خطبة عن حديث (أَقْرَبِكُمْ مِنِّى مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلاَقًا)
مارس 22, 2017خطبة عن ( الخوف والخشية من الله وعلاماتها)
مارس 22, 2017الخطبة الأولى ( البكاء من خشية الله )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته : (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ) (107): (109) الاسراء ، وروى الترمذي ” عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ ،قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « لاَ يَلِجُ النَّارَ رَجُلٌ بَكَى مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ حَتَّى يَعُودَ اللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ وَلاَ يَجْتَمِعُ غُبَارٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَدُخَانُ جَهَنَّمَ »
إخوة الاسلام
البكاءُ فطرةٌ بشريّةٌ ، وهو فعل غريزي ، لا يملك الإنسان دفعه أو منعه، وهو صفة من صفات البشر للتعبير عن المشاعر والأحاسيس قال الله تعالى : { وأنّه هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى } [ النجم / 43 ] والبكاء أنواع ذكر العلماء منها :
بكاء الخوف والخشية من الله . وبكاء الرحمة والرقة . وبكاء المحبة والشوق . وبكاء الفرح والسرور . وبكاء الجزع من الألم وعدم احتماله . و بكاء الحزن ،والبكاء من خشية الله تعالى هو أصدق بكاء تردده النفوس ، وأقوى مترجم عن القلوب الوجلة الخائفة . لذا سوف يكون حديثي معكم اليوم -إن شاء الله- عن البكاء من خشية الله جعلني الله وإياكم ممن دمعت عيونهم من خشية الله ووجلت قلوبهم من عظمة الله وذلك امتثالا لقوله تعالي: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ) الحديد 16 ، وسوف نتعرف اليوم إن شاء الله علي : ( أسباب البكاء من خشية الله ، وموانعه ، وطرق تحصيله و فضله وجزاء البكائين من خشية الله )
أيها المسلمون
البكاء من خشية الله علامة من علامات الإيمان ،وصفة من صفات المؤمنين الأطهار ،وهذا هو رسول الله صلي الله عليه وسلم يبكي خشية من ربه ،فقد روى البخاري ومسلم : ( عن ابن مَسعودٍ – رضي اللَّه عنه – قالَ : قال لي النبيُّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم : ” اقْرَأْ علَّي القُرآنَ ” قلتُ : يا رسُولَ اللَّه ، أَقْرَأُ عَلَيْكَ ، وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ ؟ ، قالَ : ” إِني أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي ” فقرَأْتُ عليه سورَةَ النِّساء ، حتى جِئْتُ إلى هذِهِ الآية : { فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّة بِشَهيد وِجئْنا بِكَ عَلى هَؤلاءِ شَهِيداً } [ النساء / 40 ] قال ” حَسْبُكَ الآن ” فَالْتَفَتَّ إِليْهِ ، فَإِذَا عِيْناهُ تَذْرِفانِ ) ، كما روى أحمد والنسائي : (عَن عبد اللَّه بنِ الشِّخِّير – رضي اللَّه عنه – قال : أَتَيْتُ رسُولَ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم وَهُو يُصلِّي ولجوْفِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ المرْجَلِ مِنَ البُكَاءِ ) والمِرْجل :هو القِدر الذي يغلي فيه الماء . وروى ابن حبان عن عبيد بن عمير رحمه الله : ” أنه قال لعائشة – رضي الله عنها – : أخبرينا بأعجب شيء رأيتيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : فسكتت ثم قالت : لما كانت ليلة من الليالي . قال : ” يا عائشة ذريني أتعبد الليلة لربي ” .قلت : والله إني أحب قُربك ، وأحب ما يسرك .قالت : فقام فتطهر ، ثم قام يصلي .قالت : فم يزل يبكي ، حتى بل حِجرهُ ! قالت : وكان جالساً فلم يزل يبكي صلى الله عليه وسلم حتى بل لحيته ! قالت : ثم بكى حتى بل الأرض ! فجاء بلال يؤذنه بالصلاة ، فلما رآه يبكي ، قال : يا رسول الله تبكي ، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟! قال : ” أفلا أكون عبداً شكورا ؟! لقد أنزلت علي الليلة آية ، ويل لم قرأها ولم يتفكر فيها ! { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ … } الآية [ آل عمران / 190 ] ” رواه ابن حبان وغيره ، وصححه الشيخ الألباني ، وكما بكي رسول الله صلي الله عليه خشية من ربه ،فقد بكي أيضا صلي الله عليه وسلم شفقة على أمته .فقد روى مسلم .( عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- تَلاَ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي إِبْرَاهِيمَ ( رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّى) الآيَةَ. وَقَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ ( إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ « اللَّهُمَّ أُمَّتِى أُمَّتِي » وَبَكَى ، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ فَسَلْهُ مَا يُبْكِيكَ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ – عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ – فَسَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِمَا قَالَ. وَهُوَ أَعْلَمُ. فَقَالَ اللَّهُ يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ فَقُلْ إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِي أُمَّتِكَ وَلاَ نَسُوءُكَ) ، وكما بكي رسول الله صلي الله عليه وسلم فقد بكي أصحابه أيضا ، فقد روى البخاري : (عَنْ أَنَسٍ – رضى الله عنه – قَالَ خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – خُطْبَةً مَا سَمِعْتُ مِثْلَهَا قَطُّ ، قَالَ « لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا » . قَالَ فَغَطَّى أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – وُجُوهَهُمْ لَهُمْ خَنِينٌ ) ، وفي رواية مسلم (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ أَصْحَابِهِ شَىْءٌ فَخَطَبَ فَقَالَ « عُرِضَتْ عَلَىَّ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ فِى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَلَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا ».
قَالَ فَمَا أَتَى عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمٌ أَشَدُّ مِنْهُ – قَالَ – غَطَّوْا رُءُوسَهُمْ وَلَهُمْ خَنِينٌ ” والخنين : هو البكاء مع غنّة . وفي مسند أحمد : (عَنِ الْحَسَنِ قَالَ لَمَّا احْتُضِرَ سَلْمَانُ بَكَى وَقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَهِدَ إِلَيْنَا عَهْداً فَتَرَكْنَا مَا عَهِدَ إِلَيْنَا أَنْ يَكُونَ بُلْغَةُ أَحَدِنَا مِنَ الدُّنْيَا كَزَادِ الرَّاكِبِ. قَالَ ثُمَّ نَظَرْنَا فِيمَا تَرَكَ فَإِذَا قِيمَةُ مَا تَرَكَ بِضْعَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَماً أَوْ بِضْعَةٌ وَثَلاَثُونَ دِرْهَماً ) – وفي سنن الترمذي : (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بَحِيرٍ أَنَّهُ سَمِعَ هَانِئًا مَوْلَى عُثْمَانَ قَالَ كَانَ عُثْمَانُ إِذَا وَقَفَ عَلَى قَبْرٍ بَكَى حَتَّى يَبُلَّ لِحْيَتَهُ فَقِيلَ لَهُ تُذْكَرُ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ فَلاَ تَبْكِى وَتَبْكِى مِنْ هَذَا فَقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « إِنَّ الْقَبْرَ أَوَّلُ مَنَازِلِ الآخِرَةِ فَإِنْ نَجَا مِنْهُ فَمَا بَعْدَهُ أَيْسَرُ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ يَنْجُ مِنْهُ فَمَا بَعْدَهُ أَشَدُّ مِنْهُ ». قَالَ وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَا رَأَيْتُ مَنْظَرًا قَطُّ إِلاَّ وَالْقَبْرُ أَفْظَعُ مِنْهُ » رواه أحمد ، والترمذي ، وحسنه الشيخ الألباني ، وبكى معاذ رضي الله عنه بكاء شديدا فقيل له ما يبكيك ؟ قال : لأن الله عز وجل قبض قبضتين واحدة في الجنة والأخرى في النار ، فأنا لا أدري من أي الفريقين أكون . وبكى الحسن فقيل له : ما يبكيك ؟ قال : أخاف أن يطرحني الله غداً في النار ولا يبالي . وقال مسروق رحمه الله : ” قرأت على عائشة هذه الآيات : { فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ } [ الطور / 27 ] فبكت ، وقالت ” ربِّ مُنَّ وقني عذاب السموم ” . وبكى أبو هريرة رضي الله عنه في مرضه . فقيل له : ما يبكيك ؟! فقال : ” أما إني لا أبكي على دنياكم هذه ، ولكن أبكي على بُعد سفري ، وقلة زادي ، وإني أمسيت في صعود على جنة أو نار ، لا أدري إلى أيتهما يؤخذ بي !! ” .
ايها الموحدون
هكذا كان الرسول صلي الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم كثيري البكاء من خشية الله ،ونحن اليوم ،صبحنا نعاني من جفاف العين ،وقلة البكاء من خشية الله، وحسبنا هذا التهديد الإلهي المخيف، قال تعالى: (فَوَيْلٌ لّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ) [الزمر:22]. وحسبنا ما ذكره علي رضي الله عنه في وصف الصحابة الكرام، فقد جاء في ترجمته رضي الله عنه كأنه صلى صلاة الفجر وجلس حزيناً مطرقاً، فلما طلعت الشمس قبض على لحيته وجعل يبكي ويقول: (لقد رأيت أصحاب محمد، فما رأيت شيئاً يشبههم، كانوا يصبحون شعثاً غبراً صفراً، بين أعينهم كأمثال ركب المعزى قد باتوا لله سجداً وقياماً يراوحون بين جباههم وأقدامهم، فإذا طلع الفجر ذكروا الله فمادوا كما يميد الشجر في يوم الريح وهطلت أعينهم بالدموع، والله لكأن القوم باتوا غافلين! وما رؤي رضي الله عنه بعد ذلك متبسماً حتى لحق بربه!
أيها المسلمون
هكذا تبين لنا أن البكاء من خشية الله صفة من صفات المؤمنين ،وهو علامة من علامات خشوع القلب ، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه يبكون من خشية الله ، أما نحن – المسلمين – اليوم فقد جفت عيوننا ، وقست قلوبنا ،فقليلا ما ترى باكيا ، أو خاشعا ،والسؤال الذي يطرح نفسه : ماهي الأسباب التي أدت إلى قسوة القلب ، وجفاف العين، وقلة البكاء من خشية الله ؟ فأقول مستعينا بالله : أولا :العين تتبع القلب ، فإذا رق القلب وخشع ، دمعت العين ، وإذا قسى القلب قحطت العين ، ، وأبعد القلوب من الله هو القلب القاسي ” لذلك كان كثير من السلف يحب أن يكون من البكائين ، ويفضلون البكاء من خشية الله على بعض الطاعات ، كما قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : ” لأن أدمع من خشية الله أحب إليَّ من أن أتصدق بألف دينار ” . وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ من القلب الذي لا يخشع فيقول كما في صحيح مسلم (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لاَ يَنْفَعُ وَمِنْ قَلْبٍ لاَ يَخْشَعُ وَمِنْ نَفْسٍ لاَ تَشْبَعُ وَمِنْ دَعْوَةٍ لاَ يُسْتَجَابُ لَهَا ». ولقسوة القلوب أسبابها ، – فمن أسباب قسوة القلوب : 1. كثرة الكلام . 2. ومن أسباب قسوة القلب : نقض العهد مع الله تعالى بفعل المعاصي وترك الواجبات من الطاعات. 3. ومن أسباب قسوة القلب : كثرة الضحك .كما قال صلي الله عليه وسلم :” وَلاَ تُكْثِرِ الضَّحِكَ فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ ». ” رواه أحمد وغيره ، ومرَّ الحسن البصري بشاب وهو مستغرق في ضحكه ، وهو جالس مع قوم في مجلس . فقال له الحسن : يا فتى هل مررت بالصراط ؟! قال : لا ! قال : فهل تدري إلى الجنة تصير أم إلا النار ؟! قال : لا ! قال : فما هذا الضحك ؟! فما رؤُي الفتى بعدها ضاحكاً . وكان الحسن يقول : يحق لمن يعلم : أن الموتَ موردُه ، وأن الساعةَ موعدُه ، والقيام بين يدي الله تعالى مشهدُه : يحق له أن يطول حزنُه . 4. ومن أسباب قسوة القلب : كثرة الأكل .قال بشر بن الحارث : خصلتان تقسيان القلب : كثرة الكلام ، وكثرة الأكل ، 5. ومن أسباب قسوة القلب : كثرة الذنوب . قال صلى الله عليه وسلم : ” عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَذْنَبَ كَانَتْ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فِى قَلْبِهِ فَإِنْ تَابَ وَنَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ صُقِلَ قَلْبُهُ وَإِنْ زَادَ زَادَتْ حَتَّى يَعْلُوَ قَلْبَهُ ذَاكَ الرَّيْنُ الَّذِى ذَكَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِى الْقُرْآنِ( كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ» [ المطففين / 14 ] . رواه أحمد وحسنه الشيخ الألباني . (وعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا النَّجَاةُ قَالَ « أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ » ” أخرجه الترمذي حديث حسن ، وصححه الألباني ، 6. ومن أسباب قسوة القلب : صحبة السوء .فكما في البخاري وغيره ( عَنْ أَبِى مُوسَى – رضى الله عنه – عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ « مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالسَّوْءِ كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِيرِ ، فَحَامِلُ الْمِسْكِ إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ ، وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً ، وَنَافِخُ الْكِيرِ إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً » ، هذه هي بعض الأسباب التي يقسو بها القلب وتجف بها دمعة العين ، فما هو العلاج ؟ وماهي الاسباب التي يلين بها القلب ،وتدمع العين من خشية الله تعالي؟ ، من الأسباب المعينة على لين القلوب ، والخوف والبكاء من خشية الله : 1- معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته وأفعاله . فمن عرف الله خافه ورجاه ، ومن خافه ورجاه رق قلبه ودمعت عينه ، ومن جهل ربه قسى قلبه وقحطت عينه . وأول مقامات الإيمان : الحب ، فإذا أحببت الله دعاك حبُّه للبكاء شوقاً له، والخوف منه ، فإذا خفت منه دعاك خوفُه للبكاء من خشيته وعقابه والرجاء، فإذا رجوته دعاك رجاؤه للبكاء طمعاً في رضوانه وثوابه ، وكل أولئك تدعو المسلم للبكاء . قال أبو سليمان الداراني : لكل شيء علَم وعلَم الخُذلان : ترك البكاء من خشية الله . فإذا خذل الله العبد : سلبه هذه الخصلة المباركة ، وصار شقيّاً قاسي القلب وجامد العين . 2- ومن الأسباب المعينة على البكاء من خشية الله : قراءة القرآن الكريم وتدبر آياته .قال الله تعالى – في وصف عباده العلماء الصالحين – : { إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلاْذْقَانِ سُجَّدًا . وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبّنَا لَمَفْعُولاً . وَيَخِرُّونَ لِلاْذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا } [ الإسراء :107-109 ] . وقال القرطبي : هذا مدح لهم , وحق لكل من توسم بالعلم , وحصل منه شيئا أن يجري إلى هذه المرتبة , فيخشع عند استماع القرآن ويتواضع ويذل . وقد وردت آيات عدة في القرآن الكريم تصف حال المؤمنين عند سماعهم القرآن الكريم ،كقولُه تعالى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آَدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا } [ مريم / 58 ] .
وقوله تعالى{ هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى . أَزِفَتِ الْآَزِفَةُ . لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ . أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ . وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ . وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا } [ الذاريات / 56 – 62 ] . و(قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ سَمِعْتُ نَشِيجَ عُمَرَ وَأَنَا فِى آخِرِ الصُّفُوفِ يَقْرَأُ ( إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّى وَحُزْنِى إِلَى اللَّهِ ) يوسف / 86 ] .رواه البخاري معلقاً ، والنشيج : رفع الصوت بالبكاء . وعن تميم الداري رضي الله عنه أنه قرأ هذه الآية : { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } [ الجاثية / 21 ] فجعل يرددها إلى الصباح ويبكي . وقرأ ابن عمر رضي الله عنهما : { وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ } [ سورة المطففين / 1 ] فلما بلغ : { يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } [ سورة المطففين / 6 ] بكى حتى خرَّ وامتنع عن قراءة ما بعده . وقال مسروق رحمه الله : قرأتُ على عائشة هذه الآيات : { فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ } [ الطور / 27 ] فبكت ، وقالت : ” ربِّ مُنَّ وقني عذاب السموم ” .
وهكذا كان حال من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين . وقرأ رجلُ عند عمر بن عبد العزيز – وهو أمير على المدينة – قوله تعالى :{ وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً } [ الفرقان / 13 ] فبكى حتى غلبه البكاء ، وعلا نشيجه ! فقام من مجلسه ، فدخل بيته ، وتفرَّق الناس .
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( البكاء من خشية الله )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
ومن الأسباب المعينة على البكاء من خشية الله أكل الحلال . فقد سئل بعض الصالحين : بم تلين القلوب ؟ قال : بأكل الحلال . ومن الأسباب المعينة على البكاء من خشية الله: الابتعاد عن المعاصي . قال مكحول رحمه الله : ” أرقُّ الناس قلوباً أقلهم ذنوباً ” . ومن الأسباب المعينة على البكاء من خشية الله :سماع المواعظ . وقد كانت الخطبة المؤثرة والموعظة البليغة مما يوجل قلوب الصحابة ويُذرف دمع عيونهم . فقد روى الترمذي بسند حسن (عَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ قَالَ وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمًا بَعْدَ صَلاَةِ الْغَدَاةِ مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ ) ، ومن الأسباب المعينة على البكاء من خشية الله: تذكر القيامة وقلة الزاد والخوف من الله . فقد بكى أبو هريرة رضي الله عنه في مرضه ، فقيل له : ما يبكيك ؟ فقال : ” أما إني لا أبكي على دنياكم هذه ، ولكن أبكي على بُعد سفري ، وقلة زادي ، وإني أمسيت في صعود على جنة أو نار ، لا أدري إلى أيتهما يؤخذ بي ” . وقال الألبيري – رحمه الله – :
ولا تضحكْ مع السفهاءِ يوماً فإنّك سوف تبكي إن ضحكتا !
ومَن لك بالسرور وأنتَ رهنٌ؟ وما تدري أتُفْدى ؟ أم غُلِلْتا ؟!
ولو بكت الدّما عيناك خوفاً ! لذنبك لم أقل لك قد أمِنْتا !
ومَن لك بالأمان وأنتَ عبدٌ أُمِرْتَ فما ائتمرتَ ولا أطَعْتا!
ومن الأسباب المعينة على البكاء من خشية الله :التفكر عند رؤية ما يُعتبَر كرؤية النار في الدنيا .فعن مغيرة بن سعد بن الأخرم قال : ما خرج عبد الله بن مسعود إلى السوق فمر على الحدادين فرأى ما يخرجون من النار إلا جعلت عيناه تسيلان . فالمسلم أعرف أهل الأرض بربه تعالى ، فالواجب عليه أن يكون حاله لا كحال الآخرين ، فهو يعتبر ويتعظ بما يقرؤه ويسمعه من الآيات والمواعظ ، والقلب الخائف يثمر عيناً دامعة رجاء بلوغ رحمة الله تعالى ودخول الجنة ، تحقيقاً لوعد الله تعالى ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” « عَيْنَانِ لاَ تَمَسُّهُمَا النَّارُ عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ». ” رواه الترمذي ، ومن الأسباب المعينة على البكاء من خشية الله : الدعاء .
وقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من القلب الذي لا يخشع ، وقد سبق ذِكر اتصال العين بالقلب .
أيها المسلمون
فما جزاء من بكي من خشية الله؟؟ ، أولها أن يظله الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله ،فقد روى البخاري في صحيحه : ( قالَ رسُولُ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم : ” سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ في ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إلا ظلُّهُ : إِمامٌ عادِلٌ ، وشابٌّ نَشَأَ في عِبَادَةِ اللَّه تَعالى ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّق بالمَسَاجِدِ ، وَرَجُلانِ تَحَابَّا في اللَّه ، اجتَمَعا عَلَيهِ وتَفَرَّقَا عَلَيهِ ، وَرَجَلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمالٍ ، فَقَالَ : إِنّي أَخافُ اللَّه ، ورَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةَ فأَخْفاها حتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمالهُ ما تُنْفِقُ يَمِينهُ ، ورَجُلٌ ذَكَرَ اللَّه خالِياً فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ ” . ومن دمعت عينه من خشية الله :تحرم عينه وجسده علي النار ، فقد روى الترمذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” « عَيْنَانِ لاَ تَمَسُّهُمَا النَّارُ عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ». وفي سنن النسائي (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا يَلِجُ النَّارَ رَجُلٌ بَكَى مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى يَعُودَ اللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ ) ، ومن بكى من خشية الله : يحبه الله ويقربه إليه ، ففي سنن الترمذي : ( عَنْ أَبِى أُمَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « لَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ مِنْ قَطْرَتَيْنِ وَأَثَرَيْنِ قَطْرَةٌ مِنْ دُمُوعٍ فِي خَشْيَةِ اللَّهِ وَقَطْرَةُ دَمٍ تُهَرَاقُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَأَمَّا الأَثَرَانِ فَأَثَرٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأَثَرٌ فِي فَرِيضَةٍ مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ »
الدعاء