خطبة عن (يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ)
نوفمبر 4, 2024خطبة حول حديث (تَغْزُونَ جَزِيرَةَ الْعَرَبِ فَيَفْتَحُهَا اللَّهُ)
نوفمبر 9, 2024الخطبة الأولى (البَخْسُ فِي الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
قال الله تعالى: (وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ) (7): (9) الرحمن، وقال تعالى: (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) الأعراف (85)، وقال تعالى: (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيَاقَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) (84)، (85) هود،
إخوة الإسلام
لقد أرسل الله رسله، وأنزل معهم ميزان العدل؛ ليقوم الناس بالقسط، وما ذلك إلا لأهميته، قال تعالى: “لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ” [الحديد:25]. ومن القسط والعدل: أداء الحقوق كاملة؛ فيؤدي العبد ما أوجب الله عليه من الحقوق المالية، والبدنية، والمركبة منهما، في حقِّه، وحقِّ عباده، ويعامل الخلق بالعدل التام ،ومن العدل في المعاملات: أن تعاملهم في عقود البيع والشراء، وسائر المعاوضات، بإيفاء جميع ما عليك، فلا تبخس لهم حقًّا، ولا تغشهم، ولا تخدعهم وتظلمهم، فالعدل واجب، والإحسان فضيلة مستحبة، لذا، فقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم التجار من الغش والخداع، وبخس الكيل والميزان، ففي سنن الترمذي: (عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ رِفَاعَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى الْمُصَلَّى فَرَأَى النَّاسَ يَتَبَايَعُونَ فَقَالَ «يَا مَعْشَرَ التُّجَّارِ». فَاسْتَجَابُوا لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَرَفَعُوا أَعْنَاقَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ إِلَيْهِ فَقَالَ «إِنَّ التُّجَّارَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فُجَّارًا إِلاَّ مَنِ اتَّقَى اللَّهَ وَبَرَّ وَصَدَقَ». ويقول صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا»،
ولهذا كان نقص الكيل وبخس الميزان، من الأمور التي نهى عنها الشارع، وجعلها نوعًا من الإفساد في الأرض، والذي ينقص الكيل ويبخس الميزان، يأتي يوم القيامة مفلسًا، فينقص من ميزان حسناته، ويوضع في ميزان الناس، فيتمنى ساعتها لو زاد الكيل للناس، ولا يأخذون منه شيئًا، في وقت يكون المرء فيه أحوج ما يكون إلى حسنة تنجيه من عذاب الله تعالى، وقد ثبت في آيات الكتاب، والسنة المطهرة، النهي عن الغش في الكيل والبخس في الميزان، فقال تعالى: (أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) (181): (183) الشعراء، ولا شكَّ أن نقص الكيل، وبخس الميزان، من الفساد في الأرض؛ ففيه أكل أموال الناس بالباطل، وقد قال الله تعالى: (ولا تَأكلُوا أمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالبَاطِل) البقرة: 188،
ومن المعلوم أنه كان أساس دعوة نبي الله شعيب ـ عليه السلام ـ بعد الدعوة إلا عبادة الله عز وجل ـ هو الدعوة إلى الوفاء بالكيل والميزان، فقال تعالى: (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيَاقَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) (84)، (85) هود، وقال تعالى: (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) الأعراف (85)، وللبخس أسباب تتمثل في: ضعف الوازع الديني والحرص على جمع المال.
أيها المسلمون
وقد توعَّد الله ـ عزَّ وجلَّ ـ الذين يجُورون في الكيلِ والميزان، فقال تعالى: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) (1): (3) المطففين، ولما توعد الله تعالى المطففين، تعجب من حالهم، وإقامتهم على ما هم عليه ،فقال تعالى: (أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) (4): (6) المطففين، فالذي جرأهم على التطفيف هو عدم إيمانهم باليوم الآخر، وإلا فلو آمنوا به، وعرفوا أنهم يقومون بين يدى الله، يحاسبهم على القليل والكثير، لأقلعوا عن ذلك وتابوا منه، وفي موطإ الإمام مالك: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ مَا ظَهَرَ الْغُلُولُ فِي قَوْمٍ قَطُّ إِلاَّ أُلْقِىَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبُ وَلاَ فَشَا الزِّنَا فِي قَوْمٍ قَطُّ إِلاَّ كَثُرَ فِيهِمُ الْمَوْتُ وَلاَ نَقَصَ قَوْمٌ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلاَّ قُطِعَ عَنْهُمُ الرِّزْقُ وَلاَ حَكَمَ قَوْمٌ بِغَيْرِ الْحَقِّ إِلاَّ فَشَا فِيهِمُ الدَّمُ وَلاَ خَتَرَ قَوْمٌ بِالْعَهْدِ إِلاَّ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْعَدُوَّ)،
فبخس الكيل والميزان كبيرة من كبائر الذنوب، ولشدة حرمته فقد أفرد الله سبحانه سورة سماها سورة المطففين، وابتدأها بقوله تعالى: ﴿وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ﴾، وقال تعالى: ﴿فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ الاعراف:85، وفي صحيح مسلم: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَرَّ عَلَى صُبْرَةِ طَعَامٍ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلاً فَقَالَ «مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ». قَالَ أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ «أَفَلاَ جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ كَيْ يَرَاهُ النَّاسُ مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي» ، وفي صحيح ابن حبان: (قال عبد الله :إذا بخس الميزان حبس القطر، وإذا كثر الزنا كثر القتل، ووقع الطاعون، وإذا كثر الكذب كثر الهرج)،
والغش والتدليس والخداع يؤدي إلى أكلً أموال الناس بغير حق، وهي كذلك سببٌ في ضياع الذمم، وانعدام الثقة، وإشاعة البغضاء، وقد أوضح رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، ففي الصحيحين: (عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ – رضى الله عنه – عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا – أَوْ قَالَ حَتَّى يَتَفَرَّقَا – فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَتَمَا وَكَذَبَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا»، وفي سنن ابن ماجه: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ «يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلاَّ فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلاَفِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا. وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلاَّ أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمَؤُنَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ. وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلاَّ مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ وَلَوْلاَ الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ. وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلاَّ جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ ».
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (بَخْسُ الْمِيزَانِ)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
والغش في البيع والشراء صورة من صور بخس الكيل والميزان، وكسب المال الحرام، وأكل أموال الناس بالباطل، ومن صور الغِشُّ في البَيعِ والشِّراءِ وغَيرِهما من المعامَلاتِ الماليَّةِ: كأن يحصُلَ الشَّخصُ على المالِ بطُرُقٍ مُحَرَّمةٍ؛ إمَّا عن طريقِ الكَذِبِ، أو كتمانِ عَيبِ السِّلعةِ، أو البَخسِ في ثَمَنِها، أو التَّطفيفِ في وَزنِها، أو خَلطِ الجَيِّدِ بالرَّديءِ، وغيرِها من الطُّرُقِ المحَرَّمةِ؛ قال ابن حجر الهيتمي مُبَيِّنًا هذا النَّوعَ من الغِشِّ في البَيعِ والشِّراءِ: (الغِشُّ المحرَّمُ أن يعلَمَ ذو السِّلعةِ مِن نحوِ بائِعٍ أو مشترٍ، فيها شيئًا لو اطَّلع عليه مريدُ أخْذِها ما أخَذَها بذلك المقابِلِ)
ومن صور الغش: التَّصريةُ، وهي: جمعُ اللَّبَنِ في الضَّرعِ عِندَ إرادةِ بَيعِها حتَّى يَعظُمَ ضَرعُها؛ ليوهِمَ مشتريَها أنَّها تَحلُبُ مِثلَ ذلك، وأنَّ كثرةَ لَبَنِها عادةٌ لها مستمرَّةٌ، وفي صحيح مسلم: (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «لاَ يُتَلَقَّى الرُّكْبَانُ لِبَيْعٍ وَلاَ يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ وَلاَ تَنَاجَشُوا وَلاَ يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ وَلاَ تُصَرُّوا الإِبِلَ وَالْغَنَمَ فَمَنِ ابْتَاعَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْلُبَهَا فَإِنْ رَضِيَهَا أَمْسَكَهَا وَإِنْ سَخِطَهَا رَدَّهَا وَصَاعًا مِنْ تَمْرٍ»، ومن صور الغش: حَقنُ الحيواناتِ لتَسمينِها بإبَرٍ تحتوي على هُرموناتٍ تُسَبِّبُ ضَرَرًا سواءٌ للحيوانِ أو للإنسانِ الذي سيتناوَلُها، ومن ذلك أنَّ بعضَ البائعينَ يُعطي الأغنامَ ماءً ومِلحًا حتَّى تنتَفِخَ، فيُوهِمَ المشتريَ بكثرةِ لَحمِها وكِبَرِ حَجمِها. ومن صور الغش: عَدَمُ الوفاءِ بالعُقودِ: كالعقودِ التي تُبرَمُ في الإنشاءاتِ والمقاوَلاتِ، وغيرِها من المعامَلاتِ؛ فعدَمُ الوفاءِ بها يُعَدُّ من الغِشِّ المحَرَّمِ، واللَّه سُبحانَه يأمُرُ بالوفاءِ وعَدَمِ الغِشِّ؛ حيثُ يقولُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) [المائدة:1]. ويشتدُّ الإثم حينما يُنَفِّق الغشَّاش سلعته بالحلف الكاذب، بأنه اشتَراها بكذا، أو بأنَّ فلانًا سامَها بكذا… أو غير ذلك من أساليب الغشاشين؛ ففي الصحيحين: (أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «الْحَلِفُ مَنْفَقَةٌ لِلسِّلْعَةِ مَمْحَقَةٌ لِلرِّبْحِ».
فالواجب على مَن باع سلعةً فيها عيبٌ أن يُبيِّن هذا العيب للمشتري ولا يكتمه؛ ففي سنن ابن ماجه: (عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ وَلاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ بَاعَ مِنْ أَخِيهِ بَيْعًا فِيهِ عَيْبٌ إِلاَّ بَيَّنَهُ لَهُ». وللمشتري خِيار الردُّ؛ إذا البائع غشَّه، وبهذا حكَم الخليفة الراشد عثمان بن عفان – رضِي الله عنه – فعن سالم بن عبدالله أنَّ عبدالله بن عمر – رضِي الله عنهما – باع غلامًا له بثمانمائة درهم وباعه بالبَرَاءة، فقال الذي ابتاعه لعبدالله بن عمر – رضِي الله عنهما -: بالغلام داءٌ لم تسمِّه لي، فاختَصَما إلى عثمان بن عفان – رضِي الله عنه – فقال: الرجل باعني عبدًا وبه داءٌ لم يُسمِّه، وقال عبدالله – رضِي الله عنه – بعتُه بالبراءة، فقضى عثمان بن عفان – رضِي الله عنه – على عبدالله بن عمر – رضِي الله عنهما – أن يَحلفَ له لقد باعَه العبد وما به داءٌ يعلَمه، فأبى عبدالله – رضِي الله عنه – أن يحلف وارتَجَع العبد، فصَحَّ عنده، فباعَه عبدالله – رضِي الله عنه – بعد ذلك بألف وخمسمائة درهم) رواه الإمام مالك
فعجبًا لمن بخس الكيل والميزان، وعجا للغشَّاش، يسعى أحدهم في جمع المال من الوُجُوه المُباحَة والمحرَّمة، فيَشقى في جمعه، ويكسب عَداوَة الآخَرين، وفقدان الثقة به، فيَعِيش منقوصَ القدر، مَحلَّ ريبةٍ وشكٍّ، ثم يموت ويترك هذا المال الذي شقي به حيًّا؛ ليَشقَى به ميِّتًا، يُحاسِب عليه وغيره، يتنَّعم به ويترف، فغنمه لغيره، وغُرْمُه عليه.
الدعاء