خطبة عن (المرأة المسلمة)
أكتوبر 29, 2024الخطبة الأولى (الإِسْرَافُ وَصَوَرَهُ)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (31) الاعراف، وقال تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ) (150): (152) الشعراء، وقال تعالى: (وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ) (43) غافر، وفي صحيح البخاري: (قَالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – «كُلُوا وَاشْرَبُوا وَالْبَسُوا وَتَصَدَّقُوا، فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلاَ مَخِيلَةٍ». وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ كُلْ مَا شِئْتَ وَالْبَسْ مَا شِئْتَ، مَا أَخْطَأَتْكَ اثْنَتَانِ سَرَفٌ أَوْ مَخِيلَةٌ)، وفي سنن ابن ماجه: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَرَّ بِسَعْدٍ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ فَقَالَ «مَا هَذَا السَّرَفُ». فَقَالَ أَفِي الْوُضُوءِ إِسْرَافٌ قَالَ «نَعَمْ وَإِنْ كُنْتَ عَلَى نَهَرٍ جَارٍ».
إخوة الإسلام
الإسراف والتبذير: هو مجاوزة الحد والقصد، وصرف الشيء فيما ينبغي زائدًا على ما ينبغي؛ مثل: تجاوز الحد في الإنفاق، وتجاوز الحد في اللباس والتزين، ومجاوزة الحد في الأكل والشرب، وغير ذلك من مظاهر الإسراف، وصور التبذير، ولذا كان الإسراف والتبذير خلقا ذميما، وفعلا يبغضه الله ورسوله، وتصرُّفا يذمُّه أصحاب العقول والفطرة السليمة ؛ يقول الله تعالى في وصف عباده الأتقياء المؤمنين: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) [الفرقان:67]، ورسولنُا -صلى الله عليه وسلم- يقول كما في البخاري: «كُلُوا وَاشْرَبُوا وَالْبَسُوا وَتَصَدَّقُوا، فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلاَ مَخِيلَةٍ»،
فالشرع الحكيم ينهى عن الاسراف والتبذير، بكل صوره ومظاهره، لأن الإسراف من مساوئ الأخلاق، التي تعود على صاحبها وعلى المجتمع والأمة بالكثير من الأضرار، لذا قال الله تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأعراف:31).
ولا شَكَّ أنَّ الإسرافَ تتعَدَّدُ صُوَرُه ومظاهِرُه، وقد تشمل جميع مناحي الحياة، فيكون الإسراف في العادات والعبادات، وفي المباحات والمحظورات، ومن هذه الصُّوَرِ، وتلك المظاهر للإسراف: الإسرافُ على الأنفُسِ بالمعاصي والآثامِ: قال تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ) [الزمر:53]. ومن صور ومظاهر الاسراف: الإسراف في النفقةِ والإنفاقِ: قال تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} [الإسراء:26،27]، وقال تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام:141]، وفي صحيح البخاري: (أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- دَخَلَ عَلَى سَعْدٍ يَعُودُهُ بِمَكَّةَ فَبَكَى قَالَ «مَا يُبْكِيكَ». فَقَالَ قَدْ خَشِيتُ أَنْ أَمُوتَ بِالأَرْضِ الَّتِي هَاجَرْتُ مِنْهَا كَمَا مَاتَ سَعْدُ ابْنُ خَوْلَةَ. فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- «اللَّهُمَّ اشْفِ سَعْدًا اللَّهُمَّ اشْفِ سَعْدًا». ثَلاَثَ مِرَارٍ. قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي مَالاً كَثِيرًا وَإِنَّمَا يَرِثُنِي ابْنَتِي أَفَأُوصِي بِمَالِي كُلِّهِ قَالَ «لاَ». قَالَ فَبِالثُّلُثَيْنِ قَالَ «لاَ». قَالَ فَالنِّصْفُ قَالَ «لاَ». قَالَ فَالثُّلُثُ قَالَ «الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ)
ومن صور ومظاهر الاسراف: الإسرافُ في الأكل والشرب، وضرورياتِ الحياة ومباحاتِها، فمع أنَّ اللهَ تعالى أباحَ لعباده الطيباتِ من المأكل والمشرب، ولكنه سبحانه نهاهم عن الإسراف فيها، وتجاوزِ الحد؛ لما في ذلك من الضرر عليهم في أبدانهم، ودينهم ودنياهم. قال تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} [الإسراء:29]، وفي سنن الترمذي: (أن رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ «مَا مَلأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أُكُلاَتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ فَإِنْ كَانَ لاَ مَحَالَةَ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ»، وقال لُقمانُ لابنِه: (يا بُنَيَّ لا تأكُلْ شِبَعًا فوقَ شِبَعٍ؛ فإنَّك أن تَنبِذَه للكَلبِ خيرٌ من أن تأكُلَه)،
ومن صور ومظاهر الاسراف: الإسرافُ في الوضوءِ واستخدام الماء: قال البُخاريُّ في صحيحه: (بَيَّن النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّ فَرْضَ الوُضوءِ مرَّةٌ مرَّةٌ، وتوضَّأ أيضًا مرَّتين وثلاثًا، ولم يَزِدْ على ثلاثٍ، وكَرِه أهلُ العِلمِ الإسرافَ فيه، وأن يجاوِزوا فِعلَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم)، وقال ابنُ القَيِّمِ: (وكان صلى الله عليه وسلم من أيسَرِ النَّاسِ صَبًّا لماءِ الوُضوءِ، وكان يُحَذِّرُ أمَّتَه من الإسرافِ فيه، وأخبر أنَّه يكونُ في أمَّتِه من يعتدي في الطُّهورِ)، وفي الحديث المتقدم: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَرَّ بِسَعْدٍ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ فَقَالَ «مَا هَذَا السَّرَفُ». فَقَالَ أَفِي الْوُضُوءِ إِسْرَافٌ قَالَ «نَعَمْ وَإِنْ كُنْتَ عَلَى نَهَرٍ جَارٍ». وكذا الإسراف في استخدام الماء، وخاصة في المناطق التي فيها الماء محدد، فإن الإسراف في تضييع الماء في زراعات غير ضرورية، أو الإسراف في تغسيل الأواني، أو الإسراف في تغسيل الملابس بكميات كبيرة من الماء عبر الغسالات، وكذلك فتح صنابير المياه على آخرها، أو عدم إغلاقها بإتقان، كل ذلك اسراف منهي عنه.
ومن صور ومظاهر الاسراف: الإسرافُ في القِصاصِ؛ قال تعالى: (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا) [الإسراء:33]. وأكثَرُ المُفَسِّرين قالوا معناه: ولا يُقتُلْ غيرَ القاتِلِ، وذلك أنَّهم كانوا في الجاهليَّةِ إذا قُتِل منهم قتيلٌ لا يَرضَون بقَتلِ قاتِلِه، حتَّى يُقتَلَ أشرَفُ منه، وعن عَائِشَةَ – رضي الله عنها؛ أَنَّ رَجُلاً قَعَدَ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِي مَمْلُوكَيْنِ يُكْذِبُونَنِي وَيَخُونُونَنِي وَيَعْصُونَنِي، وَأَشْتُمُهُمْ وَأَضْرِبُهُمْ، فَكَيْفَ أَنَا مِنْهُمْ؟ قَالَ: «يُحْسَبُ مَا خَانُوكَ وَعَصَوْكَ وَكَذَبُوكَ، وَعِقَابُكَ إِيَّاهُمْ، فَإِنْ كَانَ عِقَابُكَ إِيَّاهُمْ بِقَدْرِ ذُنُوبِهِمْ؛ كَانَ كَفَافًا لاَ لَكَ وَلاَ عَلَيْكَ. وَإِنْ كَانَ عِقَابُكَ إِيَّاهُمْ دُونَ ذُنُوبِهِمْ ؛كَانَ فَضْلاً لَكَ. وَإِنْ كَانَ عِقَابُكَ إِيَّاهُمْ فَوْقَ ذُنُوبِهِمُ؛ اقْتُصَّ لَهُمْ مِنْكَ الْفَضْلُ». فَتَنَحَّى الرَّجُلُ فَجَعَلَ يَبْكِي وَيَهْتِفُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَمَا تَقْرَأُ كِتَابَ اللَّهِ: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾ [الأنبياء: 47]. فَقَالَ الرَّجُلُ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَجِدُ لِي وَلِهَؤُلاَءِ شَيْئًا خَيْرًا مِنْ مُفَارَقَتِهِمْ، أُشْهِدُكُمْ أَنَّهُمْ أَحْرَارٌ كُلَّهُمْ» رواه الترمذي.
ومن صور ومظاهر الاسراف: الاسراف في انفاق المال، فينفق ماله فيما لا يجدي عليه نفعاً في دنياه ولا أخراه، كإنفاقه في المحرمات: من شرب الخمر، وإتيان الفواحش، وإعطائه المال للسفهاء من المغنين والملهين، أو يجعل المال في الفُرش الوثيرة، والأواني الكثيرة الفضية والذهبية، أو ينفق المال على الدخان والمخدرات والمسكرات، أو شراء الملابس الفخمة، لمتابعة الموضة وبيوت الأزياء، وكذا الإسراف في البناء، وتزيين البيوت، وتشييد السقوف بالجبس والزخارف، ونحوها من الأشياء التي لا حاجة إليها أصلًا، بل هي من السرف الذي يسبب غضب الله ومقته، ويتسبب في كسر قلوب الفقراء والمساكين، وفي الصحيحين: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم: (إِنَّهُ كَانَ يَنْهَى عَنْ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةِ الْمَالِ) ومن صور الاسراف في انفاق المال: الإسراف في حفلات الزواج، والتنافس في البذخ، فالله تعالى سائلٌ كل عبدٍ عن ماله فيما أنفقه؟، وفي سنن الترمذي: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «لاَ تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمْرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَا فَعَلَ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَا أَبْلاَهُ»
ومن صور الإسراف ومظاهره: الإسراف في العقاب والجزاء، فمن فعل خطيئة تستحق العقاب، فيجب معاقبته بالحد الشرعي، وبالمقدار الكافي لزجره وتأديبه، فإذا زاد الإنسان في معاقبة شخص فوق اللازم، فقد تعدى وأسرف وظلم. وفي صحيح مسلم: (قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ الْبَدْرِىُّ كُنْتُ أَضْرِبُ غُلاَمًا لِي بِالسَّوْطِ فَسَمِعْتُ صَوْتًا مِنْ خَلْفِي «اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ». فَلَمْ أَفْهَمِ الصَّوْتَ مِنَ الْغَضَبِ – قَالَ – فَلَمَّا دَنَا مِنِّى إِذَا هُوَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَإِذَا هُوَ يَقُولُ «اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ». قَالَ فَأَلْقَيْتُ السَّوْطَ مِنْ يَدِى فَقَالَ «اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ أَنَّ اللَّهَ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَى هَذَا الْغُلاَمِ». قَالَ فَقُلْتُ لاَ أَضْرِبُ مَمْلُوكًا بَعْدَهُ أَبَدًا).
ومن صور الإسراف ومظاهره: الاسراف في استعمال المال العام -أي مال الدولة- فهو أمانة عظيمة على جميع الأمة، وواجبٌ الحفاظ عليه، وعدم التعدي عليه؛ لأنه مال للمسلمين جميعًا، فعلى كل جهة ولاَّها ولي أمر المسلمين مسؤوليةً ما، أن تحفظ أموال هذه الجهة، وأن لا تنفقها إلا في مصارفها المشروعة، والمأذون فيها من قِبَل ولي الأمر، فإن استعملها في غير محلها كان اسرافا، وفي صحيح البخاري: (أن النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – يَقُولُ «إِنَّ رِجَالاً يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ اللَّهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَهُمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»،
أيها المسلمون
وهكذا فمظاهر وصور الاسراف أكثر من أن تعد وتحصى، لأنها كما قلت لكم تشمل جميع مناحي الحياة، فيكون الإسراف في المحبة والكراهية، وفي الحزن والسرور، وفي الضحك والبكاء، وفي النوم والسهر، وفي الحركة والسكون، وفي الانفعالات والسلوكيات، وفي المزاح والزيارات، وفي الكلام والصمت، وفي النظر والسمع والتفكير، وفي العبادات والعادات، وفي الصوم والافطار، فالإسراف داخل في كل شيء يتجاوز فيه الانسان حده، ولنا في حديث الثلاثة الذين سألوا عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم خير شاهد ودليل: ففي صحيح مسلم: (عَنْ أَنَسٍ أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- سَأَلُوا أَزْوَاجَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ عَمَلِهِ فِي السِّرِّ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لاَ أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ لاَ آكُلُ اللَّحْمَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ لاَ أَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ. فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ. فَقَالَ «مَا بَالُ أَقْوَامٍ قَالُوا كَذَا وَكَذَا لَكِنِّى أُصَلِّى وَأَنَامُ وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي».
لذا كان على المؤمن ألا يكون مسرفا ولا مبذرا، وأن يكون معتدلا ومتوازنا في كل أقواله وأفعاله، فلا افراط ولا تفريط، ولا اسراف ولا تقتير، وعليه أن يعطي كل ذي حق حقه، بلا نقص أو زيادة، وفي صحيح البخاري: (عَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ آخَى النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – بَيْنَ سَلْمَانَ وَأَبِى الدَّرْدَاءِ .فَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً فَقَالَ لَهَا مَا شَأْنُكِ قَالَتْ أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا. فَجَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا فَقَالَ كُلْ فَإِنِّي صَائِمٌ. قَالَ مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ. فَأَكَلَ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ فَقَالَ نَمْ. فَنَامَ، ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ فَقَالَ نَمْ. فَلَمَّا كَانَ آخِرُ اللَّيْلِ قَالَ سَلْمَانُ قُمِ الآنَ. قَالَ فَصَلَّيَا فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ. فَأَتَى النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ . فَقَالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – «صَدَقَ سَلْمَانُ»
أيها المسلمون
ولا للإسراف من أسباب، فمن أسباب الإسراف وبواعثه: جهل المسرف بتعاليم الدين، الذي ينهى عن الإسراف بشتى صوره، فعاقبة المسرف في الدنيا الحسرة والندامة، وفي الآخرة العقاب الأليم، ومن أسبابه وبواعثه أيضا: الغفلة عن طبيعة الحياة الدنيا، فطبيعة الحياة الدنيا أنها لا تثبت، ولا تستقر على حال واحدة، والواجب يقتضي أن نضع النعمة في موضعها، وندخر ما يفيض عن حاجتنا الضرورية اليوم، من مال وصحة إلى وقت آخر. ومن أسباب الإسراف وبواعثه: السعة بعد الضيق، أو اليسر بعد العسر، وذلك أن كثيراً من الناس قد يعيشون في ضيق أو حرمان، أو شدة أو عسر، فإذا هم صابرون محتسبون، وقد يحدث أن تتبدل الأحوال، فتكون السعة بعد الضيق، أو اليسر بعد العسر، وحينئذ يصعب على هذا الصنف من الناس التوسط أو الاعتدال، فينقلب على النقيض تماماً، فيكون الإسراف والتبذير. ومنها: صحبة المسرفين: وقد يكون السبب في الإسراف إنما هي صحبة المسرفين ومخالطتهم، وذلك أن الإنسان غالباً ما يتخلق بأخلاق صاحبه وخليله، إذ أن المرء كما قال صلى الله عليه وسلم: “على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل”.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (الإِسْرَافُ وَصَوَرَهُ)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
ومن أسباب الاسراف وبواعثه: حب الظهور والتباهي: فقد يكون الإسراف سببه حب الشهرة والتباهي أمام الناس، رياء وسمعة، والتعالي عليهم، فيظهر لهم أنه سخي وجواد، فينال ثناءهم ومدحهم، لذا ينفق أمواله في كل حين، وبأي حال، ولا يهمه أنه أضاع أمواله، وارتكب ما حرم الله. وكذا المحاكاة والتقليد: فيكون سبب الإسراف محاكاة الغير وتقليدهم، حتى لا يوصف بالبخل، فينفق أمواله كيفما كان، من غير تبصر أو نظر في العاقبة التي سينتهي إليها.
وللإسراف خطورته ومضاره، وعواقبه الوخيمة، ومنها: عدم محبة الله للمسرفين: قال تعالى: (وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) [الأنعام:١٤١]. ونفي المحبة يشتد بمقدار قوة الإسراف، ومن خطورة الاسراف ومضاره: أنه يُفضي إلى طلب المال بالكسب الحرام: لأن المسرف ربما ضاقت به المعيشة، فيضطر إلى الكسب الحرام، لإشباع رغباته، فيقع فيما يؤاخذ عليه في الدنيا أو في الآخرة، ومنها: أن الإسراف في الأكل يضر بالبدن، وأن المسرف والمبذر يشاركه الشيطان في حياته، ففي صحيح مسلم: (عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ لَهُ « فِرَاشٌ لِلرَّجُلِ وَفِرَاشٌ لاِمْرَأَتِهِ وَالثَّالِثُ لِلضَّيْفِ وَالرَّابِعُ لِلشَّيْطَانِ »، ومن خطورة ومضار الاسراف: أن الإسراف والتبذير من صفات إخوان الشياطين: قال تعالى: (وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا) [الإسراء:٢٦-٢٧]. قال السعدي: (لأن الشيطان لا يدعو إلا إلى كل خصلة ذميمة فيدعو الإنسان إلى البخل والإمساك فإذا عصاه، دعاه إلى الإسراف والتبذير. والله تعالى إنما يأمر بأعدل الأمور وأقسطها، ويمدح عليه، كما في قوله تعالى عن عباد الرحمن: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) [الفرقان:٦٧].
ومن مضار الإسراف وخطورته: أن الإسراف يجر إلى مذمات كثيرة، قال ابن عاشور: (والإسراف إذا اعتاده المرء، حمله على التوسع في تحصيل المرغوبات، فيرتكب لذلك مذمات كثيرة، وينتقل من ملذة إلى ملذة، فلا يقف عند حد).
ومن الخطورة: أن المسرف سوف يحاسب على ماله فيم أنفقه: قال الله تعالى: (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) [التكاثر:٨]. وفي سنن الترمذي: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «لاَ تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمْرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَا فَعَلَ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَا أَبْلاَهُ»
ومن مضار الاسراف وخطورته: أن الإسراف والتبذير فيه تضييع للمال: قال ابن الجوزي: (العاقل يدبر بعقله عيشته في الدنيا، فإن كان فقيرًا؛ اجتهد في كسب وصناعة تكفه عن الذل للخلق، وقلل العلائق، واستعمل القناعة، فعاش سليمًا من منن الناس عزيزًا بينهم. وإن كان غنيًّا، فينبغي له أن يدبر في نفقته، خوف أن يفتقر، فيحتاج إلى الذل للخلق… وينبغي التوسط في الأحوال، وكتمان ما يصلح كتمانه، وإنما التدبير حفظ المال، والتوسط في الإنفاق، وكتمان ما لا يصلح إظهاره)
أيها المسلمون
احذروا مظاهر الإسراف، وصور التبذير، في كل أمور حياتكم، فإن للإسراف عواقب شديدة، ونهايات مؤلمة، فالسرف يجلب غضب الله وسخطه، ويكون سببًا لدخول الإنسان النار، يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ﴾ [غافر:43]، والمسرف لا يوفقه الله ولا يهديه؛ بل يضله ويعميه، يقول سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ﴾ [غافر:28]، ويقول تعالى: ﴿كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ﴾ [غافر:34]. كما أن الإسراف ينشئ جيلًا ضعيفًا، تعوَّد الترف والكماليات، وأمعن في محبة البطر والزيادات، فينشأ على هذا الترهل، ويتعوَّد هذه الهشاشة، فيتكون في المجتمع جيل بارد هش لا يجرؤ على المقاومة، ولا يستطيع النهوض، ويعجز عن فعل أدنى شيء.
الدعاء