خطبة عن رحمة الصغير وتوقير الكبير وحديث (لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيُوَقِّرْ كَبِيرَنَا )
ديسمبر 14, 2019خطبة (ذليل فقير على باب الكريم)
ديسمبر 14, 2019الخطبة الأولى ( فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته : (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ) (45) ق
إخوة الإسلام
القرآن الكريم : هو حبل الله المتين ، وهو الذكر الحكيم ،والصراط المستقيم ،من عمل به أجر، ومن حكم به عدل ،ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم . ولقد دعا الله عز وجل عباده إلى تدبر القرآن ، فقال الله تعالى : {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29]، وفي نفس الوقت ،فقد أنكر الله على من أعرض عن تدبر القرآن ، فقال الله تعالى : {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آَبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ} [المؤمنون: 68]، واليوم إن شاء الله موعدنا مع آيات من كتاب الله ، نتدبرها ، ونسبح في بحار معانيها ، ونرتشف من رحيقها المختوم ، مع قوله تعالى : (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ) (45) ق ، قال الطبري في تفسيره ، المعنى : فذكر يا محمد بهذا القرآن الذي أنـزلته إليه من يخاف الوعيد الذي أوعدته من عصاني وخالف أمري ، وعن ابن عباس, قال : قالوا (أي الصحابة) يا رسول الله ، لو خوّفتنا؟ أو(لو ذكَّرتنا) فنـزلت : ( فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ ). ويقول ابن كثير : أي : بلغ أنت ( يا محمد) رسالة ربك ، فإنما يتذكر من يخاف الله ووعيده ، ويرجو وعده ،
أيها المسلمون
وصدق الله العظيم إذ يقول سبحانه وتعالى : (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ) (45) ق ، فالقرآن الكريم هو كتاب الله، الذي يخاطب القلب فيخشع، والعين فتدمع، والإذن فتسمع، ولو نزل على جبل لتصدع ، يقول الله تعالى :{ لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } الحشر 21، فالقرآن الكريم لا ينتفع بمواعظه الجمة، ولا يتدبر معانيه العظيمة، ولا يتشرب آياته الحكيمة إلا من { كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ } ق 37، ولذا لما أمر الله سبحانه نبيه محمدا – صلى الله عليه وسلم – أن يذكر بالقرآن ، أو يخوف به؛ فألمح إليه من تنفعه الذكرى بالقرآن ، فقال تعالى : {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ}،{مَن يَخَافُ وَعِيدِ} ، وإلى هذا يشير الله – سبحانه – في أكثر من موطن فيقول الله تعالى : {إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالغَيْبِ} فاطر 18، فلا يجد القرآن وقعاً في قلب أحد إلا أولئك الذين { وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} الانسان (7) ، ويقول ابن القيم: “ومدار السعادة، وقطب رحاها على التصديق بالوعيد، فإذا تعطل من قلبه التصديق بالوعيد؛ خرب خراباً لا يرجى معه فلاح البتة، والله – تعالى – أخبر أنه إنما تنفع الآيات والنذر لمن صدق بالوعيد، وخاف عذاب الآخرة، فهؤلاء هم المقصودون بالإنذار، والمنتفعون بالآيات دون من عداهم قال الله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ} هود 103، وقال الله تعالى : { إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} النازعات (45) ، وأخبر الله تعالى أن أهل النجاة في الدنيا والآخرة هم المصدقون بالوعيد الخائفون منه فقال الله تعالى: { وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} إبراهيم (14)
والتذكير هو تذكير بما تقرر في العقول والفطر ،من محبة الخير وإيثاره وفعله، ومن بغض الشر ومجانبته، وإنما يتذكر بالتذكير من يخاف وعيد الله، وأما من لم يخف الوعيد ،ولم يؤمن به فلا، فهذه فائدة تذكيره إقامة الحجة عليه؛ لئلا يقول: {مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ} المائدة 19، قال بعض السلف: “من لم يعظه القرآن ولا الشيب فلو تناطحت بين يديه الجبال ما اتعظ”. وانظروا إلى السلف الصالح : فقد كان الربيع بن خثيم إذا جن عليه الليل لا ينام، فتناديه أمه ألا تنام، فيقول: يا أماه، من جن عليه الليل وهو يخاف البيات، حق له أن لا ينام، فلما بلغ، ورأت ما يلقى من البكاء والسهر قالت: يا بني لعلك قتلت قتيلاً، فقال: نعم يا أماه، فقالت: ومن هذا القتيل، فلو علم أهله ما تلقى من البكاء والسهر لرحموك، فقال: هي نفسي. وقالت له ابنته: يا أبت ألا تنام؟ فقال: يا بنيه إن جهنم لا تدعني أنام.
أيها المسلمون
وعظ القرآن المجيد، يبدي التذكار عليكم ويعيد، فما بال الغفلة منكم لا تحيد، وبين أيديكم كتابه يخوفكم عذابه ويكرر التهديد، {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ}[ق:45]. إن في القرآن ما يلين الجلاميد، لو فهمه الصخر كأن الصخر يميد، كم أخبرك بإهلاك الملوك الصيد؟ وأعملك أن الموت بالباب والوصيد ،{فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ}[ق:45]. إن مواعظ القرآن تذيب الحديد، وللفهوم كل لحظة زجر جديد، وللقلوب النيرة كل يوم به عيد، غير أن الغافل يتلوه ولا يستفيد ، {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ}[ق:45]. أما الموت للخلائق مبيد، أما تراه قد مزقهم في البيد، أما داسهم بالهلاك دوس الحصيد، لا بالبسيط ينتهون ولا بالتشديد، أين من كان لا ينظر بين يديه؟ أين من أبصر العبر، ولم ينتفع بعينيه، أين من بارز بالذنوب المطلع عليه؟ ، {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} ق16، أين من كان يتحرك في أغراضه ويميد، ويغرس الجنان لها طلع نضيد، ويعجبه نغمات الورق على الورق بتغريد، كان قريباً منا فهو اليوم بعيد {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ}. أحضروا قلوبكم فإلي متى التعامي والتبليد؟ وأنتم ترون شبح المنون يخطف الشيخ الكبير والوليد، أما فيكم من يذكر أنه في قبره وحيد، أما فيكم من يتصور تمزيقه والتبديد. غداً يباع أثاث البيت فمن يزيد؟، غداً يتصرف الوارث كما يريد، غداً يستوي في بطون اللحود الفقير والسعيد ، فيا قوم: ستقومون للمبدئ المعيد، يا قوم ستحاسبون على القريب والبعيد، يا قوم المقصود كله، وبيت القصيد: { فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} هود (105) ، فيا ذا النفس اللاهية تقرأ القرآن وهي ساهية، أمالك ناهية في الآية الناهية؟ ،كم خوفك القرآن من داهية؟ أما أخبرك أن أركان الحياة واهية؟ أما أعلمك أن أيام العمر متناهية؟ أما عرفك أسباب الغرور كما هيه؟
أيها المسلمون
وقوله تعالى : {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ} [ق:45] ، فقد لخصت الآية الكريمة الأمر ببساطة ووضوح؛ فبالقرآن؛ بكلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؛ كثيرًا ما يكون مفتاح شخصية الإنسان وسبيل تغييره – فقط – في التذكير بالقرآن؛ القرآن وحسب، دون وسيط أو إضافة أو تكلف أو كثير من كلام البلغاء ،ونظم الفصحاء الذي ربما تكون له مواطن أخرى ، ولا نقلل منها ولا من أثرها ،لكنها لن ترقى أبدا لذلك العلاج الرباني؛ وهو التذكير بالقرآن. فالقرآن يخاطب قلبك ويمس فؤادك وتهفو إليه روحك؛ لكن هذا لا يحدث لكل من يقرأ القرآن ،بل كثيرا ما يشتكي القارئ من عدم التأثر ،ويجد جدرانا تحول بينه وبين آيات ربه ، فحدوث التذكرة والتأثر بالقرآن يستلزم وجود قلب حي يتأثر بالموعظة القرآنية وتهز أركانه تلك المعاني المبهرة المبثوثة من خلال الوحي الكريم ، لذا قال الله تعالى : {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْب} [ق:37] ، هكذا قالها الله واضحة جلية؛ من كان له قلب؛ هذا هو من يتذكر؛ قلب سليم؛ قلب يخشى الله ويتقيه؛ قلب يخاف الوعيد؛ لكن هذا القلب السليم ليس متوفرا بشكل دائم.. بل هو في الحقيقة من الندرة بمكان ، فما العمل إذاً إن لم يتوفر هذا النوع من القلوب؟! وهل على مفتقد القلب أو صاحب القلب القاسي -وما أبريء نفسي- أن يفقد الأمل في حدوث التغيير المنشود من خلال القرآن؟ ، الجواب: لا؛ الله جل وعلى بيَّن طريقة بديلة؛ على من يفتقر للقلب السليم الحيّ وينشده أن يسلكها.. إنها طريقة الاستماع والمشاهدة ، فقال تعالى :{أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37]. وتأمل معي قوله تعالى (أَوْ أَلْقَى) أي أن تلقي بجارحة سمعك على باب التدبر ،وأن تقطع كل العلائق السمعية الأخرى حين الاستماع للقرآن، وأن تشحذ تلك الجارحة بكامل قوتها ،متشوقا لكل حرف قرآني تتلوه ، أو يُتلى عليك، وأن تفعل ذلك مع انتباه كامل ،وإيقاظ للذهن الذي يقع على عاتقه الركن الثاني لتلك الطريقة، وهي المشاهدة (وَهُوَ شَهِيدٌ ) ، فالمطلوب منك أن تنصت بأذنك للآيات ، بينما تغلق عين بصرك ،وتفتح عين بصيرتك ،لتشهد الأحداث والوقائع القرآنية كأنها رأي عين؛ ترى بعين الشهود مصارع الأمم ،ومهلك المجرمين الصادين عن سبيل الله؛ وتشهد أحداث القيامة ،وأهوال النشور، ومحطات الآخرة، التي تتوالى على سمعك كأنك جزء منها ، فأنت تدرك أنك ستكون يوما بالفعل جزءا منها! ، وتتأمل مواقف النبيين ، وبطولات المرسلين ،ومنازل الصالحين ،وكأنك كنت هنالك معهم؛ فتحزن لحزنهم ،وتتهلل أساريرك لفرحهم ، وتصدع معهم بكلمات الحق التي قذفوها في وجه الباطل؛ فتبحر مع نوح؛ وتتوكل مع هود؛ وتحطم الأصنام مع إبراهيم؛ وتصبر مع أيوب؛ وتُسبِّح مع داوود؛ وتصدع مع موسى؛ وتثبت مع يوسف؛ وتعبد ربك مع محمد ﷺ حتى يأتيك اليقين ، فتنتقل من مشهد إلى آخر؛ ومن قصة إلى أخرى؛ وتدور مع المعاني والأمثال والمشاهد القرآنية؛ حيث دارت ، فتلك هي المشاهدة؛ وذلك هو الاستماع ،وبهما ،أو بالقلب السليم؛ يحدث الانتفاع بآيات الذكر الحكيم.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
ومازلنا نرتشف من رحيق قوله تعالى : { فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ } [ق:45] ،فإن من وجوه إعجاز القرآن الكريم ذلك التأثير البالغ الذي أحدثه في نفوس أتباعه وأعدائه على السواء، ولا نستطيع أن نلمح فيه صورة محددة لما مسهم منه من تأثير، فهم حيارى مضطربون قلقون أو مؤمنون خاشعون ملبّون ، فبمجرد تلاوة القرآن وترتيله تؤثر في نفس الإنسان يستوي في ذلك المؤمنون والكافرون، لكن نوعية التأثير تختلف بين هؤلاء وأولئك. فالكافر يحس من أعماقه بتأثير القرآن ، فيما يسمعه من هذا النظم العجيب، ولقد بلغ من شدة تأثيره على المشركين أنهم كانوا يخرجون في جنح الليل يستمعون إلى تلاوة الرسول – عليه الصلاة والسلام – وأصحابه الكرام وهم يقرأون، حتى إنهم تواصوا فيما بينهم ألا يستمعوا له و أن يرفعوا أصواتهم بالضجيج حين تلاوته فقال الله تعالى – واصفاً هذه الحال منهم: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) (26) فصلت ، وفي قصة إسلام عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه) خير دليل ،وطلب النجاشي من جعفر ابن أبي طالب – رضي الله عنه – أن يسمعه شيئاً مما جاء به الرسول – صلى الله عليه وسلم – عن الله، فقرأ عليه صدراً من (كهيعص) فبكى النجاشي حتى اخضلت لحيته ،وبكت أساقفته حتى اخضلت لحاهم حين سمعوا ما تلا عليهم، ثم قال لهم النجاشي: ( إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة )، ولقد تجاوز القرآن البشر في تأثيره إلى صنفٍ, آخر من المخلوقات فلم تتمالك الجن عندما سمعته أن قالت كما ذكر الله في كتابه العزيز: (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا) (1) ،(2) الجن ، وقال الله تعالى : (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ) (29)، (30) الاحقاف ، وأيضا فالكفرة من الجن ينفرون من القرآن ففي صحيح مسلم : (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: « لاَ تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْفِرُ مِنَ الْبَيْتِ الَّذِى تُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ ».
وأما تأثير القرآن على نفوس المؤمنين وقلوبهم ،فذلك بزيادة الإيمان والخشوع والخشية والإنابة إلى الله عز وجل ،قال الله تعالى -: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [الأنفال: 2]، وقال الله تعالى : (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) [الزمر: 23]، وهذا الوجه من وجوه إعجاز القرآن الكريم أي صنيعه بالقلوب وتأثيره على النفوس ذهب عنه كثير من الناس ولا يعرفه إلا القليل، فإنك لا تسمع كلاماً غير القرآن منظوماً ولا منثوراً إذا قرع السمع خلص له إلى القلب من اللذة والحلاوة في حال ومن الروعة والمهابة في أخرى ما يخلص منه إليه، تستبشر به النفوس وتنشرح له الصدور، حتى إذا أخذت حظها منه ،عادت مرتاعة ،قد عراها القلق وتغشاها الخوف والفرق، تقشعر منه الجلود ،وتنزعج له القلوب، يحول بين النفس ومضمراتها وعقائدها الراسخة فيها، فكم من عدو للرسول – صلى الله عليه وسلم – من رجال العرب وفتاكها أقبلوا يريدون اغتياله فسمعوا آيات من القرآن فلم يلبثوا حين وقعت في مسامعهم أن يتحولوا عن رأيهم الأول و أن يركنوا إلى مسالمته والدخول في دينه وصارت عداوتهم موالاة وكفرهم إيمانا وفي قصة اسلام الصحابي (ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ سَيِّدُ الْيَمَامَةِ) خير شاهد ودليل .
أيها المسلمون
فللقرآن تأثيره البالغ على النفوس من خلال تأمل الحالات التي ذكرنا بعضها ، فهل ينتبه الدعاة وطلبة العلم إلى عظمة هذا القرآن، وضرورة العكوف عليه ،بالتلاوة ،والتدبر ، والعمل بما فيه، وتلاوته على من يرغبون بدعوته وإرشاده؟! ، ولقد أدرك أعداء الإسلام من اليهود والصليبين أن سر عظمة هذه الأمة وعزتها بالقرآن، فقد قال وزير المستعمرات البريطاني (غلادستون) يوم كانت بريطانيا تسيطر على كثير من بلاد المسلمين قال: (لن تحقق بريطانيا من أهدافها شيء في العرب والمسلمين إلا إذا سلبتهم سلطان هذا الكتاب أخرجوا سر هذا الكتاب من بينهم تتحطم أمامكم جميع السدود).
الدعاء