خطبة عن (الله هو الرَّزَّاقُ) 1
يوليو 12, 2025الخطبة الأولى (اسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) (32) النساء.
إخوة الإسلام
لقاؤنا اليوم -إن شاء الله تعالى- مع هذه الآية الكريمة من كتاب الله العزيز، نتلوها، ونتدبر معانيها، ونرتوي من نبعها الصافي، ونرتشف من رحيقها المختوم، وبداية: ففي سبب نزول هذه الآية: روى البيهقي والترمذي وأحمد: (عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيَغْزُو الرِّجَالُ وَلاَ نَغْزُو وَلاَنُقَاتِلُ فَنُسْتَشْهَدَ وَإِنَّمَا لَنَا نِصْفُ الْمِيرَاثِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى (وَلاَ تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ)، وعن ابن عبَّاسٍ رضِي اللهُ عنهما قال: (أتت امرأةٌ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم فقالت: يا نبيَّ اللهِ، للذَّكَرِ مِثلُ حظِّ الأُنثيَيْنِ، وشَهادةُ امرأتينِ برجُلٍ، أفنحن في العملِ هكذا؟ إن عمِلَتِ المرأةُ حسنةً كُتِبَت لها نصفَ حسنةٍ! فأنزَل اللهُ: (وَلَا تَتَمَنَّوْا) الآية).
وفي تفسيرها يقول السعدى: (وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ): (ينهى الله تعالى المؤمنين عن أن يتمنى بعضهم ما فضل الله به غيره من الأمور الممكنة، وغير الممكنة، فلا تتمنى النساء خصائص الرجال، التي بها فضلهم على النساء، ولا صاحب الفقر والنقص حالة الغنى والكمال تمنيا مجردا، لأن هذا هو الحسد بعينه، تمني نعمة الله على غيرك أن تكون لك ويسلب إياها، ولأنه يقتضي السخط على قدر الله، والإخلاد إلى الكسل والأماني الباطلة، التي لا يقترن بها عمل ولا كسب، وإنما المحمود أمران: أن يسعى العبد على حسب قدرته، بما ينفعه من مصالحه الدينية والدنيوية، ويسأل الله تعالى من فضله، فلا يتكل على نفسه ولا على غير ربه).
وإذا كان اللهُ تعالى يقول: (وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ): فهو سبحانه قد نهى عن مجرَّد التمنِّي، فكيفَ بمَن يُنكر الفوارقَ الشرعيَّة بينَ الرَّجل والمرأةِ في هذا الزمان ،ويُنادي بإلغائِها، ويطالبُ بالمساواةِ، ويدعو إليها باسمِ المساواةِ بينَ الرَّجل والمرأةِ؟، فهذه بلا شكٍّ نظريةٌ إلحاديةٌ؛ لما فيها مِن منازعةٍ لإرادةِ اللهِ الكونيَّة القدريَّة، في الفوارقِ الخَلقيةِ والمعنويَّة بينهما، ومنابذةٍ للإسلامِ في نصوصِه الشرعيَّة القاطعةِ، بالفرقِ بينَ الذَّكر والأُنثى في أحكامٍ كثيرةٍ، ولو حصَلت المساواةُ في جميعِ الأحكامِ، مع الاختلافِ في الخِلقةِ والكِفايةِ؛ لكان هذا انعكاسًا في الفطرةِ، ولكان هذا هو عينَ الظلمِ للفاضلِ والمفضولِ، بل ظلمٌ لحياةِ المجتمعِ الإنسانيِّ، لما يلحقُه مِن حرمانِ ثمرةِ قُدراتِ الفاضلِ، والإثقالِ على المفضولِ فوقَ قدرتِه، وحاشا أن يقعَ مثقالُ خردلةٍ مِن ذلك في شريعةِ أحكمِ الحاكمينَ.
والتمني المنهي عنه في الآية: هو الذي يتضمن معنى الطمع فيما في يد الغير، والحسد له على ما أعطاه الله، من مال أو جاه أو غير ذلك، مما يجرى فيه التنافس بين الناس، وذلك لأن التمني بهذه الصورة يؤدي إلى شقاء النفس، وفساد الخلق والدين، ولأنه أشبه ما يكون بالاعتراض على قسمة الخالق العليم الخبير بأحوال خلقه، وبشئون عباده، ولا يدخل في التمني المنهي عنه ما يسميه العلماء بالغبطة، وهي أن يتمنى الرجل أن يكون له مثل ما عند غيره من خير، دون أن ينقص شيء مما عند ذلك الغير، كما في الصحيحين: (أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – يَقُولُ «لاَ حَسَدَ إِلاَّ عَلَى اثْنَتَيْنِ، رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَقَامَ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ، وَرَجُلٌ أَعْطَاهُ اللَّهُ مَالاً فَهْوَ يَتَصَدَّقُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ»، وفي رواية: «لاَ حَسَدَ إِلاَّ فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ حِكْمَةً فَهْوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا».
وقد ختم الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة بقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً): أي إن الله تعالى كان وما زال عليما بكل شيء من شئون هذا الكون، وقد وزع سبحانه أرزاقه ومواهبه على عباده بمقتضى علمه وحكمته، فجعل فيهم الغنى والفقير، فيحتاج بعضهم إلى بعض، وليتبادلوا المنافع التي لا غنى لهم عنها، وكلف كل فريق منهم بما يتناسب مع تكوينه واستعداده، وهو عليم بمن يستحق الدنيا فيعطيه منها، وبمن يستحق الفقر فيفقره، وهو عليم بمن يستحق الآخرة فيقيضه لأعمالها، وبمن يستحق الخذلان فيخذله عن تعاطي الخير وأسبابه، كما يُستفاد من قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا): وجوبُ مراقبةِ الله؛ لأنَّ العاقلَ إذا علِم أنَّ الله سبحانه يعلَمُه، فسوف يراقبُ ربَّه بلسانِه وجَنانِه وأركانه؛ بلسانِه: بألَّا يقولَ ما حرَّم اللهُ، وجَنانِه: بألَّا يعتقدَ شيئًا حرَّمه اللهُ، أو يقولَ شيئًا حرَّمه اللهُ بالقلب؛ لأنَّ قولَ القلب هو حركتُه وعملُه، وأركانه: جوارحه؛ لأنَّ الإنسان إذا آمَن حقيقةً بهذا فسيراقبُ اللهَ.
أيها المسلمون
وأما قوله تعالى: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ}: (أي: من جميع مصالحكم في الدين والدنيا. فهذا كمال العبد، وعنوان سعادته، لا من يترك العمل، أو يتكل على نفسه، غير مفتقر لربه، أو يجمع بين الأمرين، فإن هذا مخذول خاسر). وفي قوله تعالى: (وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ): ففي ذلك بيان لسَعةُ فضلِ الله عزَّ وجلَّ وكرمِه؛ فهو سبحانه لم يأمُرْنا بالسُّؤالِ إلَّا ليُعطيَنا؛ لأنَّه لو أمَرنا بالسُّؤالِ مِن غير أن يُعطيَنا لكان هذا عبَثًا لا فائدةَ منه، ولكنَّه عزَّ وجلَّ كريمٌ، فهو الَّذي يتعرَّضُ لعبادِه ويقول: اسأَلوني، فقد روى الترمذي: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «سَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُحِبُّ أَنْ يُسْأَلَ وَأَفْضَلُ الْعِبَادَةِ انْتِظَارُ الْفَرَجِ». وفيه أيضا: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «مَنْ لَمْ يَسْأَلِ اللَّهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ»، وهذا يدل على أن الأمر بالسؤال لله تعالى واجب، فسؤال الله تعالى عبادة يتقرب بها العبد إلى ربه، ويظهر بها افتقاره وعجزه، ويثبت بها توحيده وإيمانه، وفي سنن الترمذي: (قَالَ «سَلُوا اللَّهَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فَإِنَّ أَحَدًا لَمْ يُعْطَ بَعْدَ الْيَقِينِ خَيْرًا مِنَ الْعَافِيَةِ»، وفي سنن ابن ماجه: «سَلُوا اللَّهَ عِلْمًا نَافِعًا». وفي سنن أبي داود :(قَالَ صلى الله عليه وسلم: (أَيْ بُنَيَّ سَلِ اللَّهَ الْجَنَّةَ وَتَعَوَّذْ بِهِ مِنَ النَّارِ)
فالله تعالى كريم جواد، يحب أن يسأله عباده، ووعدهم بالعطاء، والسؤال من الله تعالى يدل على أن العبد يعتمد على ربه، في جلب المصالح ودفع المضار، والسؤال من الله تعالى من أسباب دفع البلاء ورفع المصائب، وهو سبب لزيادة الإيمان، ويقوي صلة العبد بربه، ويسأل العبد ربه ما يشاء من خيري الدنيا والآخرة، فالله تعالى واسع الفضل، ولا يعجزه شيء، ومن ذلك: سؤال الرزق الحلال الطيب، الذي يكفيه ويغنيه عن سؤال الناس، وسؤال العلم النافع: فيسأل العبد ربه علما ينتفع به في دينه ودنياه، وسؤال العافية: فيسأل العبد ربه العافية في بدنه ودينه ودنياه، وسؤال الهداية والتوفيق: فيسأل العبد ربه الهداية والتوفيق في أقواله وأفعاله، وسؤاله الجنة والنجاة من النار، وسؤال الله تعالى من فضله ليس خاصا بالرزق أو الأمور الدنيوية فحسب، بل يشمل كل ما يحتاجه العبد من خيري الدنيا والآخرة. وقد وعد الله بالإجابة، قال تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) غافر:60،
فعلى العبد أن يحسن ظنه بالله، ففي الصحيحين: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ «قَالَ اللَّهُ أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي»، وفي الصحيحين: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ «يُسْتَجَابُ لأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ يَقُولُ دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي»، وعلى العبد أن يكون عالي الهمة في الدعاء والأمنيات، ويأمل من الله تعالى أكثر مما يتصور في ذهنه، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا تمنى أحدكم فليكثر فإنما يسأل ربه). رواه الطبراني ، وفي مسند أحمد: (أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «ما مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ وَلاَ قَطِيعَةُ رَحِمٍ إِلاَّ أَعْطَاهُ اللَّهُ بِهَا إِحْدَى ثَلاَثٍ إِمَّا أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ دَعْوَتُهُ وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الآخِرَةِ وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا». قَالُوا إِذاً نُكْثِرُ. قَالَ «اللَّهُ أَكْثَرُ». وفي الصحيحين: (عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فِيمَا رَوَى عَنِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ «يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلاَ تَظَالَمُوا يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلاَّ مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلاَّ مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إِلاَّ مَنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ.. يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلاَّ كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ)، وكان بعض السلف يسأل الله في صلاته كل حوائجه، حتى ملح عجينه، وعلف شاته، وفي الإسرائيليات: أن موسى عليه الصلاة والسلام قال: يا رب إنه ليعرض لي الحاجة من الدنيا فأستحي أن أسألك. قال: (سلني حتى ملح عجينك وعلف حمارك). وفي الإنجيل: (سلوا تعطوا، اطلبوا تجدوا، اقرعوا يفتح لكم، كل من سأل أعطي، ومن طلب وجد، ومن يقرع يفتح له)، ولا بد أن نعلم: أن الله تعالى لا يختار لعبده المؤمن إلا الخير؛ وهكذا ينبغي أن يكون مرادك من الدعاء بشيء من الدنيا: أن يقدر الله تعالى لك الخير حيث كان، وأن يرزقك الرضا بما قضى لك وقدر؛ سواء أكان الخير في قضاء حاجتك وتعجيلها، أو في حبسها عنك، وادخارها لك عنده سبحانه. قال ابن حجر: “كل داع يستجاب له، لكن تتنوع الإجابة، فتارة تقع بعين ما دعا به، وتارة بعِوَضِهِ”.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (اسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
فالدعاء سبب لرفع البلاء بعد نزوله: قال صلى الله عليه وسلم: «من فتح له منكم باب الدعاء فتحت له أبواب الرحمة، وما سئل الله شيئًا يعطى أحبَّ إليه من أن يسأل العافية، إن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، فعليكم عباد الله بالدعاء»، ولهذا يجدر بالعبد إذا وجد من نفسه النشاط إلى الدعاء والإقبال عليه أن يستكثر منه، فإنه مجاب، وتقضى حاجته بفضل الله، ورحمته، فإنَّ فَتْحَ أبواب الرحمة دليل على إجابة الدعاء.
والدعاء يفتح للعبد باب المناجاة ولذائذها: فقد يقوم العبد لمناجاة ربه، وإنزال حاجاته ببابه فَيُفْتَح على قلبه حال السؤال والدعاء من محبة الله، ومعرفته، والذل والخضوع له، والتملق بين يديه ما ينسيه حاجته، ويكون ما فتح له من ذلك أحبَّ إليه من حاجته، بحيث يحب أن تدوم له تلك الحال، وتكون آثر عنده من حاجته، ويكون فرحه بها أعظمَ من فرحه بحاجته لو عجلت له وفاته تلك الحال.
والدعاء من صفات عباد الله المتقين: قال جلَّ شأنه عن أنبيائه عليهم السلام: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90]، وقال عن عباده الصالحين: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10]،
والدعاء سبب للثبات والنصر على الأعداء: قال تعالى عن طالوت وجنوده لما برزوا لجالوت وجنوده: {قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة:250]، فماذا كانت النتيجة؟ {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ} [البقرة:251].
والدعاء مَفْزَعُ المظلومين، وملجأ المستضعفين: فالمظلوم أو المستضعف إذا انقطعت به الأسباب، وأغلقت في وجهه الأبواب، ولم يجد من يرفع عنه مظلمته، ويعينه على من تسلط عليه وظلمه، ثم رفع يديه إلى السماء، وبث إلى الجبار العظيم شكواه نصره الله وأعزه، وانتقم له ممن ظلمه ولو بعد حين. ولهذا دعا نوح عليه السلام على قومه عندما استضعفوه، وكذَّبوه، وردُّوا دعوته. وكذلك موسى عليه السلام دعا على فرعون عندما طغى، وتجبر، وتسلط، ورفض الهدى ودين الحق، فاستجاب الله لهما، وحاق بالظالمين الخزي في الدنيا، وسوء العذاب في العقبى. وكذلك الحال بالنسبة لكل من ظُلِم، واستُضْعِف، فإنه إن لجأ إلى ربه، وفزع إليه بالدعاء أجابه الله، وانتصر له وإن كان فاجرًا.
والدعاء دليل على الإيمان بالله، والاعتراف له بالربوبية، والألوهية، والأسماء والصفات: فدعاء الإنسان لربه متضمن إيمانه بوجوده، وأنه غني، سميع، بصير، كريم، رحيم، قادر، مستحق للعبادة وحده دون من سواه.
الدعاء