خطبة عن (السعادةُ والحَيَاةُ الطَيِّبَةُ)
ديسمبر 20, 2016خطبة عن ( ما هي عقيدة التوحيد ؟)
ديسمبر 21, 2016الخطبة الأولى ( التفكر والتدبر والتأمل (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته : ( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (191) آل عمران ،وقال تعالى : ( وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (44) النحل ،وقال تعالى : (يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (11) النحل
إخوة الإسلام
إن التفكر والتدبر من أعمال القلوب العظيمة ، وهو مفتاح الأنوار، ومبدأ الاستبصار، وهو شبكة العلوم، ومصيدة المعارف والفهوم ،والتفكر في خلق الله تعالى يزيد الإيمان في القلب ويقويه ويرسخ اليقين، ويجلب الخشية لله تعالى وتعظيمه، وكلما كان الإنسان أكثر تفكرا وتأملا في خلق الله وأكثر علما بالله تعالى وعظمته كان أعظم خشية لله تعالى كما قال سبحانه: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ) [فاطر:28] ،والتفكر لغة: مأخوذ من مادة ( ف ك ر) والتي تدل: على تردد القلب في الشيء، يقال تفكر إذا ردد قلبه معتبراً،، فالتفكر هو تصرف القلب في معاني الأشياء لدرك المطلوب.. والتفكر في معناه الاصطلاحي الشرعي: هو إعمال العقل في أسرار ومعاني الآيات الشرعية والكونية عن طريق التأمل والتدبر وملاحظة وجه الكمال والجمال ومشاهدة الدقة وحسن التنظيم والسنن الكونية والتماس الحكمة والعبرة من وراء ذلك. وأنفع الفكر هو الفكر في مصالح المعاد .. وفي دفع مفاسده ،والفكر في مصالح الدنيا وفي دفع مفاسدها، وطرق الاحتراز منها، والفكر في آلاء الله ونعمه وأمره ونهيه وطرق العلم به وبأسمائه وصفاته من كتابه وسنة نبيه وما والاهما، ،وهذا الفكر يثمر لصاحبه المحبة والمعرفة فإذا فكر في الآخرة وشرفها ودوامها وفي الدنيا وخستها وفنائها ، ويثمر له ذلك الرغبة في الآخر ة والزهد في الدنيا، وكلما فكر الانسان في قصر الأمل وضيق الوقت ، أورثه ذلك الجد والاجتهاد وبذل الوسع في اغتنام الوقت .
أيها المسلمون
وقد أمر الله تعالى بالتفكر والتدبر في كتابه العزيز في مواضع لا تحصى و أثنى على المتفكرين ،فقال تعالى :{ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } (191) آل عمران ، وقال عطاء انطلقت يوماً أنا وعبيد بن عمير إلى عائشة رضي الله عنها فكلمتنا وبيننا وبينها حجاب فقالت : يا عبيد ما يمنعك من زيارتنا؟ قال: قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : {زر غبّاً ؛ تزدد حبّاً}، قال ابن عمير: فأخبرينا بأعجب شيء رأيتيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال فبكت، وقالت: كل أمره كان عجباً، أتاني في ليلتي ثم قال: ذريني أتعبد لربي عز وجل فقام إلى القربة فتوضأ منها ثم قام يصلي فبكى حتى بل لحيته ثم سجد حتى بل الأرض ثم اضطجع على جنبه حتى أتاه بلال يؤذنه بصلاة الصبح ، فقال: يا رسول الله ما يبكيك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر.. فقال: لقد أنزلت عليّ الليلة آيات ويلٌ لمن قرأها ولم يتدبر فيها أو كما قال عليه الصلاة والسلام { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ } ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها). [رواه ابن حبان وصححه الألباني في الصحيحة]. وعن محمد بن واسع أن رجلاً من أهل البصرة ركب إلى أم ذر بعد موت أبي ذر فسألها عن عبادة أبي ذر فقالت : “كان نهاره أجمع في ناحية البيت يتفكر”. وقال ابن عباس: “ركعتان مقتصدتان في تفكر خيرٌ من قيام ليلة بلا قلب”. وقال بشر :” لو تفكر الناس في عظمة الله ما عصوا الله عز وجل”. وقال الحسن:” تفكر ساعة خير من قيام ليلة”. وقال الفضيل:” الفكر مرآة تريك حسناتك وسيئاتك”. وقيل لإبراهيم إنك تطيل الفكر فقال:” الفكرة مخ العقل”. وكان سفيان بن عيينة كثيراً ما يتمثل بقول القائل: “إذا المرء كانت له فكرة؛ ففي كل شيء له عبرة” . وقال الحسن: “من لم يكن كلامه حكمة فهو لهو، و من لم يكن سكوته تفكراً فهو سهو، ومن لم يكن نظره اعتباراً فهو لهو”. وقيل في قوله تعالى : { سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} الأعراف 146، قال : أمنع قلوبهم التفكر في أمري . وقال أبو سليمان: “عودوا أعينكم البكاء وقلوبكم التفكر”. وقالوا:” الفكر في الدنيا حجاب عن الآخرة وعقوبة لأهل الولاية، والفكر في الآخرة يورث الحكمة ويحي القلوب. ومن الذكر يزيد الحب ومن التفكر يزيد الخوف”. وقال ابن عباس: “التفكر في الخير يدعو إلى العمل به والندم على الشر يدعو إلى تركه. وإذا كان هم العبد وهواه في الله عز وجل جعل الله صمته تفكراً وكلامه حمداً” . وقال الحسن: “إن أهل العقل لم يزالوا يعودون بالذكر على الفكر ، وبالفكر على الذكر حتى استنطقوا قلوبهم فنطقت بالحكمة
أيها المسلمون
وللتفكر مجالات كثيرة ومتعددة ومن مجالات التفكر: 1- التفكر في آيات الله الكونية. بأن يشاهد الانسان جمال وروعة خلق الله من الجبال والبحار والأشجار والأنهار والسهول والطبيعة الخلابة ويلاحظ تعاقب الليل والنهار وجريان الشمس والقمر وفق نظام بديع لا يتخلف ولا يضطرب على مر الزمان. قال تعالى: (تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ) (62) ) الفرقان . 2- التفكر في الآيات الشرعية في آي القرآن : بأن لاحظ بلاغة القرآن وفصاحته وحسن تنظيم الكلام و مناسبته لأغراض الكلام ومقام السياق وإعجازه وحسن عرضه لقضايا التوحيد والتشريع والسلوك والآداب.
قال تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) النحل 44. ،3- التفكر في تكوين الانسان بأن يشاهد تنوع الأعضاء وحسن تنسيقها وبديع صنعها ودقتها وكبير فائدتها وانسجامها في العمل فيتأمل في القلب والشرايين والأعصاب ووظائف العقل وإعجاز حاسة النطق والسمع والبصر واللمس والذوق وما يجري في هذه النفس من الدم والماء والإنزيمات التي تضمن حياته وتؤثر على تصرفاته. قال تعالى: (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) الذاريات 21. ، 4- التفكر في طبيعة النفس البشرية بأن يتأمل في نزعات النفس والرغبات التي خلقه الله عليها من حب الدنيا والرئاسة والتملك وحب الاعتداء والاستيلاء على ملك الغير وحب الخلود. ويتأمل في غريزة حب العمارة فلو كان جميع الخلق زاهدا لما عمرت الأرض. قال تعالى: (وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) الاحزاب 72. 5- التفكر في الكائنات الحية حيث خلقها الله وجعلها تعيش وفق نظام دقيق وعام وشامل حيث أنشأها على اختلاف نوعها ولغاتها وطبيعتها وتكفل برزقها وتسييرها وهداها لمصالح عيشها وكفايتها فلم يعجزه ذلك مع كثرتها وتنوعها وكلما زادت أحدث الله سببا جديدا في الرزق. قال تعالى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) هود 6 . فالله تكفل بالرزق ويعلم أين يأوي كل حيوان وأين يموت. 6- التفكر والتأمل في نشأة خلق الكائنات على اختلاف طبائعها ووظائفها وتصنيفها وبيئتها سواء كانت كائنات دقيقة لا ترى بالعين أو ظاهرة أو بحرية أو بريه أو برمائية وسواء كانت أحادية الخلق أم مركبة.. قال تعالى: (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) النور 45 . وقال تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) النحل 10 ، 11. 7- التفكر في حال الدنيا وسرعة زوالها وعظم فتنتها وتقلب أحداثها وتداول أيامها وحال أهلها اللاهثين وراء سرابها العابدين لها المفتونين بزينتها ثم تنكرها لهم وجحودها إياهم ومآلهم فيها إلى الخسارة والهوان والهم والحسرة في الحياة والممات قال تعالى: (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) يونس 24 ، 8- التفكر في أحوال الأمم السابقة والشعوب البائدة والحضارات المندثرة كيف وجدوا وتكاثروا ومكن لهم وعمروا الأرض واغتروا بعددهم وعدتهم وأموالهم وكيدهم ثم جاءتهم الرسل يدعونهم للحق فاستكبروا فنزل عليهم العذاب فأبادهم عن بكرة أبيهم وبقيت آثارهم شاهدة على كفرهم وعجزهم وزوالهم. قال تعالى: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) الروم 9 . أما ذات الله وصفاته فيمنع التفكر فيها ويحرم لما جاء في الأثر: (تفكروا في آلاء الله ولا تتفكروا في الله). رواه الطبراني. ولأن العقل يستحيل عليه إدراك كنه ذلك والإحاطة بعلمه. ولأن التفكر في هذا الأمر قد يفضي إلى الوقوع في مفاسد اعتقادية من التفويض والتشبيه والتمثيل والإلحاد وطروء الشك في المسلمات. ولذلك لما أعمل المبتدعة من معتزلة وغيرهم عقولهم في كنه ذات الله وصفاته فسد اعتقادهم وخرجوا عن منهج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وكل ما يتخيله الانسان ويخطر عليه فيه فالله على خلافه سبحانه كما قال: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) الشورى 11.
أيها المسلمون
وللتفكر والتدبر ثمار وفوائد كثرة ، فإن الانسان إذا قام بعملية التفكر في جميع خلق الله وآلائه استفاد أمورا: 1- سعة علم الله وخبرته بخلقه وأحوالهم وما يصلح لهم. 2- سعة قدرة الله ودقة إتقانه للمخلوقات. 3- سعة رحمة الله وإحسانه على خلقه. 4- عظيم حكمة الله وحسن تقديره للكائنات. 5- افتقار الانسان وتذلله وعجزه وقلة حيلته فهو أداة صغيرة في هذا الكون العظيم المسخر له 6- عظم حق الله وفضله على خلقه. وبتحقق هذه الأمور والمعاني تنتج فائدة وثمرة التفكر الكبرى في هدفين: أولا: أن يستقر في قلبه عظم الخالق وغناه وتفرده بالخلق والتدبير وتكفله برزقهم ….
فكل ذلك يجعله يقر ويعترف بتفرد الخالق بالعبادة فيخضع له ويتأله له وينصرف له بالعبادة وحده دون ما سواه.
قال قتادة: (من تفكر في خلق نفسه عرف أنه إنما خلق ولينت مفاصله للعبادة). ثانيا: أن يحدث ذلك له زيادة الإيمان فإنه إذا تعرف على كمال صفات الرب وجماله وجلاله من علم وقدرة وحكمة وحسن عادته ورحمته بالخلق وقيامه بمصالحهم وحلمه عليهم على مر الزمان وإنزال الرحمة عليهم مع كونهم يعصونه بالليل والنهار زاد إيمانه في قلبه لمشاهدته عظم الخالق فكلما زاد اليقين زاد الإيمان ولهذا كان العلماء أخشى الله من عباده. قال تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) فاطر 28. ومن التفكر المحمود النظر والتأمل والتدبر في مقاصد الشارع في أحكامه وعلل التشريع والتماس الحكمة التي بنيت عليه الأوامر والنواهي الشرعية فإن هذا الباب عظيم النفع ومن أعمل فكره فيه واستفرغ جهده وكان أهلا تكون لديه ملكة فقهية وقدرة على الاستنباط وإعمال القياس الصالح في موضعه وزال عنه كثير من إشكالات العلم واعتراضات الجهال. ومن أعظم ما يعين العبد على التفكر الخلوة عن الخلق واعتزالهم والبعد عن شواغل الدنيا وعلائق الترف ومجالس اللهو بحيث يكون القلب مستجمعا للفكرة محلا صالحا للعبرة تؤثر فيه الحكمة. ومع بيان فضل هذه العبادة وعظيم أثرها في زيادة الإيمان واليقين والتأله إلا أن كثيرا من الناس اليوم غافلا عنها معرضا عن العمل بها لشغله بالدنيا وقلة علمه وطول أمله ودخوله في الأماني الكاذبة قال تعالى: (وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آَيَاتِنَا لَغَافِلُونَ) يونس 92.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( التفكر والتدبر والتأمل (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
ومن أشرف المجالس وأعلاها الجلوس مع الفكرة في التأمل في أسماء الله وصفاته، وجنته وناره ، و نعيمه وعذابه ، وآخرته وآلائه وآياته المسطورة في كتابه والمنثورة في كونه وما خلق سبحانه و تعالى ، وما ألذ هذه المجالس وما أحلاها وما أطيبها لمن رزقها، وقال الشافعي رحمه الله: استعينوا على الكلام بالصمت وعلى الاستنباط بالفكر.
وكان الشافعي رحمه الله : من أقوى الناس عقلاً وأجودهم استنباطاً، ومن القلائل الذين مروا في الأمة الإسلامية بهذه المنزلة، وقال أيضاً: صحة النظر في الأمور نجاة من الغرور والعزم على الرأي سلامة من التفريط والندم والفكر يكشفان عن الحزم والفطنة و مشاورة الحكماء ثبات في النفس وقوة في البصيرة ، ففكر قبل أن تعزم وتدبر قبل أن تهجم وشاور قبل أن تقدم. وقال أيضاً : الفضائل أربع، إحداها الحكمة وقوامها الفكرة والثانية العفة وقوامها التغلب على الشهوة والثالث القوة و قوامها التغلب على الغضب ، والرابعة العدل وقوامه في اعتدال قوى النفس.
أيها المسلمون
إن التأمّل في مطلع الشمس ومغيبها، والتأمّل في الظلّ الممدود ينقص بلطف ويزيد، والتأمل في العين الوافرة الفوّارة والنبع الرويّ، والتأمّل في النبتة النامية والبرعم الناعم والزهرة المتفتّحة والحصيد الهشيم، والتأمّل في الطائر السابح في الفضاء والسمك السابح في الماء والدود السارب والنمل الدائب، التأمل في صبح أو مساء، في سكون الليل أو في حركة النهار، إن التأمل في كل ذلك يحرّك القلبَ لهذا الخلق العجيب، وُيشعر العبدَ بعظمة الخالق تبارك وتعالى، قال جل وعلا: ﴿ وَمِنْ ءايَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاواتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ﴾ الشورى 29، وقال تعالى: ﴿ تَبَارَكَ الَّذِى جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا… ﴾ الفرقان 61. وهذه المجرات المنطلقة، والكواكب التي تزحم الفضاء وتخترق عُباب السماء، معلّقة لا تسقط، سائرة لا تقف، لا تزيغ ولا تصطدم، قال تعالى : ﴿ وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾. يس 38: 40 ، فمن الذي سيّر أفلاكها؟! ومن الذي نظّم مَسارها وأشرف على مدارها؟! ومن أمسك أجرامها ودبّر أمرها؟! ﴿ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِى خوضهم يلعبون ﴾ الانعام 91. وقال تعالى : ﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾. فاطر (41)
عباد الله
إن آيات الله في الكون لا تتجلى على حقيقتها ولا تؤدّي مفعولها إلا للقلوب الذاكرة الحَيّة المؤمنة، تلك التي تنظر في الكون بعين التأمل والتدبّر، تلك التي تُعمِل بصائرها وأبصارها وأسماعها وعقولها، ولا تقف عند حدود النظر المشهود، لتنتفع بآيات الله في الكون، . ﴿ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وقعودًا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ﴾. أما الكفرة والملحدون، فهم عُميُ البصائر غُلف القلوب، إنهم لا يتبصّرون الآيات وهم يُبصرونها، ولا يَفقهون حِكمتها وهم يتقلّبون فيها، فأنّى لهم أن ينتفعوا بها؟! قال تعالى :﴿ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مّنَ الْحياةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ﴾ الروم 7، وقال تعالى : ﴿ وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ ﴾ الحجر 14 ، 15. فإن الناظر في الكون وآفاقه يَشعُرُ بجلال الله وعظمته، الكون كلّه عاليه ودانيه، صامته وناطقُه، أحياؤه وجماداته، كله خاضع لأمر الله، منقاد لتدبيره، شاهد بوحدانيته وعظمته، ناطق بآيات علمه وحكمته، دائم التسبيح بحمده، قال تعالى : ﴿ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾ الاسراء (44).
وفي هذا المعنى يقول الشاعر:
تأمل في نبات الأرض وانظر إلى آثار ما صنع المليك
عيون من لجين شاخصات بأحداث هي الذهب السبيك
على كثب الزبرجد شاهدات بأن الله ليس له شريك
وأخرج البخاري ومسلم (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ – رضى الله عنه – قَالَ جَاءَ حَبْرٌ مِنَ الأَحْبَارِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ ، إِنَّا نَجِدُ أَنَّ اللَّهَ يَجْعَلُ السَّمَوَاتِ عَلَى إِصْبَعٍ وَالأَرَضِينَ عَلَى إِصْبَعٍ ، وَالشَّجَرَ عَلَى إِصْبَعٍ ، وَالْمَاءَ وَالثَّرَى عَلَى إِصْبَعٍ ، وَسَائِرَ الْخَلاَئِقِ عَلَى إِصْبَعٍ ، فَيَقُولُ أَنَا الْمَلِكُ . فَضَحِكَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ تَصْدِيقًا لِقَوْلِ الْحَبْرِ ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – ( وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) الزمر 67 .
الدعاء