خطبة عن الخطإ (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ)
أبريل 20, 2024خطبة عن (استشعار عظمة الله)
أبريل 22, 2024الخطبة الأولى ( أَيُّكُمْ مُحَمَّدٌ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
روى الإمام البخاري في صحيحه : ( أن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ مَعَ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – فِي الْمَسْجِدِ ،دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى جَمَلٍ فَأَنَاخَهُ فِي الْمَسْجِدِ ،ثُمَّ عَقَلَهُ ،ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: أَيُّكُمْ مُحَمَّدٌ، وَالنَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – مُتَّكِئٌ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ . فَقُلْنَا: هَذَا الرَّجُلُ الأَبْيَضُ الْمُتَّكِئُ .فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: ابْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – :« قَدْ أَجَبْتُكَ » .فَقَالَ الرَّجُلُ لِلنَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – إِنِّي سَائِلُكَ ،فَمُشَدِّدٌ عَلَيْكَ فِي الْمَسْأَلَةِ ،فَلاَ تَجِدْ عَلَيَّ فِي نَفْسِكَ .فَقَالَ: « سَلْ عَمَّا بَدَا لَكَ » .فَقَالَ: أَسْأَلُكَ بِرَبِّكَ وَرَبِّ مَنْ قَبْلَكَ ،آللَّهُ أَرْسَلَكَ إِلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ، فَقَالَ: « اللَّهُمَّ نَعَمْ » .قَالَ أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ ،آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ نُصَلِّيَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، قَالَ: « اللَّهُمَّ نَعَمْ » .قَالَ أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ ،آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ نَصُومَ هَذَا الشَّهْرَ مِنَ السَّنَةِ، قَالَ: « اللَّهُمَّ نَعَمْ » .قَالَ أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ ،آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ تَأْخُذَ هَذِهِ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِنَا فَتَقْسِمَهَا عَلَى فُقَرَائِنَا، فَقَالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – :« اللَّهُمَّ نَعَمْ » .فَقَالَ الرَّجُلُ آمَنْتُ بِمَا جِئْتَ بِهِ ،وَأَنَا رَسُولُ مَنْ وَرَائِي مِنْ قَوْمِي ،وَأَنَا ضِمَامُ بْنُ ثَعْلَبَةَ أَخُو بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ
إخوة الإسلام
إذا تأملنا وتدبرنا هذا الحديث النبوي الكريم ،ومن خلال قول هذا الرجل : (أَيُّكُمْ مُحَمَّدٌ) وَالنَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – مُتَّكِئٌ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ .فَقُلْنَا هَذَا الرَّجُلُ الأَبْيَضُ الْمُتَّكِئُ .فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ ابْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – « قَدْ أَجَبْتُكَ »، لتبين لنا أمرا عجيبا ،وخلقا فريدا ،وقائدا فذا ،ونفسا طاهرة زكية، وقلبا نقيا ،فهذا الرجل الأعرابي القادم على مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجده، يسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛لأنه لم يعرفه من قبلُ، ولا يرى شيئًا يُمَيِّزه صلى الله عليه وسلم في المجلس عمن حوله ،مِن مجلسٍ ،أو ملبَسٍ ،أو هيئة، فحين يأتي هذا الأعرابيٌّ ويسأل : (أَيُّكُمْ مُحَمَّدٌ ) والنبي ﷺ بين أصحابه ،فهذا القول فيه دليل على أنه صلى الله عليه وسلم لا يوجد في مجلسه صلى الله عليه وسلم مظاهر زعامة ،ولا كرسي عالٍ ،ولا لبس خاص ،إنه التواضع … إنه رسول الله محمد ﷺ ،وقد تكرر مثل هذا السؤال من الغريب الذي يأتي ولم يعرف شخص النبي القائد – صلى الله عليه وسلم – من قبل، فلا يرى ما يميزه عن أصحابه فيسأل عنه: “أيُّكم محمد؟”؛ ومما يزيدك إجلالاً وتوقيرًا لأعظم قائد عرفَتْه الدنيا صلى الله عليه وسلم أن أصحابه يدلُّون السائل، أو الرسول الكريم نفسُه يَدُلُّ السائل، فيشير إلى نفسه دون أي رسميات ،أو همز ولمز، أو قضم شفاه، أو تقطيب جباه، أو حتى على الأقل ابتسامة مُغْضَب، لا، لم يحصل من ذلك شيء، بل ولا حتى حديث نفس؛ لذا ،فإن تاقت النفس للمعالي ،فلن تجد أفسح مجالاً ،ولا أمتع حديثًا، ولا أصدق حالاً، من سيرة سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم .
(أَيُّكُمْ مُحَمَّدٌ )، فلم يُميز نفسه ﷺ بعمامة، ولم يرتفع على كرسي، ولم يبتعد عن أصحابه، هذا الذي بلغ سدرة المنتهى، ولم يُقاربهُ أحدٌ علوًّا ولا رفعة ،ولكنهُ عاش بينَ الناس ﷺ واحِدًا منهم، يلبسُ مما يلبسُ أوسطُهم ،ويأكلُ ممّا يأكلون ، لقد كان أجود الناس كفًا، وأنقى الناس صدرًا، وأصدق الناس لهجة ،وأوفاهم بذمّة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشيرة، من رآه بديهةً هابه، ومن خالطه معرفةً أحبّه، عاش يتيمًا ،ولكن كان “رحمةً للعالمين”، كان أميًّا ،ولكنه المعلِّم الأول، والقُرآن الذي يمشي على الأرض، وكان أثقلهم همًّا ،وأكثرهم تبسُّمًا، أشدّ من أوذي ،وأحلمُ من صفح، إنه رجلٌ دُوِّنت لأجله الدَّواوين، وجُرح وعُدِّل في أقواله الرجال، أدى الأمانة ،وبلغ الرسالة، وما ترك أمرا يقربنا إلى الجنة إلا دلنا عليه ، ولا أمر يقرب من النار إلا وحذرنا منه.
(أَيُّكُمْ مُحَمَّدٌ )، إنه التواضع ،ومن رام التحلي بهذه الفضيلة فليَرْمِ بكلام الناس جانبًا، وليصنع يقينًا داخليًّا أن العلو والرفعة بالمبادئ والقيم والأخلاق، وليصبرْ وليحتسبْ ،ويكابد حظوظ النفس؛ فهي أكبر عدو لهذا الخلق الرفيع ،وليكن معلوما أن التواضع ليس دعوةً إلى ترك العناية بالمظهر والمأكل ورسومات الرُّتَب والمناصب، بقدْر ما هي دعوة إلى أن تبقى كل تلك في محلِّها، لا أن تسيطر على القلب ،وتشغل الفكر ،وتصبح همَّ الليل والنهار ،ويكفي المتواضع فخرًا أن (وما تَواضَعَ أحَدٌ لِلَّهِ إلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ) صحيح مسلم، ويكفي التواضع حافزًا أنه (لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ مَن كانَ في قَلْبِهِ مِثْقالُ ذَرَّةٍ مِن كِبْرٍ ) صحيح مسلم ،وقال الله تبارك وتعالى: ﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا ﴾ [الفرقان: 63]. فليس كالتواضع خلق في كسب القلوب وفتحها ،والوصول إليها؛ فهو يمحو المسافات والحواجز – الوهمية والحقيقية – ويُوَفِّر الوقت والجهد، ويُعِين على قبول النصيحة، ويرفع قَدْر صاحبه، ويجعل له مكانة في القلوب ،لا يصل إليها كثير ممن يطلبها بطرق مادية وأساليب ملتوية، وتزداد مكانة المتواضع وترتفع درجته كلما كان صاحبَ منصب ،أو مكانة وجاهٍ في مجتمعه ومحيطه؛ فهو من المدير أجمل منه ممن دونه، وهو من الغني أجمل منه من الفقير، وهكذا.
ومبعث التواضع وسببه الرئيس هو الشعور الداخلي لدى صاحبه ،بأنه وما يملك عبدٌ لله تبارك وتعالى، ومِلكٌ له سبحانه وتعالى، وأن مرجعه ومآله إليه، وأن ما هو فيه من فضل ونعمة فمِن الله؛ ليبتليه وينظر تعامله مع خلقه ، فكلما خالطَتْ نفسَك نشوةُ افتخار وعُجْب ،ألْجِمْها بزمام التواضع سريعًا؛ فإن مَنْفَذ الكبرِ إذا فُتح يصعُب غلقُه، وإذا انطلق يَبْعُد كبحُ جماحه، وبادِرْ إلى سلوك عملي تعيد فيه لنفسك توازنها، وتُوقِف نَزَقَها، ومما يزيد التواضع ويقوّيه تربيةُ النفس على معايشة الآخرين الأقل حظًّا أو جاهًا، والقرب منهم، ومخالطة الناس بأنواعهم، والتفكّر في حالات النفس ومصيرها.
أيها المسلمون
والتواضع خُلق كبير يُوهَبُ جِبلَّةً، ويُكتَسَب ممارسةً، فمن تفضَّلَ الله عليه بجرعة تواضع فليحافظ عليها ،ويزِدْها سُقْيَا ورعايةً، ومن افتقدها فليحرصْ على بذر بَذْرَتِها، ويتعاهد نموّها، ويحمي حماها من غوائل النفس ،وعوائد الطباع ،والتواضع ممارسة لا يحتاج إلى تكلُّف أو تصنُّع، فصاحب التكلف مفضوح ولو بعد حين، وسقطات المواقف كفيلة بتمَيُّز الصادق من غيره، فعليك بمجاهدة النفس أولاً؛ فهي الأرض الخصبة لنبات التواضع إنْ صَدَقَ صاحبُها في طلبه، ولا تفهم أن التواضع لباسٌ رَثٌّ، وأكْلٌ غَثٌّ، فكم من مُرَقَّع الثياب قلبه يكتوي بنار الكِبْر، وصدره يضيق بزفرات السخرية والعُجب ،
وللتواضع علامات؛ أقواها استسلام العبد لسيده وخالقه تبارك وتعالى، وانقياده لأمره، وتذلُّل الروح والبدن بين يديه، ومع الْخَلْق اعترافٌ بما لديهم من فضائل، وبما يملكون من مميزات.
أيها المسلمون
(أَيُّكُمْ مُحَمَّدٌ ) قالها الأعرابي لأنه لم ير شخصاً متميزاً في مجلسه أو ملبسه أو ردّه ومنطقه صلى الله عليه وسلم ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو قدوتنا ،وفيه أسوتنا ،فعلينا أن نتخلق بأخلاقه ،ونسير على دربه ، ونلتمس هداه ، ونسير على خطاه، وخلق التواضع من أخلاقه صلى الله عليه وسلم ، فلنتخلق بهذا الخلق العظيم ،وضابط هذا الخلق هو أن تعيش أيها المتواضع مثلك مثل الناس، فلا تلبس لبسا فارقا ،مهما كانت منزلتك ومكانتك، فها هو قائد الأمة ومعلمها ورسول رب العالمين بلغ أعلى المراتب وبلغ سدرة المنتهى واتخذه الله خليلا ،وعصمه من الخطأ والزلل ،ومع كل هذا كان لا يعرف بين أصحابه من تواضعه صلوات الله وسلامه عليه ،فأمتنا الاسلامية اليوم تحتاج لنماذج حية ينطبق عليها (أَيُّكُمْ مُحَمَّدٌ) ،نحتاجها إذا رأينا شيخًا مع طلابه أن نسأل (أيكم الشيخ) ،ونحتاج مديرا في مؤسسة إذا رأيناه في مجمع للموظفين أن نقول: (أيكم المدير) و(أيكم المسؤول) ، ونحتاج أن نرى القدوات تجلس بيننا ومعنا، نحتاج أن نرى شيوخ العلم وشيوخ المال وشيوخ السن والوجاهة أن يعيشوا بيننا ،لينقدح في ذهن من لا يعرفهم سؤال : (أيكم الوجيه وذو المكانة).
ومن المؤسف والمحزن أن الواقع اليوم -إلا ما رحم ربي- يقوم على التفريق والطبقية في نطاق العمل وفي ملحقاته وخارجه، فمكتب مدير الادارة أكبر من مكتب مدير القسم ،ومكتب مدير القسم أكبر من مكتب نائبه وأجمل ،وهكذا ،وواقع بعض المسؤولين إذا خرجوا -حتى لو نزهة هدفها كسر الحاجز بين المدير وموظفيه- فتجده يتصدر المجلس ،ويأخذ الحديث الأكثر، فنحن نحتاج واقعياً في عصرنا هذا إلى معلم أو مدير يفطر مع الطلاب ويجالسهم خارج الحصص ليتساءل المشرف الزائر وولي الأمر (أيكم المعلم).، فالواقع اليوم ما إن تدخل دائرة حكومية أو أهلية إلا وتعرف مرتبة صاحب المكتب من نظرتك الأولى، بل بعض الأحيان تعرفه من خلال سيره في الممرات فالمدير لا يمشي إلا ومعه عدد من الموظفين ،وكلما علت دائرته وارتفع منصبه كلما زاد الذين يسيرون وراءه، حتى في خروجه للصلاة مع كل أسف ،فأين نحن من (أَيُّكُمْ مُحَمَّدٌ) ، فالمتأمل في حال المسلمين اليوم يجد أن قدواتنا ورموزنا صنعوا حاجزا بينهم وبين عامة الناس، فأصبح من الصعب على من يريد الانتفاع بعلمهم وأدبهم ونجاحهم الوصول إليهم، وأصبح يحتاج إلى كفاح طويل ليصل إليهم ،
(أَيُّكُمْ مُحَمَّدٌ) فيا أيها العلماء، وأيها الرؤساء والمدراء ،وأيها المسؤولون وأهل المناصب، وأيها القدوات: لقد رفع الله شأنكم بتوفيقه ثم بجهدكم، ولن يضل الله قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون، وقد حذر الله من الكبر، وأمرنا بالاقتداء برسوله الكريم ، الذي اتسم بالتواضع ،فنالت البشرية من تواضعه علوما جمة ،وأخلاقا حميدة، لا نزال نسير على أثرها إلى يومنا هذا، فبه فلنقتدِ، وبتواضعه فلنهتدِ، وليكن نصب أعينكم قول هذا الأعرابي (أَيُّكُمْ مُحَمَّدٌ) ،فلنحرص على التواضع ،والبعد عن الكبر ومحبة تمييز النفس، لننال الخير في الدارين، فنعيم راحة النفس والشعور بالأمان بين الناس نعيم لا يوصف وقد حرمه المتكبرون ،
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( أَيُّكُمْ مُحَمَّدٌ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
إن التواضع صفة محمودة ،وسبيل لنيل رضا الله سبحانه وتعالى، وقد جعل الله سبحانه وتعالى سنّة جارية في خلقه أن يرفع المتواضعين لجلاله، وأن يذل المتكبرين المتجبرين، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ ،وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إلَّا عِزًّا ،وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى } أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. فما أجمل التواضع لله ،واللين مع خلق الله، وخاصة إن كان المتواضع لله ممن عُرف بالجاه والسلطان، فذلك الخلق العظيم شيمة الأطهار ،سليمي القلب الخالي من الكبر والخيلاء، ولكننا إذا نظرنا لحال البشر عندما يفتح الله عليهم ويعطيهم المال أو السلطان، نجدهم ينسون أصلهم وينسون أنهم ما خُلقوا ملوك أو رؤساء أو غيره من مناصب الدنيا الفانية، بل ولا يحاولون تذكر ذلك، ويسعون في طمث حياتهم السابقة .
وعن تواضُع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته ومع زوجاته، تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: «ما كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يَعْمَلُ في بَيتِه؟ قالتْ: كان بَشَرًا مِنَ البَشَرِ؛ يَفْلِي ثَوْبَهُ ويَحْلُبُ شَاتَهُ» (صحيح الأدب المفرد). وكان -صلوات ربي وسلامه عليه-، يُدخل السرور إلى قلوب زوجاته أُمّهات المؤمنين ما وجد إلى ذلك سبيلًا، كما كان -صلى الله عليه وسلم- يُكرمهنّ وينزلهنّ مكانتهنّ. وقد دعا صلى الله عليه وسلم إلى التواضع، وحَثَّ عليه بقوله: «إنَّ اللهَ أوْحَى إِلَيَّ أنْ تَوَاضَعُوا حتى لا يَفْخَرَ أحدٌ على أَحَدٍ، ولا يَبْغِي أحدٌ على أَحَدٍ» (السلسلة الصحيح) ، ومن نماذج تواضعه صلى الله عليه وسلم أنه كان يجلس مع الفقراء والمساكين ويصغي إليهم، ويجيب دعوة العبد وينصت للأمة فلا يتركها وينصرف حتى تنصرف ، وفي ذلك يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: “كانت الأَمَةُ مِن إماءِ أهل المدينة لَتَأخُذُ بيدِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فتَنطلِقُ به حيث شاءَتْ” (صحيح البخاري). وكان صلى الله عليه وسلم ينهى أصحابه من القيام بين يديه، فقال صلوات ربي عليه: «لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظم بعضها بعضًا» (سنن أبي داود)، وقال صلى الله عليه وسلم: «من أحبَّ أن يتمثَّلَ له النَّاسُ قيامًا، فليتبوَّأْ مقعدَه من النَّارِ» (السلسلة الصحيحة)، وهذا من شدة تواضعه صلوات ربي عليه، بل أنه حذر ممن يحب ذلك ،ويتكبر على الناس ويحب القيام تعظيمًا له بأن ينتظر مقعده في النار، وكان صلوات ربي عليه يقول في جلوسه وطعامه: «آكُل كما يأكلُ العبدُ، وأجلِسُ كما يجلسُ العبدُ، فإنَّما أنا عبدٌ» (صحيح الجامع)، ولذلك عندما خُير صلوات ربي عليه في حديث طويل بينه وبين جبريل على الصفا بين أن يكون نبيًا ملكًا، أو عبدًا نبيًا فقال عليه الصلاة والسلام: «…بل نبيًّا عبدًا ثلاثًا» (حسن إسناده المنذري في الترغيب والترهيب)، ولو شاء الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكون نبيًا ملكًا لكان له ما طلب ،ولفتح الله عليه خزائن الأرض، ولكن خلقه الكريم ،وشدة تواضعه ،جعلته يأبى إلا أن يكون نبيًا عبدًا..!، (فأَيُّكُمْ مُحَمَّدٌ)
الدعاء