خطبة عن حديث (لاَ تُحْصِي فَيُحْصَى عَلَيْك)
يوليو 24, 2024خطبة عن (من فضائل الجهاد في سبيل الله)
يوليو 24, 2024الخطبة الأولى (اغضض بصرك)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) (30)، (31) النور
إخوة الإسلام
غض البصر: يعني كفه ومنعه من الاسترسال في التأمل والنظر، وهو في الشرع يشمل أمورا عدة، ومنها: غض البصر عن عورات الناس، ومن ذلك: زينة المرأة الأجنبية، وغض البصر عن بيوت الناس، وما أغلقت عليه أبوابهم، فبيت الرجل يستر بدنه كما تستره ثيابه، ومنها: غض البصر عما في أيدي الناس، من الأموال والنساء والأولاد والمتاع ونحوها، قال تعالى: (لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) الحجر/88، فلا تكرر النظر مستحسنا إلى أحوال الدنيا والمُمَتَّعين بها، من المآكل والمشارب اللذيذة، والملابس الفاخرة، والبيوت المزخرفة، والنساء المجملة، فإن ذلك كله زهرة الحياة الدنيا، تبتهج بها نفوس المغترين، وتأخذ إعجابا بأبصار المعرضين، ويتمتع بها – بقطع النظر عن الآخرة – القوم الظالمون.
وغض البصر عن الحرام من دلائل الإيمان، قال تعالى: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) [النور:30]، فمن تعود على إطلاق بصره لما لا يحل له، فليرجع إلى ربه، وليتب ويقلع من ذنبه، وليراع شكر نعمة البصر، فلا يستعملها في معاصي الله، فإن من تمام شكر الله، أن تستخدم هذه الجوارح في مرضاة الله، وكما أنك لا تحب أن يرى الناس أهلك، فلا ترضى هذا لنفسك، وفي مسند أحمد: (عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ نَظْرَةِ الْفَجْأَةِ فَأَمَرَنِي فَقَالَ «اصْرِفْ بَصَرَكَ»، وفي سنن أبي داود: (عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لِعَلِيٍّ « يَا عَلِيُّ لاَ تُتْبِعِ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ فَإِنَّ لَكَ الأُولَى وَلَيْسَتْ لَكَ الآخِرَةُ». وفي رواية أحمد: «يَا عَلِىُّ إِنَّ لَكَ كَنْزاً مِنَ الْجَنَّةِ وَإِنَّكَ ذُو قَرْنَيْهَا فَلاَ تُتْبِعِ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ فَإِنَّمَا لَكَ الأُولَى وَلَيْسَتْ لَكَ الآخِرَةُ»، وفي صحيح البخاري: (قَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ لِلْحَسَنِ إِنَّ نِسَاءَ الْعَجَمِ يَكْشِفْنَ صُدُورَهُنَّ وَرُءُوسَهُنَّ قَالَ اصْرِفْ بَصَرَكَ عَنْهُنَّ)، وفيه أيضا: (قَالَ الزُّهْرِيُّ فِي النَّظَرِ إِلَى الَّتِي لَمْ تَحِضْ مِنَ النِّسَاءِ لاَ يَصْلُحُ النَّظَرُ إِلَى شَيْءٍ مِنْهُنَّ مِمَّنْ يُشْتَهَى النَّظَرُ إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً)، وأخرج الطبراني عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني عن ربه عز وجل {النظرة سهم مسموم من سهام إبليس من تركها من مخافتي أبدلته إيمانا يجد حلاوته في قلبه}. وأخرج الإمام أحمد: (عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَنْظُرُ إِلَى مَحَاسِنِ امْرَأَةٍ أَوَّلَ مَرَّةٍ ثُمَّ يَغُضُّ بَصَرَهُ إِلاَّ أَحْدَثَ اللَّهُ لَهُ عِبَادَةً يَجِدُ حَلاَوَتَهَا»، وروى الأصبهاني عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {كل عين باكية يوم القيامة إلا عينا غضت عن محارم الله، وعينا سهرت في سبيل الله، وعينا خرج منها مثل رأس الذباب من خشية الله}. وأخرج الطبراني في المعجم الكبير: (عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثلاثة لا ترى أعينهم النار عين حرست في سبيل الله وعين بكت من خشية الله وعين غضبت عن محارم الله)، وأخرج الإمام أحمد وابن حبان في صحيحه: (عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «اضْمَنُوا لِي سِتًّا مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَضْمَنْ لَكُمُ الْجَنَّةَ اصْدُقُوا إِذَا حَدَّثْتُمْ وَأَوْفُوا إِذَا وَعَدْتُمْ وَأَدُّوا إِذَا ائْتُمِنْتُمْ وَاحْفَظُوا فُرُوجَكُمْ وَغُضُّوا أَبْصَارَكُمْ وَكُفُّوا أَيْدِيَكُمْ)
والنبي صلى الله عليه وسلم جعل غض البصر أحد حقوق الطريق، ففي الصحيحين: (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ – رضي الله عنه – عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ «إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ عَلَى الطُّرُقَاتِ». فَقَالُوا مَا لَنَا بُدٌّ، إِنَّمَا هِيَ مَجَالِسُنَا نَتَحَدَّثُ فِيهَا. قَالَ «فَإِذَا أَبَيْتُمْ إِلاَّ الْمَجَالِسَ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهَا» قَالُوا وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ قَالَ «غَضُّ الْبَصَرِ، وَكَفُّ الأَذَى، وَرَدُّ السَّلاَمِ، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهْىٌ عَنِ الْمُنْكَرِ»، ولما وجد النبي صلى الله عليه وسلم الفضل بن عباس رضي الله عنهما ينظر إلى امرأة جاءت تستفتيه صلى الله عليه وسلم، أخذ بذقن الفضل فعدل وجهه عن النظر إليها، ففي صحيح البخاري: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ – رضي الله عنهما – قَالَ كَانَ الْفَضْلُ رَدِيفَ رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمَ، فَجَعَلَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَتَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَجَعَلَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – يَصْرِفُ وَجْهَ الْفَضْلِ إِلَى الشِّقِّ الآخَرِ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا، لاَ يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ قَالَ «نَعَمْ». وَذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ).
أيها المسلمون
والنساء مأمورات كالرجال بغض الأبصار: فإن الله عز وجل يقول: (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ). وفي صحيح مسلم: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا وَشَرُّهَا آخِرُهَا وَخَيْرُ صُفُوفِ النِّسَاءِ آخِرُهَا وَشَرُّهَا أَوَّلُهَا ». وقد عني السلف الصالح بغض البصر عناية عظيمة، وكانت لهم مواقف ومواعظ في هذا الباب، تنبئ عن علو همتهم في ذلك، فقال أنس رضي الله عنه: (إذا مرت بك امرأة فغمض عينيك حتى تجاوزك). وقال بعضهم: (من حفظ بصره أورثه الله نورا في بصيرته).
ولغض البصر فوائد متعددة، ومنافع كثيرة، وثمرات طيبة، ومنها: أن في غض البصر امتثال لأمر الله، وليس للعبد في دنياه وآخرته أنفع من امتثال أوامر ربه تبارك وتعالى، وما سعد من سعد في الدنيا والآخرة إلا بامتثال أوامره، وما شقي من شقي في الدنيا والآخرة إلا بتضييع أوامره. ومن فوائد غض البصر: أنه يمنع من وصول أثر السهم المسموم إلى قلبه، وهو أيضا يورث القلب أنسا بالله، فإن إطلاق البصر يفرق القلب، ويشتته ويبعده من الله، فإطلاق البصر يوقع الوحشة بين العبد وبين ربه. ومن فوائد غض البصر: أنه يقوي القلب ويفرحه، كما أن إطلاق البصر يضعفه ويحزنه، ويكسب القلب نورا، كما أن إطلاقه يكسبه ظلمة، وإذا استنار القلب أقبلت وفود الخيرات إليه من كل جانب، كما أنه إذا أظلم أقبلت سحائب البلاء والشر عليه من كل مكان، فإذا فقد ذلك النور بقي صاحبه كالأعمى الذي يجوس في الظلام. ومن فوائد غض البصر: أنه يورث الفراسة الصادقة، التي يميز بها بين المحق والمبطل، والصادق والكاذب، والله سبحانه يجزي العبد على عمله بما هو من جنس عمله، ومن ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه، فإذا غض المرء بصره عن محارم الله عوضه الله بأن يطلق نور بصيرته، ويفتح له باب العلم والإيمان والمعرفة والفراسة الصادقة، التي تنال ببصيرة القلب، وضد هذا ما وصف الله به اللوطية من العمه الذي هو ضد البصيرة فقال تعالى: (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) الحجر/72.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (اغضض بصرك)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
ومن فوائد غض البصر: أنه يورث القلب ثباتا وشجاعة وقوة، ويجمع الله له بين سلطان البصيرة والحجة وسلطان القدرة والقوة، وقد جعل الله سبحانه العز قرين طاعته، والذل قرين معصيته، فقال تعالى: (ولِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) المنافقون/8، وقال تعالى: (وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) آل عمران/139، وقال تعالى: (مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) فاطر/10،
ومن أطاع الله فقد والاه فيما أطاعه فيه، وله من العز بحسب طاعته، ومن عصاه فقد عاداه فيما عصاه فيه، وله من الذل بحسب معصيته. ومن فوائد غض البصر: أنه يسد على الشيطان مدخله من القلب، فإن الشيطان يدخل مع النظرة الحرام، وينفذ معها إلى القلب، أسرع من نفوذ الهوى في المكان الخالي، فيمثل له صورة المنظور إليه، ويزينها ويجعلها صنما يعكف عليه القلب، ثم يَعِدُهُ ويُمَنِّيه، ويوقد على القلب نار الشهوة، لهذا كانت عقوبة أصحاب الشهوات بالصور المحرمة، أن جُعل لهم في البرزخ تنورٌ من نار. ومن فوائد غض البصر: أنه يفرغ القلب للفكرة في مصالحه والاشتغال بها، وإطلاق البصر يشتت عليه ذلك، ويحول عليه بينه وبينها، فتنفرط عليه أموره، ويقع في اتباع هواه، وفي الغفلة عن ذكر ربه، قال تعالى: (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) الكهف/28، ومن فوائد غض البصر: أن بين العين والقلب منفذا أو طريقا يوجب اشتغال أحدهما عن الآخر، فيصلح بصلاحه ويفسد بفساده، فإذا فسد القلب فسد النظر، وإذا فسد النظر فسد القلب، وكذلك في جانب الصلاح.
الدعاء