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتاني جبريلٌ، فقال: يا محمدٌ! عشْ ما شئتَ فإنكَ ميتٌ، وأحببْ منْ شئتَ فإنكَ مفارقُهُ، واعملْ ما شئتَ فإنكَ مجزيٌّ بهِ، واعلمْ أنْ شرفَ المؤمنِ قيامُهُ بالليلِ، وعزَّهُ استغناؤهُ عنِ الناسِ)
إخوة الإسلام
الاستغناء: كلمة تحمل بين طياتها الكثير والكثير من المعاني: فمن قال استغنيت بالله: فهذا يعني أنه طلب حصول الكفاية، وسد الحاجة منه سبحانه، دون من سواه، ومن قال: قَرَّرتُ الاِسْتِغْناءَ عَنْ الناس أي: أعرضتُ وتَّخَلِّيت عَنْ خَدَماتِهِم وَعَدَمُ الحاجَةِ إِلَيهم، واِسْتَغْنَى التَّاجِرُ: أي: اِغْتَنَى، واستغنت الشركةُ عن عددٍ من الموظّفين: أي: أنهت عملَهم، وأقالتهم، هذا من حيث المعنى اللغوي، أما عن أنواعه: فللاستغناء أنواع وأقسام شتى، ولكن من أهم أنواع الاستغناء للمسلم في حياته: (الاستغناء بالله تعالى، والاستغناء بالقرآن دون غيره من الكتب السابقة، والمناهج المنحرفة، والاستغناء عن الناس، والاستغناء بالحلال عن الحرام)
وأولها: الاستغناء بالله: فالغِنى بالله تعالى والاستغناء به سبحانه يعني: طلب حصول الكفاية منه، وسد الحاجة منه دون من سواه. وبحسب تحقيق المؤمن للاستغناء بربه تعالى، يكون غِناه وسد فاقته، وفوزه وفلاحه. ولأن الغِنى هو محض فضل الله تعالى؛ وحيث أن أفضاله لا تُعَد ولا تُحصى ولا تُحصر؛ فاقتضت حكمته سبحانه أن يجعل للغِنى مراتب ودرجات، ولما كان الفقر إلى الله سبحانه هو عين الغِنى به، فأفقر الناس إلى الله أغناهم به، وأذلهم له، وأعزهم وأضعفهم بين يديه أقواهم، وأجهلهم عند نفسه أعلمهم بالله، وأمقتهم لنفسه أقربهم إلى مرضاة الله – فالغِنى بالله مع الفقر إليه متلازمان، ومن استغنى به سبحانه زالت عنه كل حسرة، وحضره كل سرور؛ وفي سنن الترمذي: (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «مَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهَ وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلاَّ مَا قُدِّرَ لَهُ». ويقول ابن القيم رحمه الله: [إذا استغنى الناس بالدنيا فاستغن أنت بالله]،
واعلم أن الاستغناء بالله تعالى له علامات، فإذا وجدت كان العبد مستغن بالله، ومن هذه العلامات: أن العبد المسلم لا يخاف إلا من الله عز وجل. وأن يثق بما عند الله، يقول أبو بكر: (يا رسول الله! والذي بعثك بالحق نبياً، إن الذي نعطيه لك لتنفقه في سبيل الله أحب إلينا مما بقي معنا)، وفي صحيح مسلم: (عَنْ مُطَرِّفٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ أَتَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ يَقْرَأُ (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ) قَالَ «يَقُولُ ابْنُ آدَمَ مَالِي مَالِي – قَالَ – وَهَلْ لَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مِنْ مَالِكَ إِلاَّ مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ». فإذا أدلهمت على المسلم الخطوب، ونزلت به الابتلاءات والمصائب، فهو دائماً كبير الأمل في الله؛ ويثق في موعود الله، ومن علامات الاستغناء بالله تعالى: الفرح والأنس بالله تعالى فلا بد أن تفرح بالله عز وجل؛ لأنه رزقك الإسلام؛ وتفضل عليك بالنعم، وفي مسند أحمد: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «إِنَّ اللَّهَ قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَخْلاَقَكُمْ كَمَا قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَرْزَاقَكُمْ وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُعْطِي الدُّنْيَا مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لاَ يُحِبُّ وَلاَ يُعْطِى الدِّينَ إِلاَّ لِمَنْ أَحَبَّ فَمَنْ أَعْطَاهُ اللَّهُ الدِّينَ فَقَدْ أَحَبَّهُ)، ومن علامات الاستغناء بالله تعالى: التعرف والتودد إلى الله فإذا تعرف الناس إلى ملوكهم وكبرائهم، وتقربوا إليهم لينالوا بهم العزة والرفعة، فتعرف أنت إلى الله، وتودد إليه، تنل بذلك غاية العز والرفعة. فالمؤمن عندما يتعرف إلى الله يشعر أنه عزيز بالله، قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:٨].
أيها المسلمون
وللاستغناء بالله تعالى فضائل وثمرات، ومنها: أنه بالاستغناء بالله يتحقق للمؤمن الأمن والراحة والاطمئنان، فالتعلُّقَ بالله سبب لكل خير، وهو روح التوحيد وأساس السعادة، وفي مسند أحمد: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «مَنْ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ فَأَنْزَلَهَا بِالنَّاسِ لَمْ تُسَدَّ فَاقَتُهُ وَمَنْ أَنْزَلَهَا بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَوْشَكَ اللَّهُ لَهُ بِالْغِنَى إِمَّا أَجَلٍ عَاجِلٍ أَوْ غِنًى عَاجِلٍ». ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلق قلوب أصحابه بالله، ففي سنن الترمذي: (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمًا فَقَالَ «يَا غُلاَمُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ رُفِعَتِ الأَقْلاَمُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ» ، وفي سنن أبي داود: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ذَاتَ يَوْمٍ الْمَسْجِدَ فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ أَبُو أُمَامَةَ فَقَالَ «يَا أَبَا أُمَامَةَ مَا لِي أَرَاكَ جَالِسًا فِي الْمَسْجِدِ فِي غَيْرِ وَقْتِ الصَّلاَةِ». قَالَ هُمُومٌ لَزِمَتْنِي وَدُيُونٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ «أَفَلاَ أُعَلِّمُكَ كَلاَمًا إِذَا أَنْتَ قُلْتَهُ أَذْهَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَمَّكَ وَقَضَى عَنْكَ دَيْنَكَ». قَالَ قُلْتُ بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ «قُلْ إِذَا أَصْبَحْتَ وَإِذَا أَمْسَيْتَ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُبْنِ وَالْبُخْلِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ وَقَهْرِ الرِّجَالِ». قَالَ فَفَعَلْتُ ذَلِكَ فَأَذْهَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَمِّي وَقَضَي عَنِّى دَيْنِي). ومن ثمرات التعلق بالله والاستغناء عن الناس: الكفاية والوقاية: قال تعالى: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) [الطلاق/3]. ومن ثمرات الاستغناء بالله: نيل محبة الله: ففي مسند أحمد: (أن رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُحِبُّ الْغِنَيَّ الْخَفِيَّ التَّقِيَّ». ومن ثمرات الاستغناء بالله: دخول الجنة: ففي مسند احمد: (عَنْ ثَوْبَانَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «مَنْ يَتَكَفَّلُ لِي بِوَاحِدَةٍ وَأَتَكَفَّلُ لَهُ بِالْجَنَّةِ». قَالَ ثَوْبَانُ أَنَا. قَالَ «لاَ تَسْأَلِ النَّاسَ». يَعْنِى شَيْئاً. قَالَ نَعَمْ. قَالَ فَكَانَ لاَ يَسْأَلُ). وفي سنن الترمذي: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «عُرِضَ عَلَىَّ أَوَّلُ ثَلاَثَةٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ شَهِيدٌ وَعَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ وَعَبْدٌ أَحْسَنَ عِبَادَةَ اللَّهِ وَنَصَحَ لِمَوَالِيهِ »
وللاستغناء بالله تعالى صور متعددة: ومن صور التعلق بالله والاستغناء عن الخلق، ما جاء في قول الله تعالى عن هود عليه السلام: (قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِي ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) هود: 53-56 وما جاء في الصحيحين: (عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ – رضي الله عنهما – أَخْبَرَهُ أَنَّهُ غَزَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قِبَلَ نَجْدٍ، فَلَمَّا قَفَلَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قَفَلَ مَعَهُ، فَأَدْرَكَتْهُمُ الْقَائِلَةُ فِي وَادٍ كَثِيرِ الْعِضَاهِ، فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم -، وَتَفَرَّقَ النَّاسُ فِي الْعِضَاهِ يَسْتَظِلُّونَ بِالشَّجَرِ، وَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – تَحْتَ سَمُرَةٍ، فَعَلَّقَ بِهَا سَيْفَهُ، قَالَ جَابِرٌ فَنِمْنَا نَوْمَةً، ثُمَّ إِذَا رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم يَدْعُونَا، فَجِئْنَاهُ فَإِذَا عِنْدَهُ أَعْرَابِيٌّ جَالِسٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – «إِنَّ هَذَا اخْتَرَطَ سَيْفِي، وَأَنَا نَائِمٌ فَاسْتَيْقَظْتُ، وَهْوَ فِي يَدِهِ صَلْتًا، فَقَالَ لِي مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي قُلْتُ اللَّهُ. فَهَا هُوَ ذَا جَالِسٌ». ثُمَّ لَمْ يُعَاقِبْهُ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم -)، وإذا كان الاسلام قد أمرنا بالاستغناء بالله تعالى، فقد حذرنا من الاستغناء عن الله تعالى، ففي ذلك خطر عظيم، فالناس جميعا فقراء إلى الله تعالى في تدبيرهم، وقيام أمورهم، وإصلاح شؤونهم، ولا يستغنون عن الله طرفة عين، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) {فاطر:15}. وقد جعل الله استغناء العبد عنه موجبا لهلاكه، كما قال تعالى: (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى) {الليل:8-10}. وأخبر أن رؤية العبد غنى نفسه، سبب لطغيانه، فقال تعالى: (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى* أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) {العلق: 6-7}. فإذا زعم امرؤ أنه مستغن عن الله، بمعنى أن الله لا يدبره، وأنه لا حاجة به إلى الله خالقا ورازقا، فهو من أخبث الناس وأكفرهم، وإذا زعم أنه مستغن عن الله، بمعنى أنه لا حاجة به إلى عبادته والتقرب إليه، والذل له، والانكسار له سبحانه، فلم يفتقر إلى الله إلها معبودا، ولا رأى لله عليه حقا، يجب عليه القيام به حتى يموت، فإنه خارج من جملة المسلمين،
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (استغناء المسلم) 1
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
ومن أنواع الاستغناء التي يحتاجها المسلم في حياته: الاستغناء بالقرآن دون غيره من الكتب السابقة، والمناهج المنحرفة، والقوانين الوضعية الظالمة، قال الله تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (48): (50) المائدة، وفي مسند أحمد: (أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَتَى النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- بِكِتَابٍ أَصَابَهُ مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكُتُبِ فَقَرَأَهُ عَلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَغَضِبَ وَقَالَ «أَمُتَهَوِّكُونَ فِيهَا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً لاَ تَسْأَلُوهُمْ عَنْ شَيْءٍ فَيُخْبِرُوكُمْ بِحَقٍّ فَتُكَذِّبُوا بِهِ أَوْ بِبَاطِلٍ فَتُصَدِّقُوا بِهِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ مُوسَى -صلى الله عليه وسلم- كَانَ حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلاَّ أَنْ يَتَّبِعَنِي». وفي تخريج المسند لشعيب، الحسن البصري: ( أنَّ عُمَرَ بنَ الخطَّابِ قال: يا رسولَ اللهِ، إنَّ أهلَ الكِتابِ يُحدِّثونَنا بأحاديثَ قد أخَذَتْ بقُلوبِنا، وقد هَمَمْنا أنْ نَكتُبَها، فقال: يا ابنَ الخطَّابِ، أمُتَهَوِّكون أنتُم كما تَهَوَّكَتِ اليهودُ والنَّصارى؟ أمَا والذي نَفْسُ مُحمَّدٍ بِيَدِه لقد جِئتُكُم بها بَيضاءَ نَقيَّةً، ولكنِّي أُعطيتُ جَوامِعَ الكَلِمِ، واخْتُصِرَ لي الحَديثُ اختِصارًا). وفي مسند أحمد: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ جَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي مَرَرْتُ بِأَخٍ لِي مِنْ قُرَيْظَةَ فَكَتَبَ لِي جَوَامِعَ مِنَ التَّوْرَاةِ أَلاَ أَعْرِضُهَا عَلَيْكَ. قَالَ فَتَغَيَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ عَبْدُ اللَّهِ – يَعْنِي ابْنَ ثَابِتٍ – فَقُلْتُ لَهُ أَلاَ تَرَى مَا بِوَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. فَقَالَ عُمَرُ رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالإِسْلاَمِ دِيناً وَبِمُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم- رَسُولاً. قَالَ فَسُرِّيَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَقَالَ « وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ أَصْبَحَ فِيكُمْ مُوسَى ثُمَّ اتَّبَعْتُمُوهُ وَتَرَكْتُمُونِي لَضَلَلْتُمْ إِنَّكُمْ حَظِّي مِنَ الأُمَمِ وَأَنَا حَظُّكُمْ مِنَ النَّبِيِّينَ». وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تَسْأَلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ شَيْءٍ، فَإِنَّهُمْ لَنْ يَهْدُوكُمْ وَقَدْ ضَلُّوا، وَإِنَّكُمْ إِمَّا أَنْ تُصَدِّقُوا بِبَاطِلٍ وإما أنْ تُكَذِّبُوا بِحَقٍّ، وَإِنَّه والله: لَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ مَا حَلَّ لَهُ إِلا أَنْ يَتَّبِعَنِي»، رواه أحمد، وفي بعض الأحاديث له: «لَوْ كَانَ مُوسَى وَعِيسَى حَيَّينِ؛ لَمَا وَسِعَهُما إلا اتِّباعِي». فالقرآن الكريم: أساس رسالة التوحيد، والمصدر القويم للتشريع، ومنهل الحكمة والهداية، والرحمة المسداة للناس، والنور المبين للأمة، والمحجة البيضاء التي لا يزغ عنها إلا هالك وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، والصراط المستقيم، من عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم. هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أذله الله، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، ونستكمل بقية أنواع الاستغناء في لقاء قادم إن شاء الله تعالى.
الدعاء