خطبة عن (رقة القلب وقسوته)
فبراير 13, 2024خطبة عن (من صور اللعب والتلاعب بالدين)
فبراير 15, 2024الخطبة الأولى (التَّوَكُّلُ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (159) آل عمران
إخوة الاسلام
التوكل على الله تعالى: هو الاتكال والاعتماد على الله – عز وجل – وإظهار العجز في الاعتماد على غيره، فالتَّوَكُّلُ: انْفِعالٌ قَلْبِيٌّ عَقْلِيٌّ، يَتَوَجَّهُ بِهِ الفاعِلُ إلى اللَّهِ، راجِيًا الإعانَةَ، ومُسْتَعِيذًا مِنَ الخَيْبَةِ والعَوائِقِ، ورُبَّما رافَقَهُ قَوْلٌ لِسانِيٌّ، وهو الدُّعاءُ بِذَلِكَ، فالتوكُّل: عبادة قلبية، تكون مع الأخذ بالأسباب، فيتوكل العبد على الله – جل جلاله – بقلبه، وتأخذ جوارحه بالأسباب، وإلا كان تواكُلاً، ولا يستقيم توكل العبد حتى يصح له توحيده، وهو: اعتماد القلب على الله تعالى، واستناده إليه، وسكونه إليه، وحسن الظن به، قال ابن رجب الحنبلي – رحمه الله -: (وحقيقة التوكُّل هو صدق اعتماد القلب على الله – عز وجل – في استجلاب المنافع، ودفع المضارِّ، من أمور الدنيا والآخرة كلها، وتحقيق الإيمان بأنه لا يعطي ولا يمنع ولا يضرُّ ولا ينفع سواه)،
والمتوكل: هو الذي ترك الاختيار والتدبير، في رجاء زيادة أو خوف نقصان، أو طلب صحة أو فرار من سقم, وعلم أن الله علي كل شيء قدير، وأنه المتفرد بالاختيار والتدبير, وأن تدبيره لعبده خير من تدبير العبد لنفسه, وأنه أعلم بمصلحته منه، وأقدر علي جلبها وتحصيلها منه, وأنصح للعبد منه لنفسه، وأرحم به منه بنفسه, وأبر به منه بنفسه.
والله سبحانه قد أمر العبد بأمر، وضمن له ضمانا, فإن قام بأمره بالنصح والصدق والاخلاص والاجتهاد, قام الله سبحانه له بما ضمنه له من الرزق والكفاية والنصر، وقضاء الحوائج, فإنه سبحانه ضمن الرزق لمن عبده، والنصر لمن توكل عليه، واستنصر به, والكفاية لمن كان هو همه ومراده, وقضاء الحوائج لمن صدقه في طلبها،
ولما كان الرزق واحدا من أهم هموم البشر، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجه البوصلة نحو التوكل، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو فر أحدكم من رزقه لأدركه كما يدركه الموت» رواه الطبراني، ولأن التوكل هو مفتاح مهم في العلاقة مع الله ـ جل جلاله ـ فقد أمر الله ـ جل جلاله ـ المؤمنين أن يتوكلوا عليه، فقال تعالى: «اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» (13) التغابن،
والمتوكلون هم الذين يتوكلون على الله، ويعتمدون عليه، مع إظهار العجز، ويفوضون جميع أمورهم إليه.. ويثقون بالله، ويوقنون بأن قضاءه ماض، ويتبعون سنة نبيه صلى الله عليه وسلم فيما لا بد منه من الأسباب: من مطعم، ومشرب، وتحرز من عدو، وإعداد الأسلحة، واستعمال ما تقضيه سنة الله تعالى المعتادة.. ولا يطمئنون إلى شيء من تلك الأسباب، ولا يلتفتون إليها بالقلوب، ولا يتعاطونها إلا بحكم الأمر، فإنها لا تجلب نفعاً، ولا تدفع ضراً، بل السبب والمسبب فعل الله تعالى، والكل منه وبمشيئته.
والتوكل: منزل من منازل الدين، ومقام من مقامات الموقنين، بل هو من معالي درجات المقربين، وأعظم بمقام موسوم بمحبة الله تعالى صاحبه، ومضمون كفاية الله تعالى ملابسه، فمن الله تعالى حسبه وكافيه، ومحبه ومراعية: فقد فاز الفوز العظيم، فإن المحبوب لا يعذب ولا يبعد ولا يحجب.
والله تعالى يحب المتوكلين عليه، فيوفقهم ويؤيدهم، لِأنَّ التَّوَكُّلَ عَلامَةُ صِدْقِ الإيمانِ، وفِيهِ مُلاحَظَةُ عَظَمَةِ اللَّهِ وقُدْرَتِهِ، واعْتِقادُ الحاجَةِ إلَيْهِ، وعَدَمُ الِاسْتِغْناءِ عَنْهُ، وهَذا أدَبٌ عَظِيمٌ مَعَ الخالِقِ، يَدُلُّ عَلى مَحَبَّةِ العَبْدِ رَبَّهُ ، فَلِذَلِكَ أحَبَّهُ اللَّهُ. فمَن يعتمد على الله – جل جلاله – اعتمادًا نابعًا من حبه له، مكتفيًا به ومستغنيًا عن غيره، متوكلاً عليه وحده – جل جلاله – فإن الله – جل جلاله – سيحبه ،ويكفيه، وذلك هو السرُّ في ربط الرزق بالتوكل؛ ففي سنن الترمذي: (عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرُزِقْتُمْ كَمَا تُرْزَقُ الطَّيْرُ تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا».
أيها المسلمون
والمتدبر لقوله تعالى: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (159) آل عمران، أَيْ: إِذَا شَاوَرْتَهُمْ فِي الْأَمْرِ، وَعَزَمْتَ عَلَيْهِ، فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فِيهِ، فإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ، وفي هذا سرٌّ عظيمٌ، وهو أنَّك مع الاستشارة والحزم والعناية، توكّل على الله في الأمور، وفوّض إليه، والجأ إليه في نجاح الأمور وسدادها وإصابتها، ولا تظنّ أنَّ هذه الاستشارة، وهذا العزم، تنجح به الأمور، لا، فتوكّل على الله في نجاحها، وعليك الأسباب، واعتمد عليه سبحانه، فهو الذي يُيسّر الأمور، وليس جهدك ومُشاورتك هي التي يحصل بها المقصود وحدها، بل هي من الأسباب، ومن أسباب النجاح، والنجاح بيده سبحانه، والتوفيق بيده جلَّ وعلا، فتوكّل عليه، و فوّض إليه أمرك، وأحسن به الظنّ، واسأله العون والتّوفيق.
وللتوكل على الله تعالى فوائد وثمرات عديدة، ومنها: أن المتوكل على الله يضمن معية الله – جل جلاله -؛ قال تعالى: ﴿ إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [الأنفال: 49]، ومن ثمرات التوكل على الله تعالى: أن الله تعالى يضمن له الرزق، ففي سنن الترمذي: (عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرُزِقْتُمْ كَمَا تُرْزَقُ الطَّيْرُ تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا». ومن ثمرات التوكل على الله تعالى: أن المتوكلين ممن يدخلون الجنة بغير حساب، ففي الصحيحين: (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ «يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ، هُمُ الَّذِينَ لاَ يَسْتَرْقُونَ، وَلاَ يَتَطَيَّرُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ»، ومع التوكل على الله – جل جلاله – يستحضر المتوكل معاني أخرى، منها: الثقة بالله، وقدرته ورحمته، والاعتماد عليه، وقوة اليقين به، ومن ثمرات التوكل على الله تعالى: أنه يحفظ من همسات الشيطان، قال الله تعالى: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (98)، (99) النحل، وفي سنن الترمذي: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «مَنْ قَالَ – يَعْنِي إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ – بِسْمِ اللَّهِ تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ. يُقَالُ لَهُ كُفِيتَ وَوُقِيتَ. وَتَنَحَّى عَنْهُ الشَّيْطَانُ »، ومن ثمرات التوكل على الله تعالى: أنه يجعل الناس راضون ومتفائلون، ويذهب التشاؤم، ففي سنن أبي داود: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «الطِّيَرَةُ شِرْكٌ وَمَا مِنَّا إِلاَّ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُذْهِبُهُ بِالتَّوَكُّلِ». ومن ثمرات التوكل على الله تعالى: أن التوكل الحق على الله، هو طريق للعزة: قال الله تعالى: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (49) الانفال، ومن ثمرات التوكل على الله تعالى: أن التوكل الحق على الله عنوان للإيمان بالله، قال تعالى: (وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (23) المائدة، فالمؤمن الصادق هو من يتوكل على الله. والتوكل يصلح الأحوال ويفرج الهم، ويدفع البلاء، ويخفف المصائب والفتن. ويأمن الناس من الخوف، فالقلب المتصل بالله سبحانه وتعالى يكون مطمئنا وواثقا في أقدار الله.
أقول قولي واستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (التَّوَكُّلُ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
ومن ثمرات التوكل على الله تعالى: أن التوكل يكون سببا في إجابة الدعوات، وتحقيق المطالب، فبثقة العبد في ربه، وتوكله عليه، تتحقق مطالبه، وتجاب دعواته .
وأحذركم ونفسي من التوكل على غير اللهﷻ، فالتوكل على غير الله، فيما لا يقدر عليه إلا الله: من جلب المنافع، ودفع المضار، شرك أكبر، فإذا كان التوكل على الله من تمام الإيمان، فالتوكل على غير الله فيما لا يقدر عليه غير الله من الشرك الأكبر، قال تعالى: ﴿وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِين﴾ يونس: (84)، وفي صحيح مسلم: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلاً أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ».
ومن ثمرات التوكل: أن التوكل على الله من أعظم الدروع التي تقي العبد من أذى المؤذين، وعدوان المعتدين، وظلم الظالمين، فيشعر المتوكل عند ذلك بالأمان والاطمئنان. قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾ [آل عمران: 173]. قال تعالى: ﴿فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ﴾ [آل عمران: 174]. قال ابن القيم رحمه الله: ” التوكل من أقوى الأسباب التي يدفع بها العبد ما لا يطيق من أذى الخلق وظلمهم وعدوانهم”
ألا، فلنتوكل على الله توكلاً صادقًا في جميع شؤون حياتنا؛ فإن المتوكلين على الله أسعد الناس، وأحراهم بنيل ما يرجون، ولهم الأمان مما يخافون، قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ﴾ [الطلاق: 3]
الدعاء