خطبة عن (الصَّلَاة تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ)
أغسطس 3, 2025الخطبة الأولى (الاستعاذة بالله من فتن أربع)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
روى الشيخان واللفظ لمسلم: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا تَشَهَّدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللهِ مِنْ أَرْبَعٍ يَقُولُ: اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ».
إخوة الإسلام
من أقرب ما يتقرب به العبد لربه أن يدعوه بفقره إليه، وأن يستشعر العبد ضعفه بين يدي خالقه، ويستحضر أنه لا منجا ولا ملجأ منه إلا إليه، وهو ما تمثله كلمة التعوذ، التي تجسد صورة العبد الهارب من هلاكه، وكيد أعدائه، إلى جناب ربه لاجئا مستجيرًا، ولذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ من هذه الفتن الأربع المذكورة في هذا الحديث المتقدم، رغم أنه صلى الله عليه وسلم معاذ من الله تعالى، ومعصوم من الوقوع في الفتن، ولكنه يفعل ذلك: إظهارا للفقر، والعبودية، والخضوع لله، وليكون قدوة لأمته، فعلا وتشريعا.
والاستعاذة بالله تعالى: هي أحد أنواع الدعاء، الذي جعلته الشريعة أسرع الأبواب لإجابة الله للعبد، وانفتاح أبوابه أمامه، قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} غافر:60، ولا يرد القضاء إلا الدعاء، وكل ما يعرف عن الدعاء من ترغيب في المداومة عليه، وترهيب من التقصير فيه، ينطبق على الاستعاذة بالله ،فكما قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم: «الدعاء هو العبادة»، سيكون التعوذ من العبادة أيضا؛ لأنه نوع من الدعاء، وهو أحد أسباب دفع القضاء الذي يخافه العبد، ويستعين بالدعاء لرده، قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بِكَ مِنْ جَهْدِ البَلَاءِ، وَدَرَكِ الشَقَاءِ، وَسُوءِ القَضَاءِ، وَشَمَاتَةِ الْأَعْدَاءِ» متفقٌ عليه. فلابد من المداومة على التعوذ بالله تعالى، والاستشعار الدائم لمعناها العميق.
وقد تعددت تعوذات النبي – صلى الله عليه وسلم – فشملت أمور الدنيا والآخرة، فقد تعوذ من أمور أربعة في هذا الحديث، وتعوذ أيضًا من العجزِ والكسلِ، والجُبنِ والبُخلِ، والهَرمِ، وضَلَعِ الدَّينِ ومن الجوع والخيانة، وقهر الرجال، وتعوذ من القسوةِ، والغفلةِ، والعيْلةِ، والذلةِ، والمسكنةِ، والفقرِ والكفرِ، والفسوقِ، والشقاقِ، والنفاقِ، والسمعةِ، والرياءِ، ومن الصممِ، والبُكمِ، والجنونِ، والجُذامِ، والبَرَصِ، وسيِّئِ الأسقامِ، وتعوذ من علمٍ لا ينفعُ، ومن قلبٍ لا يخشعُ، ومن نفسٍ لا تَشبعُ، ومن دعوةٍ لا يُستجابُ لها، وتعوذ من التردِّي والهدْمِ والغرقِ والحرقِ، وتعوذ من تخبط الشيطان عند الموت، ومن الموت مدبرا يوم الجهاد، ومن الموت بلدغ العقارب، وتعوذ من زوال النعمة، وتحول العافية، ومن فجاءة النقمة، ومن جميع سخط الله.
أيها المسلمون
والنبيُّ صلى الله عليه وسلم كان حرِيصا على تَعليمِ أصحابِه وأُمَّتِه الدُّعاءَ والاستِعاذةَ، مِن بعضِ الشُّرورِ التي قدْ تُصيبُ المسلِمَ؛ ليَعصِمَهم بالله منها، وفي هذا الحديث الجليل الذي بين أيدينا اليوم، جاء في بعض رواياته أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يعلم أصحابه هذه التعوذات الأربع، كما يعلمهم السورة من القرآن، ففي صحيح مسلم: (عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُعَلِّمُهُمْ هَذَا الدُّعَاءَ كَمَا يُعَلِّمُهُمْ السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ)، وذلك لشدة عنايته بهن، وحرصه على تحفيظهم إيَّاها، والعمل بها، كما أن تكرار هذه الاستعاذات الأربع خمس مرات على الأقل في اليوم والليلة، فيه دليل على أهمية هذه الأمور، ولزوم الاستحضار الدائم لها، والاحتياج لتوفيق الله في مقابلها.
وأما معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بك»، أي: أَلْجَأُ إليك، وألوذ وأَعتَصِمُ بك، وأَستَجِيرُ وأحتمي بك، أنْ تُنَجِّيَنِي، وتحفظني، وتحميني، من هذه الفتن الأربع، وأن تحفظني من الوقوع في الأعمال المسببة لها، حتى لا أكون من المعذبين بها في حياتي وبعد مماتي،
ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: (مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ)، أي أعوذ بك مِن عذابِ النَّارِ، التي أعَدَّها اللهُ تعالَى عِقابًا لمَن خالَفَ أمْرَهُ، وعصاهُ، فمِن صِفاتِ المؤمنينَ، وأصحابِ العُقولِ الصَّحيحةِ، والقُلوبِ السَّليمةِ: أنَّهم يَسْتَعيذونَ من عذاب النار دَوْمًا، ومَن سَلِمَ مِنَ النَّارِ، وزُحْزِحَ عنها، فإنَّه يَدخُلُ الجنَّةَ، وذلك هو الفوزُ العظيمُ، قال تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) (185) آل عمران، وقال تعالى: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا) (65)، (66) الفرقان، وفي صحيح مسلم: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «يُؤْتَى بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ زِمَامٍ مَعَ كُلِّ زِمَامٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ يَجُرُّونَهَا». وفي الصحيحين: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ «نَارُكُمْ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ». قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ كَانَتْ لَكَافِيَةً. قَالَ «فُضِّلَتْ عَلَيْهِنَّ بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا، كُلُّهُنَّ مِثْلُ حَرِّهَا»، وفي سنن الترمذي: (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «لَوْ أَنَّ قَطْرَةً مِنَ الزَّقُّومِ قُطِرَتْ فِي دَارِ الدُّنْيَا لأَفْسَدَتْ عَلَى أَهْلِ الدُّنْيَا مَعَايِشَهُمْ فَكَيْفَ بِمَنْ يَكُونُ طَعَامَهُ»، وعن كعب – موقوفًا – قال لعمر بن الخطاب: “إنَّ لجهنم يوم القيامة لزفرةً، ما من مَلَك مقرَّب، ولا نبيٍّ مرسَل، إلا خرَّ لركبتيه، حتى إنَّ إبراهيم خليلَ الله ليقول: رب! نفسي نفسي، حتى لو كان لك عمل سبعين نبيًّا إلى عملك لظننت ألا تنجو” صحيح الترغيب والترهيب
أيها المسلمون
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «ومِن عَذابِ القَبرِ» أي: أعوذ بك يا رب من عُقوبَة وفِتنة القبر؛ لأنَّ القبر أوَّلُ مَنزِلٍ مِن منازِلِ الآخِرةِ، ومَن نجَا وخَلُص مِنه، فما بَعدَه مِن مَنازِلِ الآخِرةِ أيسر منه وأسهلُ؛ ففي سنن الترمذي وغيره: (أن هَانِئًا مَوْلَى عُثْمَانَ قَالَ: كَانَ عُثْمَانُ إِذَا وَقَفَ عَلَى قَبْرٍ بَكَى حَتَّى يَبُلَّ لِحْيَتَهُ فَقِيلَ لَهُ تُذْكَرُ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ فَلاَ تَبْكِي وَتَبْكِي مِنْ هَذَا فَقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «إِنَّ الْقَبْرَ أَوَّلُ مَنَازِلِ الآخِرَةِ فَإِنْ نَجَا مِنْهُ فَمَا بَعْدَهُ أَيْسَرُ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ يَنْجُ مِنْهُ فَمَا بَعْدَهُ أَشَدُّ مِنْهُ». قَالَ وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «مَا رَأَيْتُ مَنْظَرًا قَطُّ إِلاَّ وَالْقَبْرُ أَفْظَعُ مِنْهُ». وفي هذا الدعاء، وتلك الاستعاذة، شاهد ودليل على أن عذاب القبر حق وواقع لا شك فيه، وقد قال الله تعالى عن فرعون وقومه: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) (46) غافر، وفي الصحيحين: (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ مَرَّ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – بِقَبْرَيْنِ فَقَالَ «إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لاَ يَسْتَتِرُ مِنَ الْبَوْلِ، وَأَمَّا الآخَرُ فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ». ثُمَّ أَخَذَ جَرِيدَةً رَطْبَةً، فَشَقَّهَا نِصْفَيْنِ، فَغَرَزَ فِي كُلِّ قَبْرٍ وَاحِدَةً. قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ، لِمَ فَعَلْتَ هَذَا قَالَ «لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا»، والرسول صلى الله عليه وسلم في حديث الرؤيا شاهد بعض صور عذاب القبر أو (حياة البرزخ)، وقد ذكرها لنا ليحذرنا من الوقوع في الأعمال المسببة لها، فقد رُوي في الصحيحين واللفظ للبخاري: (.. قَالَ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّهُ أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتِيَانِ، وَإِنَّهُمَا ابْتَعَثَانِي، وَإِنَّهُمَا قَالاَ لِي انْطَلِقْ. وَإِنِّي انْطَلَقْتُ مَعَهُمَا، وَإِنَّا أَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُضْطَجِعٍ، وَإِذَا آخَرُ قَائِمٌ عَلَيْهِ بِصَخْرَةٍ، وَإِذَا هُوَ يَهْوِى بِالصَّخْرَةِ لِرَأْسِهِ، فَيَثْلَغُ رَأْسَهُ فَيَتَهَدْهَدُ الْحَجَرُ هَا هُنَا، فَيَتْبَعُ الْحَجَرَ فَيَأْخُذُهُ، فَلاَ يَرْجِعُ إِلَيْهِ حَتَّى يَصِحَّ رَأْسُهُ كَمَا كَانَ، ثُمَّ يَعُودُ عَلَيْهِ، فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ الْمَرَّةَ الأُولَى. قَالَ قُلْتُ لَهُمَا سُبْحَانَ اللَّهِ مَا هَذَانِ قَالَ قَالاَ لِي انْطَلِقْ – قَالَ – فَانْطَلَقْنَا فَأَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُسْتَلْقٍ لِقَفَاهُ، وَإِذَا آخَرُ قَائِمٌ عَلَيْهِ بِكَلُّوبٍ مِنْ حَدِيدٍ، وَإِذَا هُوَ يَأْتِي أَحَدَ شِقَّيْ وَجْهِهِ فَيُشَرْشِرُ شِدْقَهُ إِلَى قَفَاهُ، وَمَنْخِرَهُ إِلَى قَفَاهُ وَعَيْنَهُ إِلَى قَفَاهُ – قَالَ وَرُبَّمَا قَالَ أَبُو رَجَاءٍ فَيَشُقُّ- قَالَ ثُمَّ يَتَحَوَّلُ إِلَى الْجَانِبِ الآخَرِ، فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ بِالْجَانِبِ الأَوَّلِ، فَمَا يَفْرُغُ مِنْ ذَلِكَ الْجَانِبِ حَتَّى يَصِحَّ ذَلِكَ الْجَانِبُ كَمَا كَانَ، ثُمَّ يَعُودُ عَلَيْهِ فَيَفْعَلُ مِثْلَ مَا فَعَلَ الْمَرَّةَ الأُولَى. قَالَ قُلْتُ سُبْحَانَ اللَّهِ مَا هَذَانِ قَالَ قَالاَ لِي انْطَلِقْ. فَانْطَلَقْنَا فَأَتَيْنَا عَلَى مِثْلِ التَّنُّورِ- قَالَ فَأَحْسِبُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ – فَإِذَا فِيهِ لَغَطٌ وَأَصْوَاتٌ – قَالَ – فَاطَّلَعْنَا فِيهِ، فَإِذَا فِيهِ رِجَالٌ وَنِسَاءٌ عُرَاةٌ، وَإِذَا هُمْ يَأْتِيهِمْ لَهَبٌ مِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ، فَإِذَا أَتَاهُمْ ذَلِكَ اللَّهَبُ ضَوْضَوْا- قَالَ- قُلْتُ لَهُمَا مَا هَؤُلاَءِ قَالَ قَالاَ لِي انْطَلِقِ انْطَلِقْ. قَالَ فَانْطَلَقْنَا فَأَتَيْنَا عَلَى نَهَرٍ- حَسِبْتُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ- أَحْمَرَ مِثْلِ الدَّمِ، وَإِذَا فِي النَّهَرِ رَجُلٌ سَابِحٌ يَسْبَحُ، وَإِذَا عَلَى شَطِّ النَّهَرِ رَجُلٌ قَدْ جَمَعَ عِنْدَهُ حِجَارَةً كَثِيرَةً ، وَإِذَا ذَلِكَ السَّابِحُ يَسْبَحُ مَا يَسْبَحُ، ثُمَّ يَأْتِي ذَلِكَ الَّذِي قَدْ جَمَعَ عِنْدَهُ الْحِجَارَةَ فَيَفْغَرُ لَهُ فَاهُ فَيُلْقِمُهُ حَجَرًا فَيَنْطَلِقُ يَسْبَحُ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِ، كُلَّمَا رَجَعَ إِلَيْهِ فَغَرَ لَهُ فَاهُ فَأَلْقَمَهُ حَجَرًا- قَالَ- قُلْتُ لَهُمَا مَا هَذَانِ قَالَ قَالاَ لِي انْطَلِقِ انْطَلِقْ…… قَالَ قُلْتُ لَهُمَا فَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ مُنْذُ اللَّيْلَةِ عَجَبًا، فَمَا هَذَا الَّذِي رَأَيْتُ قَالَ قَالاَ لِي أَمَا إِنَّا سَنُخْبِرُكَ، أَمَّا الرَّجُلُ الأَوَّلُ الَّذِي أَتَيْتَ عَلَيْهِ يُثْلَغُ رَأْسُهُ بِالْحَجَرِ، فَإِنَّهُ الرَّجُلُ يَأْخُذُ الْقُرْآنَ فَيَرْفُضُهُ وَيَنَامُ عَنِ الصَّلاَةِ الْمَكْتُوبَةِ، وَأَمَّا الرَّجُلُ الَّذِى أَتَيْتَ عَلَيْهِ يُشَرْشَرُ شِدْقُهُ إِلَى قَفَاهُ، وَمَنْخِرُهُ إِلَى قَفَاهُ، وَعَيْنُهُ إِلَى قَفَاهُ، فَإِنَّهُ الرَّجُلُ يَغْدُو مِنْ بَيْتِهِ فَيَكْذِبُ الْكَذْبَةَ تَبْلُغُ الآفَاقَ، وَأَمَّا الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ الْعُرَاةُ الَّذِينَ فِي مِثْلِ بِنَاءِ التَّنُّورِ فَإِنَّهُمُ الزُّنَاةُ وَالزَّوَانِي. وَأَمَّا الرَّجُلُ الَّذِي أَتَيْتَ عَلَيْهِ يَسْبَحُ فِي النَّهَرِ وَيُلْقَمُ الْحَجَرَ، فَإِنَّهُ آكِلُ الرِّبَا..)
أيها المسلمون
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «ومِن فِتْنةِ المَحْيَا والمَمَاتِ»: أي أَعُوذُ بك يا إلهي من الفتنة في الحياة الدنيا ،وبعد الممات، ومعنى الفِتْنةُ: الامتِحانُ والاختِبارُ، وما مِن عَبدٍ إلَّا وهو مُعرَّضٌ للابتِلاءِ، والفِتَن؛ ولذلك فإنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قد علَّم أُمَّتَه الاستِعاذةَ مِن الفِتَنِ، «ومِن فِتْنةِ المَحْيَا والمَمَاتِ» وفِتنةُ المَحْيَا: يَدخُلُ فيها جميعُ أنواعِ الفِتَنِ الَّتِي يتعرَّضُ لها الإنسانُ في الدُّنيا؛ كالكُفرِ والبِدَعِ، والشَّهَواتِ، والفُسوقِ، وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى :” فتنة المحيا: هي أن يفتتن الإنسان بالدنيا، وينغمس فيها، وينسى الآخرة؛ وهذا ما أنكره الله تعالى على العباد، قال تعالى: (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) الأعلى: (16) (17). فكل ما يشغل المسلم عن طاعة ربه، فهو فتنة، قال النووي: وفتنة الرجل في أهله وماله وولده ضروب من محبته لهم وشحه عليهم وشغله بهم عن كثير من الخير كما قال تعالى: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ) الانفال:28.
وأما فِتنةُ المَماتِ: فيدخُل فيها سُوءُ الخاتِمةِ، وفِتنةُ القَبْرِ، وفتنة الممات لها معنيان: أولهما: الاحتضار وخروج الروح، وما يشعر به الإنسان عندها من آلام شديدة في سكرات الموت، وما ورد من حضور الشيطان للحظة الاحتضار لدعوة الإنسان للكفر بالله عندها، وثانيهما: سؤال الملكين في القبر: عن الرب والدين والرسول، والاستحضار الدائم للموت، ولما بعده من فتن، في هذه الموضع من الصلاة، متناسب مع قوله صلى الله عليه وسلم: كما صحيح ابن حبان «أكثروا من ذكر هاذم اللذات»،
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (الاستعاذة بالله من فتن أربع)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
وأما قولُه صلى الله عليه وسلم: «ومِن فِتْنةِ المَسِيحِ الدَّجَّالِ»، أي: أعوذ بك أن تصيبني فتنة الدجال، وأنْ أُصَدِّقَه، أو أَقَعَ تحتَ إغوائِه، فهو أعظمُ الفِتَنِ وأخطَرُها في الدُّنيا؛ ولذلك حذَّرتِ الأنبياءُ جميعًا أُمَمَها مِن شرِّه وفِتْنتِه؛ وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَستعِيذُ مِن فِتْنتِه في كلِّ صلاةٍ، وبيَّنَ أنَّ فِتْنتَه أعظَمُ الفِتَنِ مُنذُ خَلَقَ اللهُ آدَمَ عليه السَّلامُ، إلى قِيامِ السَّاعةِ.
والدَّجَّالُ: شخصٌ مِن بني آدمَ، وظُهورُه مِن العَلاماتِ الكُبرى ليومِ القِيامةِ، يَبتلي اللهُ به عِبادَه، وأَقْدَره على أشياءَ مِن مَقدوراتِ الله تعالى: مِن إحياءِ المَيتِ الذي يَقتُلُه، ومِن ظُهورِ زَهرةِ الدُّنيا والخِصْبِ معه، وجَنَّتِه ونارِه، ونَهْرَيْهِ، واتِّباعِ كُنوزِ الأرضِ له، وأمْرِه السَّماءَ أنْ تُمطِرَ فتُمطِرَ، والأرضَ أن تُنبِتَ فتُنبِتَ؛ فيَقَعُ كلُّ ذلك بقُدرةِ الله تعالَى ومشيئتِه. وفي حديث عمران بن حصين رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : “مَا بَيْنَ خَلْقِ آدَمَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ خَلْقٌ أَكْبَرُ مِنْ الدَّجَّالِ” رواه مسلم. وفي رواية أحمد: (عَنْ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ الأَنْصَارِيِّ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَا بَيْنَ خَلْقِ آدَمَ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ فِتْنَةٌ أَكْبَرُ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ). وجاء في حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه في ذكر الدجال: أن الصحابة قالوا: “يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا لَبْثُهُ فِي الأَرْضِ؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ يَوْمًا؛ يَوْمٌ كَسَنَةٍ وَيَوْمٌ كَشَهْرٍ وَيَوْمٌ كَجُمُعَةٍ وَسَائِرُ أَيَّامِهِ كَأَيَّامِكُمْ ” “.. قالوا: وَمَا إِسْرَاعُهُ فِي الأَرْضِ؟ قَالَ: كَالْغَيْثِ اسْتَدْبَرَتْهُ الرِّيحُ. فَيَأْتِي عَلَى الْقَوْمِ فَيَدْعُوهُمْ فَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَجِيبُونَ لَهُ، فَيَأْمُرُ السَّمَاءَ فَتُمْطِرُ، وَالأَرْضَ فَتُنْبِتُ، فَتَرُوحُ عَلَيْهِمْ سَارِحَتُهُمْ – الماشية – أَطْوَلَ مَا كَانَتْ ذُرًا – الأعالي والأسنمة – وَأَسْبَغَهُ ضُرُوعًا، وَأَمَدَّهُ خَوَاصِرَ – كناية عن الامتلاء وكثرة الأكل -. ثُمَّ يَأْتِي الْقَوْمَ فَيَدْعُوهُمْ فَيَرُدُّونَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ فَيَنْصَرِفُ عَنْهُمْ فَيُصْبِحُونَ مُمْحِلِينَ لَيْسَ بِأَيْدِيهِمْ شَيْءٌ مِنْ أَمْوَالِهِمْ. وَيَمُرُّ بِالْخَرِبَةِ فَيَقُولُ لَهَا أَخْرِجِي كُنُوزَكِ فَتَتْبَعُهُ كُنُوزُهَا كَيَعَاسِيبِ النَّحْلِ. ثُمَّ يَدْعُو رَجُلا مُمْتَلِئًا شَبَابًا فَيَضْرِبُهُ بِالسَّيْفِ فَيَقْطَعُهُ جَزْلَتَيْنِ رَمْيَةَ الْغَرَضِ ثُمَّ يَدْعُوهُ فَيُقْبِلُ وَيَتَهَلَّلُ وَجْهُهُ يَضْحَكُ) رواه مسلم
وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى ما يعصمها من فتنة المسيح الد جال، فقد ترك أمته على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك. ومن الإرشادات النبوية التي أرشد إليها المصطفى صلى الله عليه وسلم أمته لتنجو من هذه الفتنة العظيمة: التمسك بالإسلام، والتسلح بسلاح الإيمان، ومعرفة أسماء الله وصفاته الحسنى، التي لا يشاركه فيها أحد، فيعلم أن الدجال بشر يأكل ويشرب، وأن الله تعالى منزه عن ذلك، وأن الدجال أعور والله ليس بأعور، وأنه لا أحد يرى ربه حتى يموت، والدجال يراه الناس عند خروجه مؤمنهم وكافرهم. والتعوذ من فتنة الدجال، وحفظ آيات من سورة الكهف، فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقراءة فواتح سورة الكهف على الدجال، وفي بعض الروايات خواتيمها، وذلك بقراءة عشر آيات من أولها أو آخرها. ومن الأحاديث الواردة في ذلك ما رواه مسلم من حديث النواس بن سمعان الطويل، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: (فَمَنْ أَدْرَكَهُ مِنْكُمْ فَلْيَقْرَأْ عَلَيْهِ فَوَاتِحَ سُورَةِ الْكَهْفِ) رواه مسلم.
الدعاء