خطبة عن (الإسلام دين العمل)
أبريل 16, 2024خطبة عن (الحلال والحرام)
أبريل 16, 2024الخطبة الأولى (الأمانة وصورها)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) (72) الأحزاب، وقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) النساء:58، وفي سنن الترمذي: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- «أَدِّ الأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ وَلاَ تَخُنْ مَنْ خَانَكَ».
إخوة الإسلام
الأمانة خلق كريم، وهي من أجلِّ الأخلاق الإسلاميَّة، وأصلٌ عظيم من أصول الدين، وصفةٌ ملازمةٌ له، والأمانة من مكوّنات الشخصية الإسلامية، ومن أبرز مميزات المؤمنين، فقد أثنَى الله تعالى على رعاية المؤمنين للأمانة، وفي هذا إعلاءٌ لشَأنها، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾ [المؤمنون:8]، فجعَلَها الله صفةً بارزةً للمؤمنين، فبالأمانة تُصانُ الأعْراض والأموال والدِّماء، وجميع حُقوق العِباد، وبها يستَقيمُ حال الناس مع رَبِّ العالمين؛ لذا كانت الأمانة من أخص صفات الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانت من أول ما دعا إليه الإسلام، ففي صحيح البخاري: (أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ – رضي الله عنهما قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو سُفْيَانَ أَنَّ هِرَقْلَ قَالَ لَهُ سَأَلْتُكَ مَاذَا يَأْمُرُكُمْ فَزَعَمْتَ أَنَّهُ أَمَرَكُمْ بِالصَّلاَةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ. قَالَ وَهَذِهِ صِفَةُ نَبِيٍّ)، وأخرج الأمام أحمدُ: (عن أمِّ سلمة رضِي الله عنها في حديث هجرة الحبَشة، (دَعَا النَّجَاشِيُّ أَسَاقِفَتَهُ فَنَشَرُوا مَصَاحِفَهُمْ حَوْلَهُ سَأَلَهُمْ فَقَالَ مَا هَذَا الدِّينُ الَّذِى فَارَقْتُمْ فِيهِ قَوْمَكُمْ وَلَمْ تَدْخُلُوا فِي دِينِي وَلاَ فِي دِينِ أَحَدٍ مِنْ هَذِهِ الأُمَمِ قَالَتْ فَكَانَ الَّذِي كَلَّمَهُ جَعْفَرُ بْنُ أَبِى طَالِبٍ فَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ كُنَّا قَوْماً أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ نَعْبُدُ الأَصْنَامَ وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ وَنَقْطَعُ الأَرْحَامَ وَنُسِيءُ الْجِوَارَ يَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْنَا رَسُولاً مِنَّا نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ فَدَعَانَا إِلَى اللَّهِ لِنُوَحِّدَهُ وَنَعْبُدَهُ وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنَ الْحِجَارَةِ وَالأَوْثَانِ وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَحُسْنِ الْجِوَارِ وَالْكَفِّ عَنِ الْمَحاَرِمِ وَالدِّمَاءِ)، وفي قصة بناء الكعبة أن قريشًا لما وصلوا إلى موضع الحجر الأسود، وتنازعت القبائل أيّها يضعه موضعه، حتّى كادوا يقتتلون، ثمّ اتّفقوا على أن يحكّموا أوّل داخل عليهم، فكان هو صلى الله عليه وسلم أوّل داخل عليهم، فقالوا: هذا محمّد، هذا الصّادق الأمين، رضينا به، فحكّموه)
أيها المسلمون
والأصل في الإنسان أنَّه أمين، فالله عزَّ وجلَّ أنزَل الأمانةَ، فوضَعَها في أصْل قُلوب الناس، ثم نزَلتِ الشَّرائع التي أنزَلَها الله في كتبه، وجاءت بها رسلُه؛ لتُنمِّي هذا الأصلَ وتُزكِّيه. ولكنَّ كثيرًا من الناس انحرَفَ عن هذا الأصل؛ إمَّا لظُلمه أو جهلِه، فخانَ وضيَّع الأمانة التي حُمِّلَها، وهذا خِلافُ الأصل، ففي الصحيحين: (قَالَ حُذَيْفَةُ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – حَدِيثَيْنِ رَأَيْتُ أَحَدَهُمَا وَأَنَا أَنْتَظِرُ الآخَرَ حَدَّثَنَا «أَنَّ الأَمَانَةَ نَزَلَتْ فِي جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ، ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ». وَحَدَّثَنَا عَنْ رَفْعِهَا قَالَ «يَنَامُ الرَّجُلُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ الأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ، فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ أَثَرِ الْوَكْتِ، ثُمَّ يَنَامُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ فَيَبْقَى فِيهَا أَثَرُهَا مِثْلَ أَثَرِ الْمَجْلِ، كَجَمْرٍ دَحْرَجْتَهُ عَلَى رِجْلِكَ فَنَفِطَ، فَتَرَاهُ مُنْتَبِرًا وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ، وَيُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ فَلاَ يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّى الأَمَانَةَ فَيُقَالُ إِنَّ فِي بَنِى فُلاَنٍ رَجُلاً أَمِينًا. وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ مَا أَعْقَلَهُ، وَمَا أَظْرَفَهُ، وَمَا أَجْلَدَهُ، وَمَا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ)،
ومن الملاحظ أن هناك علاقةٌ وثيقة بين الإيمان والأمانة، ففي سنن الترمذي: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ وَالْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ»، وفي مسند أحمد: (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ مَا خَطَبَنَا نَبِيُّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلاَّ قَالَ «لاَ إِيمَانَ لِمَنْ لاَ أَمَانَةَ لَهُ وَلاَ دِينَ لِمَنْ لاَ عَهْدَ لَهُ». فإذا ضُيِّعتِ الأمانة فلا أمان.
أيها المسلمون
وللأمانة مجالات كثيرةٌ، وصور متعددة في حياتنا: فعقل الانسان أمانة: فتسخيرُ العقل في طاعة الله أمانةٌ كُبرى يُثابُ عليها؛ لذا جعَلَه الإسلام إحدى الضروريَّات الخمس – ومنَع أيَّ فِعْلٍ يُعطِّل مُهِمَّة العقل، ومن حِفظ أمانة العقل: أنْ يُزكِّيه الإنسانُ، ويُوظِّفه ويُعلِي همَّتَه في ذلك، بأنْ يُوجِّهه إلى آيات الله الكونيَّة، وارتياد أوسع الآفاق لخِدمة الناس في الحياة الدُّنيا وبناء الحَضارة الإسلاميَّة، وعلى هذا نقول: أنَّ مَن عطَّل العقلَ وغيَّبَه عن مُهمَّته فقد ضيَّع الأمانة التي سيُسأل عنها يومَ القيامة.
ومن صور ومجالات الأمانة: المال: فالمال أمانة: فالله سبحانه وتعالى استَخلَف الإنسانَ في المال، ووَضَعَه في يده، وتحتَ تصرُّفه، قال الله تعالى: ﴿وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ﴾ [الحديد:7]، وما دام الإنسان قد استَخلَفه الله تعالى على هذا المال، فلا بُدَّ أنْ يَضَعَه أو يتصرَّف فيه حيث أمَرَه مالِكُه، وإلا فسوف يكون مسؤولاً عن ضَياعه، أو تقصيره في المحافظة عليه وفي سنن الترمذي: (عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «لاَ تَزُولُ قَدَمَا ابْنِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسٍ عَنْ عُمْرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَا أَبْلاَهُ وَمَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ وَمَاذَا عَمِلَ فِيمَا عَلِمَ».
ومن صور الأمانة ومجالاتها: العلم: فالعلم أمانة: وهذه الأمانة حمَلَها العلماء، فهم يدعون النَّاس؛ ويُبصِّرونهم بدِينهم، ومن أمانة العلم أن يصدَع العلماء بكلمة الحقِّ، وألا يخافوا في الله لومةَ لائمٍ؛ عملاً بقوله تعالى: ﴿لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ﴾ [آل عمران:187]. ومخافة من قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [البقرة:159،160]. وفي سنن أبي داود: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ أَلْجَمَهُ اللَّهُ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». ومن صور خيانة أمانة العلم: الإفتاء بغير علم، ففي الصحيحين: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – يَقُولُ «إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا، يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا، اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالاً فَسُئِلُوا، فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا»، وكذا من أعظم الخيانة لأمانة العلم: أن يُتعلَّم العلم الشرعي لغير وجه الله تعالى؛ فمَن فعَل ذلك فحرامٌ عليه الجنَّةُ.
ومن صور ومجالات الأمانة: العبادات المفروضة: فالصَّلاة، والزكاة، والصوم، والحج والوضوء، والغسل، وصِدق الحديث، وأداء الأمانة، وبر الوالدين، كلها من الأمانات، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾ [المؤمنون:8]. وقال ابن مسعود رضِي الله عنه: “والأمانة في الصَّلاة، والأمانة في الصوم، والأمانة في الحديث، وأشدُّ ذلك الودائع”.
ومن الأمانة: حفظ الأسرار: ففي سنن أبي داود: (عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «إِذَا حَدَّثَ الرَّجُلُ بِالْحَدِيثِ ثُمَّ الْتَفَتَ فَهِيَ أَمَانَةٌ». فالمجالس تُعقَد بالأمانة على ما يَجرِي فيها من أمورٍ، ويجب أنْ تحفظ أسرارها، ولا يحلُّ للمرء أنْ يفشي من أسرار إخوانه ما لا يحبُّون أنْ يخرج عنهم.
ومن الأمانة: الوفاء بالعقود والعهود: قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ [المائدة:1]. والعقود متنوِّعة؛ فهناك عقد البيع، وعقد الإيجار، وعقد الشراكة، وغيرها، وكلُّ عَقْدٍ يُبْرِمُه المرء مع غيره فهو أمانةٌ يجبُ الوفاءُ بها. والوفاء بالعهود والوعود من شِيَمِ الأتقياء الأنقياء. قال تعالى: ﴿بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ [آل عمران:76].
ومن الأمانة: ردُّ الودائع: قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾ [النساء: 58]. وقد أثنى الله تعالى على رِعاية المؤمنين للأمانة؛ فقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾ [المؤمنون:8].
ومن الأمانة: توفية الكيل والميزان، والأمانة في البيع والشراء: قال تعالى: ﴿وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ﴾ [الأنعام:152]. قال تعالى: ﴿وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ﴾ [الإسراء:35]. ويمكن القول: إنَّ الأمانة في الكيل والميزان من جملة الأمانات التي أمَر الله تعالى بأدائها ومُراعاتها؛ وهي من الأخلاق العظيمة التي تبعَثُ على حِفظ حُقوق الآخَرين، وتُؤكِّد ما بينهم من مُودَّةٍ ومحبَّةٍ، وتُزيل طمَع النُّفوس إلى ما في أيدي الناس دُون جهدٍ، وحبَّذا للمرء أنْ يُرجِّح إذا أعطى، ويُنقص إذا أخَذ؛ فمن الخيانة الغش والخداع في البيع والشراء، قال تعالى: ﴿وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ﴾ [المطففين:1 -3]،
ومن الأمانة: قضاءُ الدَّيْن: فممَّا لا شَكَّ فيه أنَّ مسألة الدَّيْنِ من المسائل الخطيرة، ويدلُّ على خطَرِها ما أخرَجَه الإمام أحمد والترمذي: (عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «نَفْسُ الْمُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ». ولذلك أمَرَنا ربُّ العالمين في كتابه الكريم بأداء الدَّيْنِ وأكَّد على ذلك؛ فقال تعالى: ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ﴾ [البقرة: 283]. وعلى هذا فينبغي للمَدِين أنْ يُبادِرَ إلى إبْراء ذمَّته، والوَفاء بالدَّيْن في مَوعِدِه ما دام قادرًا على السَّداد، فالمماطلةُ من الخِيانة والظُّلم. فقد أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هُرَيرة رضِي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (مَطلُ الغَنِيِّ ظلمٌ).
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (الأمانة وصورها )
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
ومن صور الأمانة: ألا يُبخس الأجير حقَّه: ففي سنن ابن ماجه: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «أَعْطُوا الأَجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ». فينبغي مُراعاةُ الأمانة في استِئجار الأُجَراء، والمبادرةُ في إعطائهم حُقوقَهم وأجورَهم؛ وإلا فمن بخس حقهم كان من الخائنين.
ومن الأمانة: رعاية كلٍّ من الزوجين لحقِّ الآخَر: فالزوجان مُؤتَمنان على رِعاية مِيثاق الزواج، الذي وصَفَه الله بالميثاق الغليظ؛ قال تعالى: ﴿وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ [النساء: 21]، فعقد الزواج أمانةٌ عظيمة، لا يجوز خِيانته والتفريط فيه. وفي الصحيحين: (أن رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – يَقُولُ «كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهْوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا ،وَالْخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ)
ومن الأمانة: حِفظ الأولاد، وحُسن تربيتهم: فهذه النِّعمة التي أعطاك الله إيَّاها ستُسأَل عنها يوم القيامة، ففي الصحيحين: (أن رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – يَقُولُ «كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ)
ومن الأمانة: قيام الحكام والأمراء والسلاطين والرُؤساء على مَصالح العباد والبلاد، والمحافظة على ثَروات شُعوبهم وبلادهم، ففي الصحيحين: (الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ)، والرعاية: بمعنى الحِفظ والأمانة، فكلُّ هؤلاء المذكورين رُعاة، ومُؤتَمنون بأماناتٍ يجبُ الوفاء بها. قال النووي: “الراعي هو الحافظ المُؤتمَن الملتزِم صلاحَ ما قام عليه، وما هو تحت نظَرِه، ففيه أنَّ كلَّ مَن كان تحت نظَرِه شيءٌ فهو مُطالَبٌ بالعدل فيه والقِيام بِمَصالحه في دِينه ودُنياه ومُتعلَّقاته”، وفي مسند أحمد: (عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ «مَا مِنْ رَجُلٍ يَلِي أَمْرَ عَشَرَةٍ فَمَا فَوْقَ ذَلِكَ إِلاَّ أَتَى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مَغْلُولاً يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَدُهُ إِلَى عُنُقِهِ فَكَّهُ بِرُّهُ أَوْ أَوْبَقَهُ إِثْمُهُ أَوَّلُهَا مَلاَمَةٌ وَأَوْسَطُهَا نَدَامَةٌ وَآخِرُهَا خِزْيٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». فمَن وَلِي أمرَ المسلمين فهو أمينٌ عليهم، ومسؤولٌ عنهم، ومَن فرَّط وضيَّع في هذه الأمانة، فإنَّه يأتي يوم القيامة مُكبَّلاً؛
أيها المسلمون
إنَّ الأمانة شأنها عظيم، وتضييعها وخيانتها خطرٌ كبير؛ فعلينا أنْ نُؤدِّي الأمانةَ بفِعل المأمور، واجتِناب المحظور، والإكثار من الطاعات؛ لنَنال محبَّةَ الله تعالى. وعلى المسلم أنْ يسعى لأداء الأمانة تُجاه هذا الدِّين، بأنْ نحمِلَه على أعناقنا لكلِّ البلاد والعباد؛ ليُصبِح الناس في كلِّ الأقطار عِبادًا للرحمن، فنَعَمْ لحِفظ الأمانة، ولا لتضييعها، فضَياع الأمانة دليلٌ على ضَياع الإيمان أو نُقصانه، وضَياع الأمانة من عَلامات النفاق، وضَياع الأمانة دليلٌ على فساد الزمان، وعلامةٌ من علامات الساعة،
أما عن فضل أداء الأمانة: فالأمانة سببٌ لمحبَّة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم: فقد أخرج البيهقي في “شعب الإيمان” عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: (مَن سَرَّهُ أن يُحِبَّهُ الله ورسوله فليَصْدُق حَدِيثَهُ إذا حدَّث، وليُؤَدِّ أمانَتَه إذا اؤتُمِن)، والمسلم الأمين كالغازي في سبيل الله ، كما بيَّن الرسولُ صلى الله عليه وسلم: أنَّ الخازن الأمين هو أحد المتصدِّقين: فأخرج البخاري ومسلمٌ 🙁 قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الخازنُ الأمين الذي يُؤَدِّي ما أُمِرَ به طيِّبَةً نفسُهُ أحَدُ المتصدِّقين). والأمانة سبب للبركة والنماء: ففي الصحيحين: (البيِّعان بالخِيار ما لم يتفرَّقا، فإنْ صَدَقَا وبيَّنا بُورِكَ لهما في بيعهما، وإنْ كتَما وكذَبا مُحِقتْ بركةُ بيعهما). والأمانة سببٌ للنجاة والمرور على الصراط، وسببٌ لدُخول الجنَّة: أخرج الإمام أحمد وابن حبان والحاكم عن عبادة بن الصامت رضِي الله عنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: (اضمَنُوا لي سِتًّا من أنفسِكُم أضمنْ لكم الجنَّة؛ اصدقُوا إذا حدَّثُتم، وأوفوا إذا وعدتم، وأدُّوا إذا اؤتمنتُم، واحفَظُوا فُروجكم، وغضُّوا أبصاركم، وكفُّوا أيديكُمْ)
الدعاء