خطبة عن (التِجَارَةُ مع الله)
أكتوبر 8, 2023خطبة عن (التوحيد الخالص شرط لدخول الجنة)
أكتوبر 9, 2023الخطبة الأولى التضرع إلى الله (فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ) (42): (44) الأنعام، وقال تعالى: (وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) (76)، (77) المؤمنون
إخوة الإسلام
إن المتدبر لهذه الآيات المباركات من كتاب الله العزيز، يتبين له أن الله تبارك وتعالى يبتلي عباده بالسراء والضراء (لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ )، ولعلهم يخلصون لله تعالى العبادة، ويُفْردون رغبتهم إليه سبحانه دون غيره، بالتذلل والطاعة، والاستكانة والإنابة، ويدعونه ويتضرعون إليه، ويخشعون له، ويلجأون إليه عند الشدائد،
ومن السنن الربانية: أنَّ الله – تعالى- لا يُعَذِّب الأمم عذابًا يستأصلها، لمجرد ارتكاب الذنب، والوقوع في الإثم، بل من رحمة الله – تعالى- أنَّ هذا العذاب والإهلاك، لا يُصيب الأمم والأفراد إلا بعد استيفاء مراحل متعددة، يتجلّى فيها حِلْم الله، وعدم معاجلته للأمم بالعقوبات؛ فأوجب -سبحانه- على ذاته العليَّة أن يُرسِل إلى البشر الرسلَ والأنبياءَ، ليعرِّفوهم بربهم، ويعلِّمُوهم ما يحبّه، وما يقرِّبهم إليه، ويحذِّرُوهم مما يُسْخِطه عليهم، ويرشدوهم إلى طريق السعادة في الدنيا والآخرة؛ فقال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص: 59]، وقال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، فيرسل الله تعالى الرّسل مبشرين ومنذرين ليقطع على الأمم حجتهم، ويمحو عذرهم. كما قضى ربنا -سبحانه- وقرَّر أنه سبحانه لا يُعَذِّب الأمة الصالحة المُصْلِحَة التي تؤمن به، وتتّبع رسله، وتقيم حدوده، وتلتزم شرعه، فقال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 117]. فإذا استقامت الأمم على النّهج القويم، غفر اللهُ لهم الزلات، وأمدهم بعطائه، وتولّاهم بحفظه، وأما إذا ما خالفت الأمم، ونقضت العهود، وأصرّت على مخالفةِ المنهج الحقّ، والاستمرارِ على الغيّ، والتمادي في الباطل؛ فعندها يتنزّل عليهم العقاب، ويحلّ عليهم السخط، قال تعالى: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت: 40]. فمن لُطْف الله تعالى بالأمم والأفراد، قبل أن يعذبهم عذابًا يستأصلهم، أنه سبحانه يبتليهم، ويعرِّضهم للبأساء والضراء، حتى يعودوا للجادّة والصواب، ومن هنا كان الابتلاءُ سنةً ماضيةً ويجب على الخلق أن ينتبهوا لأمره، ويحسنوا التعامل معه.
أيها المسلمون
ولقد نزل اليوم البلاء بالبأساء والضراء بساحة المسلمين, فلا نرى ما يقابله من التضرع والتذلل والانكسار المطلوب إلى الله تعالى في مثل هذه الظروف، والأحوال العصيبة التي تمر بها الأمة، نعم قد تكون هناك فئة قليلة من المسلمين يتضرعون إلى الله تعالى بالليل والنهار, ويتذللون بين يديه بالدعاء، طالبين منه سبحانه أن يرفع المحنة، ويكشف الغمة عن الأمة , إلا أن الغالبية العظمى من المسلمين غافلون عن هذه الوسيلة الناجعة في رفع البلاء، والنصر على الأعداء، فالله تعالى يبتلي عبده ليسمع تضرعه, وهو سبحانه يحب صوت الملحين في الدعاء، وأنين المتضرعين إليه في الضراء، قال ابن القيم رحمه الله في كتابه (الروح): ” فالله يبتلي عبده ليسمع تضرعه ودعاءه، والشكوى إليه, ولا يحب التجلد عليه, وأحب ما إليه انكسار قلب عبده بين يديه, وتذلله له، وإظهار ضعفه وفاقته وعجزه وقلة صبره, فاحذر كل الحذر من إظهار التجلد عليه, وعليك بالتضرع والتمسكن وإبداء العجز والفاقة والذل والضعف , فرحمته اقرب إلى هذا القلب من اليد للفم
ومن هنا كان تضرع الأنبياء والمرسلين عليهم السلام، والتجاؤهم إلى الله سبحانه وتعالى سمة بارزة في سيرتهم العطرة، حين نزل بهم البلاء، واشتد عليهم الكرب, فكان نداء نوح عليه السلام ربه أن ينجيه وأهله من الكرب العظيم, كما كان التجاء ابراهيم عليه السلام إلى الله وحده أن يجعل أفئدة من الناس تهوي إلى زوجه وولده, وافتقار أيوب عليه السلام أن يكشف الله ما نزل به من ضر, واستغاثة يونس عليه السلام في ظلمة جوف الحوت، وقاع البحر، أن ينجيه من الغم, كما كانت شكوى يعقوب عليه السلام لله وحده: {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } يوسف/86 .
ويكفي أن يطالع أحدنا سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح من أمته, حتى يتأكد له التزامهم في البأساء والضراء، و زمن المحن والابتلاءات، بالتضرع وشدة الالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى . فمع تضرع والتجاء الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم إلى الله تعالى في كل أحواله , إلا أن شدة تضرعه وانكساره وإلحاحه على ربه باستجابة دعائه كانت في وقت الحروب والأزمات , ففي غزوة بدر الكبرى، أكثر الرسول الكريم من التضرع إلى الله، والإلحاح بالدعاء إليه سبحانه , ففي صحيح مسلم: (عن عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ وَأَصْحَابُهُ ثَلاَثُمِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلاً فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الْقِبْلَةَ ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ « اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي اللَّهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي اللَّهُمَّ إِنْ تَهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةُ مِنْ أَهْلِ الإِسْلاَمِ لاَ تُعْبَدْ فِي الأَرْضِ ». فَمَازَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ. وَقَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ كَذَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّى مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ) فَأَمَدَّهُ اللَّهُ بِالْمَلاَئِكَةِ) .
ولم يكن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم هو وحده الذي يتضرع إلى الله تعالى في وقت الشدة والمحنة والنوازل , بل كان الصحابة الكرام رضي الله عنهم يتضرعون إلى الله تعالى أيضا، ويستغيثون به ، ويسألونه النصر والتأييد, وكتاب الله تعالى يؤكد ذلك ويؤيده، قال تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِين} الأنفال/9, وإذا استعرضنا سيرة خلفاء الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم, وجدنا أن التضرع إلى الله تعالى كانت السمة البارزة في خلواتهم في الشدائد والنوازل, ويكفي أن نذكر في هذا المقام حال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في عام الرمادة, فمع اتخاذه كافة التدابير الكفيلة بإنهاء المجاعة واحتوائها, من خلال استنفار عماله في الأمصار، والكتابة إليهم ليرسلوا إلى المدينة الطعام والميرة , والإشراف بنفسه على إطعام الناس ومواساتهم، فقد أضاف إلى هذه الأسباب المادية الضرورية شدة تضرعه إلى الله أن يكشف ما نزل بالمسلمين من محنة في ليله وخلوته، فقد ورد أنه رضي الله عنه كان يتضرع إلى الله تعالى في كل ليلة أن يرفع البلاء ويكشف بأس المسلمين وكربهم , وقد ذكر ذلك عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ذلك بقوله : “كان عمر بن الخطاب أحدث في عام الرمادة أمراً ما كان يفعله، لقد كان يصلي بالناس العشاء ، ثم يخرج حتى يدخل بيته ، فلا يزال يصلي حتى يكون آخر الليل، ثم يخرج فيأتي الأنقاب، فيطوف عليها ، وإني لأسمعه ليلة في السحر وهو يقول: اللهم لا تجعل هلاك أمة محمد على يدي”، هذا هو حال السلف الصالح في أيام الشدة والكرب والمحنة, إنه التضرع إلى الله تعالى والتجاء إليه, والانكسار والتذلل بين يديه سبحانه, بعد الأخذ بكامل الأسباب،
فهل حال المسلمين اليوم مع ما نزل بهم من البلاء والضراء فيه اقتداء بما كان عليه الأنبياء والمرسلون عليهم السلام من تضرع وشدة التجاء إلى الله تعالى؟، وهل نحن متأسون بالسلف الصالح من أمة خاتم الأنبياء؟، أم إن التقصير في هذا الجانب شديد وظاهر رغم عِظم البلاء ؟!
أيها المسلمون
إن من خير ما يفعله العبد المؤمن عند حلول البلايا والمصائب: أن يرجع على نفسه باللائمة، ويعلم أن ما أصابه من شَرّ فإنما هو بسبب ما اجترحته جوارحه من الذنوبِ تلو الذنوب، فيعلم تقصيره وعصيانه، ويكون ذلك دافعًا له إلى تصحيح المسار، والعودة إلى الله تعالى.
وعليه أيضا: بالتوبة والرجوع إلى الله تعالى، فمما نُقل عن السلف أنه: (ما نَزل بلاء إلا بذنب ولا يُرفع إلا بتوبة)، وقد ذكر الله -سبحانه- في القرآن الكريم أنه رَفع العذاب عن قوم تابوا وأنابوا، وهم قوم يونس -عليه السلام-، قال تعالى: {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس: 98]. وهذا يدلّ على أن البلاء والعذاب لا يقابَل بالتسخّط ولوم الأقدار، وإنما بالتوبة الصادقة إلى الله سبحانه؛ وبهذا يرفع اللهُ العذابَ ويخفّف البلاء، ويجنِّب العبد ظنّ السوء بربه جلّ وعلا.
وعليه أيضا: بالتضرع والانكسار بين يدي ربه، والالحاح في الدعاء ليل نهار، فقد أخبر ربُّنَا -سبحانه- في القرآن العظيم أنّ التضرّع والدعاء الصادق يرفعُ العذاب، ويردّ البلاء، فقال تعالى عن الأمم السابقة: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 42، 43]؛ فالغاية من أخذ العباد بالبأساء والضراء أن يضرعوا إلى الله، ويرجعوا إليه، وعاب اللهُ تعالى على قوم لا يتضرعون إلّا عند حلول النكبات، فإذا نجاهم الله وأجاب سؤالهم أعرضوا عن شرعه، وشكروا غيره، قال تعالى: {قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * قُلِ اللّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 63- 64]. قال الشنقيطي في تفسيرها: (بيَّن -جلّ وعلا- في هذه الآيات الكريمة أنّ الكفار إذا مسّهم الضرّ في البحر، أي: اشتدت عليهم الريح فغشيتهم أمواج البحر كأنها الجبال، وظنوا أنهم لا خلاص لهم من ذلك ضلّ عنهم؛ أي: غاب عن أذهانهم وخواطرهم في ذلك الوقت كلّ ما كانوا يعبدون من دون الله -جلّ وعلا- فلا يدعون في ذلك الوقت إلا الله -جل وعلا- وحده؛ لعلمهم أنه لا ينقذ من ذلك الكرب وغيره من الكروب إلا هو وحده -جلّ وعلا- فأخلصوا العبادة والدعاء له وحده في ذلك الحين الذي أحاط بهم فيه هولُ البحر، فإذا نجاهم اللهُ وفرَّج عنهم ووصلوا البرَّ رجعوا إلى ما كانوا عليه من الكفر. كما قال تعالى: {فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا} [الإسراء: 67].
فالعباد قد يغفلون في أوقات الرخاء عن عبادة التضرّع، وصدق اللجوء إلى الله، واستشعار حاجتهم التامّة إلى ربهم، ولكن لا ينبغي لهم أن يغفلوا عنها في أوقات البلاء والمحنة، ولو أنهم غفلوا في الحالين، لعرَّضوا أنفسهم لعقوبة الله تعالى، فإنّ أسوأ أحوال العبد أن تغريه النعمةُ، ويزيّن له الشيطانُ الفرحَ والبطرَ بما أوتيه من نِعَمٍ متتالية، فيغفل عن شكرها، وعندها تحلّ عليه العقوبات، قال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 44، 45].
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية التضرع إلى الله (فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
ولما كان التضرّع إلى الله -تعالى- بهذه المكانة؛ كان أحرص الناس عليه الأنبياء والرسل، ومَن يطالع سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- يجد أنه كان دائمَ التضرّع إلى الله تعالى، فكان من دعائه كما في سنن الترمذي: « يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ». وأرشدَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- العبدَ المسلم إذا أراد أن يصلي أن يتضرّع إلى ربّه؛ ففي مسند أحمد وغيره: (عَنِ الْمُطَّلِبِ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « الصَّلاَةُ مَثْنَى مَثْنَى وَتَشَهَّدُ فِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ وَتَبَاءَّسُ وَتَمَسْكَنُ وَتُقْنِعُ يَدَكَ وَتَقُولُ اللَّهُمَّ اللَّهُمَّ فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَهِيَ خِدَاجٌ »، ويصف ابن عباس -رضي اللّه عنهما- حال النبي -صلى الله عليه وسلم- في صلاة الاستسقاء وشدّة تضرّعه إلى ربه، فقال كما في سنن الترمذي: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- خَرَجَ مُتَبَذِّلاً مُتَوَاضِعًا مُتَضَرِّعًا حَتَّى أَتَى الْمُصَلَّى فَلَمْ يَخْطُبْ خُطْبَتَكُمْ هَذِهِ وَلَكِنْ لَمْ يَزَلْ فِي الدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ وَالتَّكْبِيرِ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَمَا كَانَ يُصَلِّى فِي الْعِيدِ). فما أجدرنا أن نتأسّى بنبينا -صلى الله عليه وسلم- في التضرُّع ودوام اللجوء إلى الله -سبحانه- في كلّ وقت وحين، وإنّ الأمة المسلمة اليوم أحوج ما تكون إلى استمطار رحمات الله، وفتح أبواب السماء، بالدعاء الصادق، والتضرّع الخاشع لله ربّ العالمين.
أيها المسلمون
فلا شك أن هذه المصائب والنوازل والبلايا التي حلت بالأمة الإسلامية، توجب عليهم المبادرة بالتوبة إلى الله سبحانه، مِن جميع ما حرَّم الله عليهم، والمبادرة إلى طاعته وتحكيم شريعته، والتعاون على البر والتقوى، والتواصي بالحق والصبر عليه، قال تعالى: (أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (المائدة:74). وقد ثبت عن الخليفة عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- أنه لما وقع الزلزال في زمانه، كتب إلى عماله في البلدان، وأمرهم أن يأمروا المسلمين بالتوبة إلى الله والضراعة إليه، والاستغفار من ذنوبهم. فما وقع في عصرنا هذا من أنواع الفتن والمصائب، والزلازل والاعاصير والأمراض والأوبئة كان لزامًا أن يرجع الناس إلى الخالق والمدبر والمتصرف في أمور ملكه، ولا متصرف غيره؛ فهو وحده الذي يكشف السوء، ويصرف البلاء، قال تعالى: (لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ) (النجم:58)، وقال تعالى: (وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا) (الإسراء: 59). وفي صحيح مسلم: (عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ عُقْبَةَ بْنِ عَمْرٍو الأَنْصَارِيِّ الْبَدْرِيّ -رضي الله عنه- قَال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِمَا عِبَادَهُ وَإِنَّهُمَا لا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهَا شَيْئًا فَصَلُّوا وَادْعُوا اللَّهَ حَتَّى يُكْشَفَ مَا بِكُمْ)،
فما أشد فقر الخلائق إلى الله تعالى، فهم لا غِنَى لهم عن رحمته وتدبيره وستره طرفة عين، وحاجتهم إلى معرفة الله، والإيمان به، ومحبته، أشد من حاجتهم لدنيا زائلةٍ، ومالٍ فانٍ، فإنَّ كل ما يتعلق به الخلائقُ يَفْنَى ويزول، ولا يبقى للعبد على الحقيقة في دنياه وأُخْراه إلا الله الواحد الأحد، الذي يدبِّر أمره، ويُنْزِل رزقه، ويكشف كُرَبه، ويعافيه، ويحوطه من كل ما يؤذيه. ولا سبيل لرفع البلاء إلا بالتضرع والالتجاء إلى الله رب العالمين،
الدعاء