خطبة عن (الإقدام وعدم التردد)
فبراير 1, 2023خطبة عن ( انظروا من الذي هز الوعاء؟ )
فبراير 3, 2023الخطبة الأولى ( الأنس بالله )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته: (إِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ) البقرة 186، وقال تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ) (54) :(56) المائدة، وفي الصحيحين في حديث جبريل المشهور: (قَالَ فَأَخْبِرْنِي عَنِ الإِيمَانِ. قَالَ «أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ». قَالَ صَدَقْتَ. قَالَ فَأَخْبِرْنِي عَنِ الإِحْسَانِ. قَالَ «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ»
إخوة الإسلام
ليس في الوجود لذة أعظم من لذة الأنس بالله تعالى، ولا لوعة أحر من لوعة الشوق إليه، وكل لذة حُدِّثتَ بها، أو تلذذت بها، فلتعلم أنها لا تعدل لذة الأنس بالله تعالى؛ فلذة الأنس به فوق ما جربتَ، وأكبر مما تظن، فالأنس بالله نعمةٌ مَن رُزِقَها فقد رُزِقَ أعظم الفضل في الدنيا، والكثير من الناس تكون علاقته بربه علاقة (روتينية)، فهو يتعبد لله تعالى، لأنه اعتاد ذلك منذ الصغر، ولذلك فهو لا يستشعر الحب والأنس بالله تعالى ، ولكننا نريد أن تكون العلاقة بيننا وبين الله تعالى علاقة حب وأنس، قال تعالى: (فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ) (54) المائدة ،فلاحظ أن الله ابتدأ بقوله تعالى :(يُحِبُّهُمْ )، فالعلاقة بينك وبين الله علاقة حب، وأساسها الحب ،وقد قيل: (ليس العجب من عبد يتودد إلى سيده، لكن العجب كل العجب من ملك يتودد إلى عبيده )، فالأنس بالله: مقام عظيم من مقامات الإحسان الذي قال عنه النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: ( أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ ) رواه البخاري ومسلم. والأنس بالله تعالى: حالة وجدانية، تحمل على التنعم بعبادة الرحمن، والشوق إلى لقاء ذي الجلال والإكرام. والانس بالله تعالى: أن لا يفتر العبد عن ذكر ربه، ولا يسأم من خدمته، ولا يأنس بغيره، إلا بمن يدله عليه، ويذكِّرُهُ به، ويذاكره بهذا الأمر”، قال أحد السلف: (مساكين أهل الدنيا ، خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أطيب ما فيها ، قيل : وما أطيب ما فيها ؟ قال: محبة الله، والأنس به، والشوق إلى لقائه، والتنعم بذكره وطاعته”،
وقوة الأنس بالله تعالى وضعفه تكون على حسب قوة القرب ، فكلما كان القلب من ربه أقرب، كان أنسه به أقوى، وكلما كان منه أبعد كانت الوحشة بينه وبين ربه أشد، وهذه المنزلة هي لمن أعظم المنازل وأجلها، ولكنها تحتاج إلى تدريج للنفوس شيئا فشيئا، ولا يزال العبد يعودها نفسه حتى تنجذب إليها وتعتادها، فيعيش العبد قرير العين بربه، فرحا مسرورا بقربه، والأنس بالله تعالى ثمرة الطاعات والتقرب إلى رب الأرض والسماوات، كما قال ابن القيم رحمه الله : ” فكل طائع مستأنس، وكل عاص مستوحش” “مدارج السالكين” ، وقال ابن الجوزي رحمه الله تعالى “إنما يقع الأنس بتحقيق الطاعة؛ لأن المخالفة توجب الوحشة، والموافقة مبسطة المستأنسين ،فيا لذة عيش المستأنسين، ويا خسارة المستوحشين ” “صيد الخاطر” ، لأجل ذلك كان السلف الصالح، والأئمة الأعلام، يتشوقون إلى فعل الطاعات، ويحرصون على تقديم القربات لرب الأرض والسماوات، ولا يسأمون من العبادات لأنسهم برب البريات، فمن يكن قلبه مشغولاً بحب الله، عامراً بالإيمان به سبحانه، يجد في نفسه الأمان والسلام والاطمئنان، ويشعر بالأنس بالله في كل لحظة في حياته، مستأنساً بذكره له سبحانه وتعالى، وبعبادته له، والأنس بالله شعور يمتزج بالهيبة والخشوع، يغمر كيان الإنسان كله مما يجعله يجد سعادته في خلوته، وهناءه في وحدته، فهو يناجي ربه، يشكو إليه همه، ويشكره على نعمته، يتغنى بالدعاء له والثناء عليه والتسبيح والتقديس له عز وجل، ويشعر بأن كل ما في الكون من مخلوقات نغمات مميزة تشترك معه في التسبيح لله، وعندها يحس بأن هناك ألفة ومودة بينه وبين الله ، وبينه وبين مخلوقاته، فالأنس بالله تعالى هو أحد آثار المحبة، وهو حال يصل إليه السالك معتمداً على الله، ساكناً إليه، مستعيناً به، وفى الأنس تبقى الهيبة مع الله، وبذلك يكون الأنس طمأنينة ورضا بالله. ولا يشعر الإنسان المؤمن المحب لله بالأنس في أوقات العبادة فقط.. فإن فضل الله عليه عظيم حيث يفيض الله عليه بالأنس في أوقات الانشغال والاهتمام بأمور الحياة اليومية، لأن الله يغمره ويملأ قلبه وكيانه كله، فأصبح الأنس بالله يحيط به، سواء في وقت الانشغال أو في وقت العبادة، في الخلوة والجلوة ، في الوحدة وفي الاختلاط ، وبعض الناس يعتقدون أن الوحدة تعنـي أن يعيش الإنسان وحيداً بعيدا عن الناس، في حين أن الإنسان المستأنس بالله في كل لحظة أيقن وعرف أن هذا ليس هو مفهوم الوحدة أو الغربة ، فإن الشعور بالوحدة هو فراغ القلب من حب الله، والشعور بالغربة هو فراغ القلب من الأنس بالله، فإذا كان نعيم الجنة كله لا يساوي شيئا بالنسبة إلى لذة النظر إلى وجه الله الكريم، فكذلك نعيم الدنيا ، لا يساوي شيئا مقارنة بنعيم الأنس بالله، فالمسلم في خلوته يستشعر حلاوة الأنس بالله، فمن الممكن أن يكون الإنسان حوله حشد من الناس، ومع ذلك يشعر بالوحدة والفراغ القلبـي، ومن الممكن أن يعيش وحيداً، ولكنه يحس بالأنس، وكأن المخلوقات والكائنات جميعها اجتمعت لتؤنس وحدته، مع أنه في الحقيقة يعيش وحيداً بمفرده. ورحم الله ابن تيمية حينما قال وهو في سجنه: (إن سجني خلوة وقتلي شهادة ونفيي سياحة)، فليس معنى الوحدة هو انعزال الوجود الإنساني، وإنما هو فراغ القلب من حب الله ومن الأنس بالله. فالأنس الحقيقي هو الأنس بالله والحب الحقيقي هو حب الله ، ومن يستأنس بالله فإن الله يؤنسه، ومن يحب الله فإن الله يحبه، ويمن عليه من فيوضاته وعطائه ما يشغله به، ويؤنس وحدته، حتى ولو عاش وحيداً في هذا الوجود. أما من كان قلبه فارغاً من حب الله والأنس بالله ، فإنه سيشعر بالوحدة والغربة والعزلة حتى ولو كان حوله الناس جميعاً، وهنا سيغلق القلب أبوابه، وستفتح النفس أبوابها التـي تقود الإنسان إلى سبيل الشهوات والنزوات والهوى، فيضل السبيل ويسلك طريق الضياع، والحيرة ، والتخبط، والهلاك، الذي يودي به حتماً إلى الشقاء. فالقلب دائماً يفتح أبواب طريق النور. أما النفس فتفتح أبواب طريق الهوى. وفي الدعاء المأثور: (أستغفرك من كل لذة بغير ذكرك، ومن كل راحة بغير أنسك، ومن كل سرور بغير قربك، ومن كل شغل بغير طاعتك). ومن مجالات الأنس بالله : الخشوع في الصلاة، والتفكر والتأمل، وذكر الله في الخلوة، وقيام الليل، والدعاء وبث الهم والشكوى لله.
أيها المسلمون
يقول ابن القيم: [غرس الخلوة يثمر الأنس]. أي: أنك حين تخلو بالله وحدك تشعر بالأنس، فالثمرة التي تجنيها من الخلوة مع الله الأنس والطمأنينة، وإن وصفك الناس أنك منعزل، أو قالوا: هذا انعزالي، ثم يؤكد هذا المعنى فيقول: [استوحش مما لا يدوم معك واستأنس بمن لا يفارقك] يريد بقوله: مما لا يدوم معك الدنيا وما فيها، فالدنيا وما فيها ستفارقك قطعاً، فحقها أن تلاقيها بالوحشة لا بالأنس، وقوله: واستأنس بمن لا يفارقك، يريد أن تستأنس بالله وبالعمل الصالح. ثم يبين العزلة المستحبة فيقول: [عزلة الجاهل فساد، وأما عزلة العالم فمعها حذاؤها وسقاؤها] ، وذلك لأن الجاهل حين يعتزل من غير أن يتعلم يجهل كيفيات العبادة، وأوقاتها، وماهيات القربات، لكن العالم حين يعتزل الناس قد أخذ عدة عزلته، ثم يستطرد مع العزلة فيقول: [إذا اجتمع العقل واليقين في بيت العزلة، استحضر الفقه وجرت بينهم مناجاة: أتاك حديث لا يمل سماعه]. أي: إذا اجتمع عقل المؤمن مع يقينه في الله عز وجل في بيت العزلة، حيث يبتعد فيه عن السوء والصحبة الفاسدة، إذ إن الأرواح تحن لأشكالها، فحينها يجد لذة الأنس بالله تعالى ،
وقلب المستأنس بالله يسيح في حياة أخرى، فهو لله وبالله ومع الله وإلى الله؛ فبِرِبّك من كان الله معه فممَّ يخاف؟ ولمَ يستوحش؟، قال إبراهيم بن أدهم: “أعلى الدَّرجات أنْ تنقطعَ إلى ربِّك, وتستأنِسَ إليه بقلبِك, وعقلك, وجميع جوارحك حتى لا ترجُو إلاَّ ربَّك, ولا تخاف إلاَّ ذنبكَ، وترسخ محبته في قلبك حتى لا تُؤْثِرَ عليها شيئاً, ويكونُ ذكر الله عندكَ أحلى مِنَ العسل, وأحلى من المَاء العذبِ الصَّافي عند العطشان في اليوم الصَّائف”. وقال الفضيل: “طُوبى لمن استوحش مِنَ النَّاسِ, وكان الله جليسَه”. وأهل الأنس بالله قومٌ جعلوا من أوامر الله بالمسارعة والمسابقة إلى الخير منهجاً يومياً حتى “لو قيل لأحد هؤلاء: إن الساعة ستقوم غداً ما زاد في عمله شيئاً”, وليس ذلك عن زهد في الطاعة، ولا عن تثاقل في العبادة؛ ولكن لأنه لم يعُدْ في وقت أحدهم متسعٌ لمزيد طاعة، فقد استغرقت الطاعة أوقاتهم كلها, فهم يتنقلون ما بين صلاة وذكر وتلاوة وصدقة وقضاء لحوائج الضعفاء وتفريج للكروب ومشروعات عظمى في الإحسان إلى الخلق صلةً وبراً. والأنس بالله له بركاته في الدنيا قبل الآخرة، فهو يُورِث الرضا بقضاء الله، واطمئنان القلب لأقداره، والمناعة من الفزع والجزع عند المصائب؛ فأهل الأنس بالله هم أرضى الناس بقضاء الله وقدَره، يتلقون مصائب الدهر وكروبه بتسليم وصبر والتجاء إلى الله، فإذا أصابتهم مصيبة قالوا: “إنا لله وإنا إليه راجعون”. وإذا اشتدت بهم الكروب تذكروا قوله تعالى: (وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) [يوسف: 87], فقلوبهم موصولة بالله، يشعرون بنفحاته، فهم لا ييأسون من روْح الله، ولو أحاط بهم الكرب، واشتد بهم الضيق, وهم في طمأنينة من ثقتهم بمولاهم، ولو في مخانق الكروب ومضايقها.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( الأنس بالله )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
في الأنس بالله تعالى ستشعر بالرضا ولو حزت القليل، ولن تُغريك زينة الحياة الدنيا ولو أتتك راغبة. فالتعلّق بالله هو الرجاء الذي لا ينقطع، والأمل الذي لا يخيب، والطمأنينة التي تؤنس القلب، قال تعالى: “وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ”(النور:40) ، ويقول ابن القيم: “في القلب شعث لا يلمه إلا الإقبال على الله، وفي القلب وحشةٌ لا يزيلها إلا الأنس بالله، وفي القلب خوف وقلق لا يَذهب إلا بالفرار إلى الله، وفي القلب حسرةٌ لا يطفئها إلا الرضا بالله”. فأفرغ قلبك من الخلق، واجعل الله نور لك في حياتك، اجعل بينك وبين الله، علاقة، سريرة، لا يطّلع عليها أحد. كلما أصابك غمّ أو همّ، أو تمنيت شيئاً التجئ إليه، عندما تبتئس أو تضيق بك الحياة اعتزل العالم، فمُحيطك، بيتك، وقريتك.
فاحرص -أخي المسلم- على بلوغ منزلة الإحسان والأنس بالله تعالى، وذلك وفق العلم الأثري والهدي النبوي حتى ترزق الأنس عند الطاعات، ولا تستوحش إذا خلوت بذكر رب الأرض والسماوات ، فليس العجب ممن لم يأنس بالله ولم يرزق التوفيق ، وإنما العجب ممن أدرك ذلك وانحرف عنه إلى بنيات الطريق، يقول الإمام ابن القيم: (إذ استغنى الناس بالدنيا فاستغن أنت بالله، وإذا فرح الناس بالدنيا فافرح أنت بالله، وإذا أنس الناس بأحبائهم فأنس أنت بالله، وإذا ذهب الناس إلى ملوكهم وكبرائهم يسألونهم الرزق ويتوددون إليهم فتودد أنت إلى الله تعالى) .
الدعاء