خطبة عن (أسد الله حمزة)
يونيو 24, 2024خطبة عن (كن من الدعاة إلى الله)
يونيو 25, 2024الخطبة الأولى (الافتقار إلى الله)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (15) فاطر، ولما حل نبي الله موسى بمدين: (ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) القصص (24)
إخوة الإسلام
الافتقار إلى الله سبحانه وتعالى من العبادات القلبية، التي لا بد أن يستحضرها المؤمن، امتثالا لأمر ربه سبحانه وتعالى لعباده، فالحكمة من خلق الإنسان هي: عبادة الله، وحده لا شريك له، والعبادة هي: كمال الذل والخضوع، مع كمال المحبة لله تعالى، فالعبد ذليل لربه تعالى في ربوبيته، وفقير إلى إحسانه إليه، قال ابن القيم – رحمه الله : )والعبد ذليل لمولاه الحق بكل وجه من وجوه الذل، فهو ذليل لعزِّه، وذليل لقهره، وذليل لربوبيته فيه وتصرفه، وذليل لإحسانه إليه، وإنعامه عليه)، فالعبد لا ينفك عن الافتقار التام لربه، سواء في حياة قلبه، وغذاء روحه، بالعلم والإيمان والتسديد والتوفيق، أو في حياة جسده، وتحصيل بُلغته من هذه الدنيا، التي جعلها الله قيامًا له،
والذل والافتقار إلى الله هو باب القرب الأعظم، يقول بعض العارفين: (دخلت على الله من أبواب الطاعات كلها، فما دخلت من باب إلا رأيت عليه الزحام، فلم أتمكن من الدخول، حتى جئت باب الذل والافتقار، فإذا هو أقرب باب إليه وأوسعه، ولا مزاحم فيه ولا معوق، فما هو إلا أن وضعت قدمي في عتبته، فإذا هو سبحانه قد أخذ بيدي وأدخلني)، فلنقبل على الله من باب الذل الافتقار، فهو مقام عالٍ، يصل إليه العبد من طرق كثيرة لعل أبرزها: العبودية، والدعاء، والاستعانة، والتوكل، فإذا تحصَّل العبدُ على مقام الذل لربه تعالى: ظهر مقام الافتقار، وعلم أنه لا غنى له عن ربه تعالى، بل صار مستغنٍ بربه عن غيره،
والذل والافتقار إلى الله يظهر في الصلاة المفروضة، والعبد ساجد بين يدي ربه، ويظهر في الدعاء، كما قال موسى عليه السلام: (رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) النمل/ 24، وكما قال تعالى عن أيوب عليه السلام: (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) الأنبياء/ 83, وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو فَلاَ تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَأَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ) رواه أبو داود ، وكلما ازداد القلب حبّاً لله، ازداد له عبودية، وكلما ازداد له عبودية، ازداد له حبّاً، وفضَّله عما سواه، فالقلب لا يصلح، ولا يفلح، ولا ينعم، ولا يسر، ولا يلتذ، ولا يطيب، ولا يسكن، ولا يطمئن، إلا بعبادة ربه وحبه، والإنابة إليه، وبذلك يحصل له الفرَح، والسرور، واللذة، والنعمة، والسكون، والطمأنينة، وهذا لا يحصل له إلا بإعانة الله له؛ فإنه لا يقدر على تحصيل ذلك له إلا الله، فهو دائماً مفتقر إلى حقيقة: (إياك نعبد وإياك نستعين). فالعبد مفتقر إلى الله تعالى في كل شيء، في خلقه ووجوده، وفي استمراره وحياته، وفي علومه ومعارفه، وفي هدايته وأعماله، وفي جلب أي نفع له، أو دفع أي ضرر له، وهذا هو معنى: “لا حول ولا قوة إلا بالله”.
وقد دعانا النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى اظهار الافتقار إلى الله تعالى في كل وقت وحين، فليس في وقت الشدة والبلاء فحسب، وإنما في أوقات الرخاء واليسر، ففي مسند أحمد: (قال صلى الله عليه وسلم «احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ تَعَرَّفْ إِلَيْهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ)، وكان النصر للمسلمين في غزوة بدر، لحصول الافتقار والذلة لله، قال تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) آل عمران (123)، وقال سهل بن عبد الله رضي الله عنه “ما أظهر عبد فاقة إلى الله في شيء، إلا قال الله تعالى للملائكة: لولا أنه لا يحتمل كلامي لأجبته لبيك لبيك”.
ويتحقق الافتقار إلى الله بأمرين متلازمين: الأول: إدراك عظمة الخالق وجبروته: فكلما كان العبد أعلم بالله تعالى وصفاته وأسمائه؛ كان أعظم افتقاراً إليه وتذللاً بين يديه، قال الفضيل بن عياض: “أعلم الناس بالله أخوفهم منه”، الثاني: إدراك ضعف المخلوق وعجزه: فمن عرف قدر نفسه، وأنَّه مهما بلغ في الجاه والسلطان والمال؛ فهو عاجز ضعيف، لا يملك لنفسه صرفاً ولا عدلاً؛ تصاغرت نفسه، وذهب كبرياؤه، وذلَّت جوارحه، وعظم افتقاره لمولاه، والتجاؤه إليه، وتضرعه بين يديه،
أيها المسلمون
فالعبد ينبغي أن يكون مفتقرا إلى الله تعالى، لا إلى أحد من الناس، ولا إلى شيء من الدنيا، فهو قد نفض يديه من الدنيا، فلا يطمع ولا ينافس فيها، ولا يتعلق قلبه بها، فإنما قيمتها عنده كما أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم: “كجَدْيٍ أَسَكّ”، أي: مقطوع الأذنين “ميت” ولذلك فهو يسلم منها طلبا وتركا، ويسلم من أن يطلبها، فهو سالم منها؛ لأنه يراها لا تساوي شيئا، ولا تستحق المنافسة، وإذا تركها لم يشعر أنه ضحى بشيء ذي قيمة،
ومن الافتقار إلى الله عز وجل أيضا الافتقار إليه في التوفيق إلى الأعمال الصالحة، وهو الافتقار إليه في أمر الهداية، وعدم حصول العُجب، كما عند أهل الدنيا، فالفقير إلى الله يشهد نعمة الله عليه وعلى غيره، ويسأله الهداية ليل نهار، ويعلم أن التوفيق من عند الله تعالى، وأنه لا يثبت على الخير بنفسه، بل يثبته الله عز وجل، مقلب القلوب، ومصرف القلوب سبحانه وتعالى، فهو لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا في أمر الدين، كما لم يملكه في أمر الدنيا، فيزول من قلبه إعجاب النفس
ومن الافتقار إلى ربه سبحانه وتعالى: أن يشهد نفسه بغير قدرة على الطاعات، ولا قوة إلا بالله سبحانه وتعالى، وأنه مفتقر إلى أن يكون قريبا من الله سبحانه وتعالى في كل عباداته وأعماله، فبهذا يصل إلى شهود أن (الأسباب مجرد أسباب يسرها الله عز وجل، بما فيها الأعمال الصالحة)، ففي صحيح البخاري: (أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – يَقُولُ «لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا عَمَلُهُ الْجَنَّةَ». قَالُوا وَلاَ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ «لاَ، وَلاَ أَنَا إِلاَّ أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا)، فهذا مقام الافتقار إلى الله سبحانه وتعالى في كل شيء، حيث يرى الأسباب كلها، ويرى نفسه ضعيفة، لا تؤثر شيئا إلا أن يجعلها الله كذلك، فإذا اكتمل له ذلك حقق كمال الافتقار إلى الله تعالى، فاستغنى به سبحانه وتعالى، فالغِنى عن الخلق هو عين الافتقار إلى الله تعالى، وهو غنى النفس وغنى القلب بالله عز وجل، كما في الصحيحين: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ «لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ، وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ»
أيها المسلمون
ومن افتقر إلى الله سبحانه وتعالى، فقد اقترب منه، ومن اقترب منه، أغناه الله تعالى، فهو يستغني بالله: بحبه عن حب من سواه، وبالخوف منه عن خوف من سواه، وبالرغبة فيما عنده عن الرغبة فيمن سواه، وبرجائه عن رجاء ما سواه، فيستغني بالله سبحانه وتعالى عن كل من دونه، ويغنيه الله تعالى بركعة أو بسجدة، أو بدعاء، أو بآية من آيات الله يتلوها، وكل ما يقربه إلى الله سبحانه وتعالى، فيستحضر معية الله تعالى في كل وقت، ويستحضر تدبير الله تعالى للكون في كل وقت، وذلك من شدة قربه من الله، فمن علت نفسه، واقترب من الله تعالى، فإنه لا يرى حركة لذرة في الكون، إلا بأمر من الله، قال تعالى: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (يّس:82)، ولا يشهد ملكا إلا ملك الله تعالى، ولا يشهد غنى إلا غنى ربه سبحانه وتعالى، فيشهد كل شيء فقيرا لا يملك ضرا ولا نفعا، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا، قال تعالى: (مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (هود:56). وهذا يدفعه دائما إلى أن يرجو لقاء الله، قال تعالى: (مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (العنكبوت:5). فالافتقار والشوق إلى لقاء الله تعالى، لذة هي أعظم لذات الدنيا وهو رجاء لقاء الله سبحانه وتعالى، وهو الذي يدفع المؤمن ويحدوه إلى السير في الطريق، مهما كانت العقبات.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (الافتقار إلى الله)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
ومن علامات الافتقار إلى الله تعالى: أولاً: غاية الذل لله تعالى مع غاية الحب: فالمؤمن يُسلم نفسه لربه منكسراً بين يديه، متذللاً لعظمته، مقدماً حبَّه سبحانه وتعالى على كل حب. فطمأنينة نفسه، وقرَّة عينه، وسكينة فؤاده، أن يعفِّر جبهته بالأرض، ويدعو ربه رغبة ورهبة، ثانياً: التعلّق باللّه تعالى وبمحبوباته: فشعور العبد بفقره وحاجته إلى ربه عز وجل يدفعه إلى الاستكانة له والإنابة إليه، ويتعلق قلبه بذكره وحمده والثناء عليه، والتزام مرضاته، والامتثال لمحبوباته، ثالثاً: مداومة الذكر والاستغفار: فقلب العبد المؤمن عاكف على ذكر مولاه، والثناء عليه بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى، في كل حال من أحواله، دائم التوبة والاستغفار عن الزلل أو التقصير، فيجد لذته وأنسه بتلاوة القرآن، ويرى راحته وسكينته بمناجاة الرحمن. قال الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ} [الرعد- 28].، رابعاً: الوجل من عدم قبول العمل: فمع شدة إقبال العبد على الطاعات، والتقرب إلى الله بأنواع القربات؛ إلا أنه مشفق على نفسه أشد الإشفاق، يخشى أن يُحرم من القبول، ففي سنن الترمذي: (أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَتْ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ هَذِهِ الآيَةِ (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) [المؤمنون- 60] قَالَتْ عَائِشَةُ أَهُمُ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَيَسْرِقُونَ قَالَ «لاَ يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ وَلَكِنَّهُمُ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ لاَ يُقْبَلَ مِنْهُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ»، خامساً: خشية اللّه في السرَّ والعلن: فالخوف من الله تعالى من أجلّ صفات أهل الإيمان، وخشيته عز وجل في السر والعلن من أعظم آيات الافتقار والفاقة إليه سبحانه، فمن عرف الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، وأدرك عظمته وجبروته، وسلطانه الذي لا يقهر، وعينه التي لا تنام، وقدَّره حق قدره؛ خاف منه حق الخوف، ولهذا قال الله عز وجل: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46]. سادساً: تعظيم الأمر والنهي : فغاية العبودية: التسليم والانقياد محبَّة وتذللاً، فتعظيم الأمر والنهي من تعظيم الله جلَّ وعلا، قال الله تعالى: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القُلُوبِ} [الحج- 32]. وتعظيم الأمر والنهي يعني: الوقوف عند حدود النصوص الشرعية، والالتزام الصادق بمقتضاياتها ودلائلها، والعض عليها بالنواجذ، فأَمْر الله عز وجل وأَمْر رسوله صلى الله عليه وسلم حقه الإجلال والامتثال.
الدعاء