خطبة عن (نُورٌ عَلَى الطَّرِيقِ)
نوفمبر 17, 2024الخطبة الأولى (الاستغاثة وطلب الغوث والمدد)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (9)، (10) الأنفال.
إخوة الإسلام
الاستغاثة معناها: طلب العون والغوث، للتخلص من شدة أو نقمة، وقد قسمها العلماء على قسمين: القسم الأول: الاستغاثة المشروعة: وهي على نوعين: النوع الأول: الاستغاثة بالله تعالى، وهي دعاء الله في حال الشدائد والكرب، ومنه سُمي الاستسقاء استغاثة، لأن ذلك في وقت القحط والجدب، فتكون الاستغاثة نوعاً من أنواع الدعاء، كما دل عليها قول الله تعالى: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ) {الأنفال:9}، ففي غزوة “بدر” استغاث المسلمون بربهم ،وطلبوا منه النصر على عدوهم، فاستجاب الله دعاءهم، وأمدهم بألف من الملائكة، يتبع بعضهم بعضًا، ورُوِيَ عن ابنِ عَبَّاسٍ قال: قال عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه: (لَمَّا كان يومُ بَدرٍ نَظَر رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى المُشْرِكين، وهم ألفٌ، وأصحابُه ثلاثُمائةٍ وبِضعةَ عَشَرَ رَجُلًا، فدخل العريشَ هو وأبو بكرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عنه، واستقبلَ القِبلةَ ومَدَّ يَدَه، فجَعَل يَهتِفُ برَبِّه عَزَّ وجَلَّ: (اللَّهُمَّ أنجِزْ لي ما وعَدْتَني، اللَّهُمَّ إنَّك إن تُهلِكْ هذه العصابةَ مِن أهلِ الإسلامِ لا تُعبَدُ في الأرضِ)، فما زال يَهتِفُ برَبِّه عَزَّ وجَلَّ مادًّا يَدَيه حتى سَقَط رداؤُه عن مَنكِبَيه، فأخذ أبو بكرٍ رداءَه، فألقاه على مَنكِبَيه، ثم التَزَمه من ورائِه وقال: يا نبيَّ اللهِ كفاك مناشَدَتُك رَبَّك؛ فإنَّه سيُنجِزُ لك ما وعدك، فأنزل اللهُ عَزَّ وجَلَّ: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (9)، (10) الأنفال، وفي سنن الترمذي: (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا كَرَبَهُ أَمْرٌ قَالَ «يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ». فالمسلم يعتقد أن الاستغاثة بالله وحده هي من أجَّل العبادات، سواء أكان ذلك في شفاء المرضى، أو طلب الرزق، أو طلب النصر على الأعداء، أو كشف الضر، وغيره.
أما النوع الثاني من أنواع الاستغاثة المشروعة فهو: الاستغاثة بالمخلوق فيما يقدر عليه المخلوق، بشرط: أن يعتقد أن المغيث الحقيقي هو الله، وأما المخلوق فإنما هو سبب، وقد دل عليه قوله تعالى عن نبيه موسى عليه الصلاة والسلام: (فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ) {القصص:15}. فلو أن إنساناً وجد نفسه في مشكلة، فيستغيث بالمسلمين ليغيثوه فهذا جائز، وتحرم الاستغاثة بمخلوق إذا كان لا يقدر عليها؛ وعدم المقدرة تكون في أمور ثلاثة: الأول: إذا كان المُستغاث به ميتاً، كأن تقول لأصحاب القبور: اغثني يا شيخ فلان، أو المدد يا فلان. الثاني: إذا كان هذا المستغاث به حياً حاضراً وقادراً، لكنه غائب لا يسمع استغاثتك، فيظن المستغيث أنه يسمعه، ولو كان في أبعد مكان. الثالث: إذا كان هذا المُستغيث يستغيث بمخلوق حي حاضر في أمر لا يقدر عليه إلا الله،
أما القسم الثاني من أقسام الاستغاثة: فهو الاستغاثة بالمخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الله، فهذا كفر، كأن يقول يا فلان ارزقني الولد، أو اشفني من المرض، أو يا فلان اغفر ذنبي، قال بعض السلف: «استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة المسجون بالمسجون». وجاء عن أبي يزيد البسطامي قوله: «استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة الغريق بالغريق»، وفي معجم الطبراني وصححه الألباني: (عن عبادة بن الصامت: أنَّهُ كانَ في زمَنِ النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ منافِقٌ يؤذي المؤمنينَ فقال بعضُهم: قوموا بنا نستغيثُ برسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ من هذا المنافقِ فقال النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: إنه لا يُستغاثُ بي، وإنما يُستغاثُ باللَّهِ)،
فالاستغاثة بالمخلوق فيما لا يملكه ولا يقدر عليه شرك، لأن الاستغاثة دعاء، والدعاء عبادة، والعبادة لا يجوز صرفها لغير الله، قال تعالى: (وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ*وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (يونس:106، 107)، وقال سبحانه: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} [يونس:١٠٧]، وقال ابنُ تَيميَّةَ: (لا يجوزُ لأحَدٍ أن يستغيثَ بأحَدٍ من المشايخِ الغائبينَ ولا الميِّتين، مثلُ أن يقولَ: يا سَيِّدي فلانًا أغِثْني وانصُرْني وادفَعْ عنِّي، أو أنا في حَسْبِك. ونحو ذلك… وهؤلاء المستغيثون بالغائبينَ والميِّتين عند قبورِهم وغيرِ قبورِهم -لَمَّا كانوا من جنسِ عُبَّاد الأوثان- صار الشَّيطانُ يُضِلُّهم ويُغْويهم، كما يُضِلُّ عُبَّادَ الأصنامِ ويُغْويهم، فتتصَوَّرُ الشياطينُ في صورةِ ذلك المستغاثِ به، وتخاطِبُهم بأشياءَ على سبَيلِ المكاشَفةِ، كما تخاطِبُ الشَّياطينُ الكُهَّانَ)، وقال سليمانُ بنُ عبدِ اللهِ آل الشَّيخِ: (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ [المؤمنون:117]، والآيةُ نَصٌّ في أنَّ دُعاءَ غيرِ اللهِ والاستغاثةَ به شِركٌ أكبَرُ)
أيها المسلمون
فمعتقد أهل السنة والجماعة أن الدعاء عبادة، ويجب صرفه لله تعالى وحده لا شريك له، فمن دعا أو استغاث بغير الله، فيما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل، فقد كفر وخرج من الإسلام سواءً كان هذا الغير نبيا، أو ولياً، أو ملكاً، أو جنياً، أو غير ذلك من المخلوقات، ويدل عليه قوله تعالى: ﴿وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [يونس:106]، وقوله تعالى: ﴿فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ﴾ [الشعراء:213]، وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [القصص:88]، وفي صحيح البخاري: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – كَلِمَةً وَقُلْتُ أُخْرَى قَالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – «مَنْ مَاتَ وَهْوَ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ نِدًّا دَخَلَ النَّارَ». وَقُلْتُ أَنَا مَنْ مَاتَ وَهْوَ لاَ يَدْعُو لِلَّهِ نِدًّا دَخَلَ الْجَنَّةَ)، وعقيدة أهل السنة والجماعة، أنهم لا يفرقون بين من يستغيث بالملائكة أو بالأنبياء، أو بالأولياء، ليكونوا لهم وسطاء وشفعاء عند الله، لذا فيجب على كل مكلف أن يعلم أنه لا غياث ولا مغيث على الإطلاق إلا الله، فالأمر كله لله وحدَه، فهو الذي يعطي ويمنع، وهو الذي يضر وينفع، وهو الذي يرفع ويخفض، وهو الذي يُعِزُّ ويُذِلُّ، لا رادَّ لحكمه، ولا مُعقِّب لقضائه، ولا رب غيره، ولا إله سواه وقد قال صلى الله عليه وسلم لأقربِ الناس إليه، لا أُغنِي عنكم من الله شيئًا، ففي الصحيحين: (أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حِينَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ) «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ اللَّهِ لاَ أُغْنِى عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا يَا بَنِى عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لاَ أُغْنِى عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا يَا عَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لاَ أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا يَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ سَلِينِي بِمَا شِئْتِ لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا».
فالعبادة حق لله عز وجل وحده، ففي الصحيحين: (عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – «يَا مُعَاذُ أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ». قَالَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ «أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، أَتَدْرِي مَا حَقُّهُمْ عَلَيْهِ». قَالَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ «أَنْ لاَ يُعَذِّبَهُمْ»، ولهذا يجب على العباد أن يتوجَّهوا بالعبادة إلى الله وحدَه؛ فهو الذي يدعى، وهو الذي يُسأل، وهو الذي يُستغاث به، وهو الذي يُستعان به، وهو الذي يُلجَأ إليه في الشدة، ويُتوكَّل عليه عند الحاجة، ويُتعلَّق به في كل وقت وحين، وهو القادر على قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، أما غيره ممن يُدْعَى ويسأل من دونه، فلا يقدر على شيء من ذلك؛ قال تعالى: ﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا﴾ [الإسراء: 56]؛
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (الاستغاثة وطلب الغوث)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول شيخ الاسلام (ابن تيمية): (وهؤلاء الذين يستغيثون بالأمواتِ مِن الأنبياءِ والصَّالحين والشُّيوخِ وأهلِ بيتِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، غايةُ أحَدِهم أن يجريَ له بعضُ هذه الأمورِ، أو يحكي لهم بعضَ هذه الأمورِ، فيُظَنُّ أنَّ ذلك كرامةٌ وخَرقُ عادةٍ بسَبَبِ هذا العَمَلِ. ومن هؤلاء من يأتي إلى قبرِ الشَّيخِ الذي يُشرِكُ به ويستغيثُ به، فيَنزِلُ عليه من الهواءِ طَعامٌ أو نَفَقةٌ أو سلاحٌ أو غيرُ ذلك ممَّا يَطْلُبُه، فيظُنُّ ذلك كرامةً لشَيْخِه، وإنما ذلك كُلُّه من الشَّياطينِ وهذا من أعظَمِ الأسبابِ التي عُبِدَت بها الأوثانُ، وقد قال الخليلُ عليه السَّلامُ: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ) [إبراهيم: 35-36]. ومعلومٌ أنَّ الحَجَر لا يُضِلُّ كثيرًا من النَّاسِ إلَّا بسَبَبٍ اقتضى ضلالَهم، ولم يكُنْ أحدٌ من عُبَّادِ الأصنامِ يعتَقِدُ أنَّها خَلَقَت السَّمَواتِ والأرضَ، بل إنَّما كانوا يتَّخِذونها شُفَعاءَ ووَسائِطَ؛ .. فالمعبودُ لهم في قَصْدِهم إنما هو للملائكةِ والأنبياءِ والصَّالحين، أو الشَّمسِ أو القَمَرِ، وهم في نفسِ الأمرِ يَعبُدون الشَّياطينَ، فهي التي تَقصِدُ من الإنسِ أن يَعبُدَها وتُظهِرُ لهم ما يدعوهم إلى ذلك، كما قال تعالى: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ) [سبأ:40-41].
وإذا كان العابِدُ ممَّن لا يستحِلُّ عِبادةَ الشَّياطينِ، أوهموه أنَّه إنَّما يدعو الأنبياءَ والصَّالحين والملائكةَ وغَيرَهم ممَّن يحسِنُ العابِدُ ظَنَّه به، وأمَّا إن كان ممَّن لا يُحَرِّمُ عبادةَ الجِنِّ، عَرَّفوه أنَّهم الجِنُّ. وقد يطلُبُ الشَّيطانُ الممَثل له في صورةِ الإنسانِ أن يَسجُدَ له، أو أن يَفعَلَ به الفاحشةَ، أو أن يأكُلَ الميتةَ ويَشرَبَ الخَمْرَ، أو أن يقرِّبَ لهم الميتةَ، وأكثَرُهم لا يَعرِفون ذلك، بل يظُنُّون أنَّ من يخاطِبُهم إمَّا ملائكةٌ، وإمَّا رِجالٌ مِنَ الجِنِّ يُسَمُّونَهم رِجالَ الغَيبِ، ويظنُّونَ أنَّ رِجالَ الغَيبِ أولياءُ الله غائبون عن أبصارِ النَّاسِ. وأولئك جِنٌّ تمَثَّلَت بصُوَرِ الإنسِ أو رُئِيَت في غيرِ صُوَرِ الإنسِ؛ قال تعالى: (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا) [الجن:6]. كان الإنسُ إذا نزل أحَدُهم بوادٍ يخافُ أهْلَه قال: (أعوذُ بعَظيمِ هذا الوادي من سُفَهائِه)، وكانت الإنسُ تستعيذُ بالجِنِّ؛ فصار ذلك سببًا لطغيانِ الجِنِّ، وقالت: الإنسُ تَستعيذُ بنا!
وكذلك الرُّقَى والعزائِمُ الأعجميَّةُ هي تتضَمَّنُ أسماءَ رِجالٍ مِنَ الجِنِّ يُدعَونَ ويُستغاثُ بهم ويُقسَمُ عليهم بمن يُعَظِّمونَه، فتُطيعهم الشَّياطينُ بسَبَبِ ذلك في بعضِ الأمورِ. وهذا من جِنسِ السِّحرِ والشِّركِ؛ قال تعالى: (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) [البقرة:102]. وكثيرٌ من هؤلاءِ يطيرُ في الهواءِ، وتكونُ الشَّياطينُ قد حمَلَتْه وتذهَبُ به إلى مكَّةَ وغَيرِها، ويكونُ مع ذلك زِنديقًا يجحَدُ الصَّلاةَ وغَيرَها مما فَرَض اللهُ ورَسولُه، ويستَحِلُّ المحارِمَ التي حَرَّمها اللهُ ورَسولُه! وإنَّما يَقتَرِنُ به أولئك الشَّياطينُ لِما فيه من الكُفْرِ والفُسُوقِ والعِصيانِ، حتى إذا آمَنَ باللهِ ورَسولِه وتاب والتزم طاعةَ اللهِ ورَسولِه، فارقَتْه تلك الشَّياطينُ، وذهبت تلك الأحوالُ الشَّيطانيَّةُ مِن الإخباراتِ والتأثيراتِ).
فالواجب على كل مسلم وعلى كل من ينتسب للإسلام وعلى كل مكلف أن يعبد الله وحده، وأن يخصه بالعبادة دون من سواه، قال سبحانه: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاه) [الإسراء:23]، وقال تعالى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة:5]، فالله سبحانه هو الذي يدعى وهو الذي يسأل، كما قال تعالى: (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ) [البقرة:163]، وقال تعالى: (إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا) [طه:98]، فالخطأ في هذا أمره عظيم جدًا لا يجوز التساهل فيه؛ لأنه شرك الجاهلية وشرك المشركين الأولين، ولأنه ضد الإسلام وضد لا إله إلا الله، فالواجب الحذر من هذه الشركيات.
الدعاء