خطبة عن (قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ)
يوليو 16, 2025الخطبة الأولى (الاِسْتِعَانَةُ بِاللَّهِ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (2): (5) الفاتحة. وفي سنن الترمذي: (قَالَ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ».
إخوة الإسلام
(الاِسْتِعَانَةُ بِاللَّهِ) عز وجل- من أعظم واجبات الإيمان، وأفضل الأعمال المقربة للرحمن؛ فإن الأمور كلها لا تحصل، ولا تتم إلا بالاستعانة بالله، ولا عاصم للعبد سوى الاعتماد على الله -تعالى- في جميع أموره. فبالاستعانة بالله يستغني المسلم عن الاستعانة بالخلق، فكمال غنى العبد في تعلقه بربه، ومن ترك الاستعانة بالله، واستعان بغيره، وكله الله إلى من استعان به، فصار مخذولاً، وفي مسند أحمد: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «مَنْ تَعَلَّقَ شَيْئاً وُكِلَ إِلَيْهِ». فمن اعتَمد على مالِه قل، ومن اعتمَد على النَّاس ملّ، ومن اعتمد على عقلِه ضلّ، ومن اعتَمد على جاهِه ذل، ومن اعتمَد على الله لا قَل ولا مَل ولا ضلّ ولا ذلّ.
والاستعانة بالله تعني: طلب العون من الله، والاعتماد عليه سبحانه وتعالى في تحقيق الأمور، والوصول إلى المقصود، وطلب العون منه سبحانه في كل ما يحتاجه الإنسان، سواء في الأمور الدنيوية أو الدينية، فالاستعانة تتضمن: اللجوء إليه وحده، واليقين بأنه القادر على كل شيء،
وقد ذكر الله في كتابه العزيز الاستعانة بعد العبادة؛ (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ): لأن الاستعانة فرعُ الإقرار بعبودية الله سبحانه وتعالى، فإن من أقرَّ بأن الله هو المعبود، طلبَ العون منه وحده؛ لأن المعبود هو الكامل في أوصافه، ولأنه لا يمكن أداء العبادة على وجهها الصحيح، دون الاستعانة بالله سبحانه وتعالى، ولهذا كان معنى قوله تعالى: ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾؛ أي: نفردك بالاستعانة بك دون خلقك، فلا يُعْبَدُ إلا الله، ولا يُستعان إلا به جل وعلا؛ وقد أَمَرَنا النبيُ صلى الله عليه وسلم بالاستعانة بالله تعالى، ففي سنن الترمذي: (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمًا فَقَالَ «يَا غُلاَمُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ ..». فحصر الاستعانة بالله وحده دون غيره، وفي صحيح مسلم: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «الْمُؤْمِنُ الْقَوِىُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِى كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلاَ تَعْجِزْ)، وفي صحيح مسلم: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا ثُمَّ قَالَ «اغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ .. وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلاَثِ خِصَالٍ – أَوْ خِلاَلٍ – فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلاَمِ فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ .. فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ).
ومن المعلوم أن الاستعانة بالله جل وعلا تتضمن ثلاثة معاني: الأول: كمال الخضوع والتذلل لله تعالى. والثاني: الثقة بالله جل وعلا، واعتقاد كفايته. والثالث: الاعتماد على الله سبحانه وتعالى، وتفويض الأمر إليه، وهذه لا تكون إلا لله جل وعلا، فمن استعان بغير الله محققًا هذه المعاني الثلاثة، فقد أشرك مع الله غيره، وقد أمر الأنبياءُ والرسل أقوامهم بالاستعانة بالله وحده، قال تعالى: (قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [الأعراف: 128]، وأمرنا النبي -صلى الله عليه وسلم- بالاستعانة بالله وحده فقال -عليه الصلاة والسلام-: “إذا استعنت فاستعن بالله” (رواه الترمذي).
أيها المسلمون
والمؤمن الذي يريد أن يرتقي في شرف منازل الآخرة، لا يستطيع أن يرتقي، إلا بعد عون الله له، وتوفيقه إياه، فالله سبحانه هو المستعان على الحقيقة، دون غيره من الخلق؛ لأن العبد عاجز عن الاستقلال بجلب مصالحه، ودفع مضاره، ولا معين له على مصالح دينه ودنياه إلا الله سبحانه، وحاجة العبد إلى الاستعانة بالله سبحانه لا تعدلها حاجة، بل هو مفتقر إليه في جميع حالاته وأحواله؛ فهو محتاج إلى الهداية، والإعانة عليها، ومحتاج إلى تثبيت قلبه على الحق، ومحتاج إلى مغفرة ذنوبه، وستر عيوبه، وحفظه من الشرور والآفات، ومحتاج إلى قيام مصالحه، وهذا أمر تكرر في القرآن، ومن ذلك قوله تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) يونس (107)، قال ابن رجب: “فالعبد محتاج إلى الاستعانة بالله في فعل المأمورات، وترك المحظورات، والصبر على المقدورات كلها، في الدنيا، وعند الموت، وبعده من أهوال البرزخ، ويوم القيامة، ولا يقدر على الإعانة على ذلك إلا الله عز وجل، فمن حقَّق الاستعانة عليه في ذلك كله أعانه، ومن ترك الاستعانة بالله، واستعان بغيره، وكِلَه الله إلى من استعان به، فصار مخذولاً؛ لأن العبد عاجز عن الاستقلال بجلب مصالحه، ودفع مضاره، ولا معين له على مصالح دينه ودنياه إلا الله عز وجل، فمن أعانه الله، فهو المعان، ومن خذله فهو المخذول”.
ومن الملاحظ أن الاستعانة أنواع: النوع الأول: الاستعانة بالله، وهي الاستعانة المتضمنة كمال الذل من العبد لربه، مع الثقة به والاعتماد عليه، وهذه لا تكون إلا لله، النوع الثاني: الاستعانة بالمخلوق على أمر يقدر عليه، فهذه إن كانت على بر وخير فهي جائزة، والمعين مثاب لأنه إحسان، قال تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى) [المائدة:2]، وإن كانت على إثم فهي حرام، قال تعالى: (وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) [المائدة:2] النوع الثالث: الاستعانة بالأموات ،أو بالأحياء على أمر غائب لا يقدرون عليه، فهذا شرك؛ لأنه إذا استعان بالميت أو بحي على أمر بعيد غائب عنه لا يقدر عليه؛ فهذا يدل على أنه يعتقد أن لهؤلاء تصرفاً في الكون وأن مع الله مدبراً.
ومن صور الاستعانة المشروعة: الاستعانة بالله على مواجهة الظالمين، وقد اشتمل القرآن على نماذج عديدة من الاستعانة بالله على مواجهة الظالمين، ومنها: ما أرشد إليه موسى عليه السلام قومه في مواجهتهم مع فرعون وقومه: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (الأعراف:128).
ومنها ما ذكره ربنا عن نبينا صلى الله عليه وسلم في دعوته قريشاً: {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111) قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} الانبياء: (108): (112)،
فعقيدة المؤمن الصادق في إيمانه في مواجهة الظالمين، تقوم على أمرين اثنين: تفويض الأمر إلى الله، وتوقع الفرج منه سبحانه، والاستعانة به على مواجهة الظالمين.
ومن الاستعانة المشروعة: الاستعانة بالأعمال الصالحة، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (البقرة:153)، فالصبر والصلاة هما الزاد الذي يمد المؤمن بالقوة التي تعينه على احتمال تكاليف الدين والدنيا. وهناك أمور تتأكد عندها أهمية الاستعانة؛ منها: حين يتعرض المؤمن للبلاء، وعند مواجهة الفتن الكثيرة، وعند مواجهة شبهات الأعداء.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (الاِسْتِعَانَةُ بِاللَّهِ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
والاستعانة لها آثار عظيمة على الفرد والمجتمع، وهذه الآثار لا حصر لها، ومن أهمها: أنها مظهر من مظاهر عبادته سبحانه وتوحيده. ومنها: أن لزوم الاستعانة سبيل السعادة الأبدية. وبها يحصل صلاح قلب العبد وسدِّ حاجته الروحية. ومنها: أنها تجعل الفرد المسلم وثيق الصلة بربه؛ يجيبه إذا دعاه، ويفرج كربه إذا نزل به كرب، ويغفر ذنبه. ومنها: أنه بالاستعانة يواجه العبد الأخطار المحدقة به. وهي تمنح العبد الشعور بالقوة؛ لأن لا يوجه مصاعب الحياة بمفرده، بل معه ربه سبحانه. وتنزع من العبد شعور العجز من نفسه. ومنها: أن الاستعانة بالله سبب محبة الله عبده ورضاه عنه. ومنها: أنها تذلل الصعاب، وتقوي المرء مع إخوانه على ما لا يستطيعه بمفرده. ومنها: أن الاستعانة المباحة تزيل الضغائن والحقد الحسد من القلوب، وأنها تحقق بين أفراد المجتمع معاني الأخوة الإنسانية.
الدعاء