خطبة عن قوله تعالى (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا)
يناير 6, 2018خطبة عن الاعتدال في الطعام والشراب ( وكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا)
يناير 6, 2018الخطبة الأولى ( الثقة بالله والتوكل عليه )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته : ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾ [الطلاق: 2-3]. وروى الترمذي بسند صحيح (عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرُزِقْتُمْ كَمَا تُرْزَقُ الطَّيْرُ تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا ». وأَخرَجَ ابنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ: {أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – وَأَرَادَ أَن يَترُكَ نَاقَتَهُ وَقَالَ: أَأَعقِلُهَا وَأَتَوَكَّلُ، أَو أُطلِقُهَا وَأَتَوَكَّلُ؟ فَقَالَ – صلى الله عليه وسلم -: اعقِلهَا، وَتَوَكَّل}.
إخوة الإسلام
إن الثقة بالله تعالى خلق كريم ، وكنز عظيم، ومنزلة من منازل الإيمان العالية، إذا ظفر بها المسلم ،وصل إلى الراحة والسعادة ، وذهاب القلق والهموم والغموم، وزاد إيمانه وكثر إحسانه . والثقة بالله: هي اليقين الثابت بكمال الله بصفات الجلال والجمال, وبصدق وعده, وعظيم قدرته, وإحاطة علمه بكل شيء. والثقة بالله تعالى : هي اطمئنان قلبي لا يخالطه ريب، وتسليم مطلق لمن يصرف أمور خلقه وحده. الثقة بالله : هي ألا تسعى في طمع، ولا تتكلم في طمع، ولا ترجو سوى الله ، ولا تخاف ولا تخشى إلا الله ،والثقة بالله تعالى : هي معراج وثيق يصل بين العبد وربه، يصل به إلى المحبوبات والمرغوبات، وينجو به من المكروهات والمرهوبات. والثقة بالله تعالى : هي صرح شامخ في قلب المؤمن لا تهزه عواصف المصائب والمحن، بل تزيده شموخاً ورسوخاً، والواثق بالله يعتقد أن الله تعالى إذا حكم بحكم ، أو قضى أمراً ،فلا مرد لقضائه، ولا معقب لحكمه، فتعلق العبد بخالقه ومعبوده سبحانه وتعالى مطلب من مطالب العبودية لله تعالى، وعلى قدره يكون تأييد الله تعالى ونصره وقربه وعونه لعبده. والإنسان مهما بلغ من قوة الوسائل في الوصول إلى المطالب والرغائب فإنه ضعيف عاجز؛ لأن الضعف وصف خلقي ملازم للإنسان منذ خلق إلى أن يموت ، قال تعالى: ﴿ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً ﴾ [النساء: 28]. وهذا يوجب على الإنسان أن يطلب القوة والقدرة على ما يريد من الله القوي المتين سبحانه وتعالى. وأن لا يركن إلى نفسه وقوته؛ لأنه لو فعل ذلك لكان الخسران والخذلان في انتظاره. والثقة بالله هي السلك الناظم لأمور التديّن بعامّة, وهي الجدار الحافظ بإذن الله لقلب المؤمن من قواصف الشبهات ،وعواصف الشهوات, والثقة بالله صفة من صفات الأنبياء؛ فهذا خليل الرحمن إبراهيم -عليه السلام- حينما ألقي في النار كان على ثقة عظيمة بالله؛ حيث قال : “حسبنا الله ونعم الوكيل ” ، فكفاه الله شر ما أرادوا به من كيد، وحفظه من أن تصيبه النار بسوء، قال تعالى: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} الأنبياء (69) . وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ﴿ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾ [آل عمران: 173]. قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا: ﴿ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾ رواه البخاري ، وفي صحيح البخاري قال (أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ حَدَّثَهُ قَالَ نَظَرْتُ إِلَى أَقْدَامِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى رُءُوسِنَا وَنَحْنُ فِي الْغَارِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ إِلَى قَدَمَيْهِ أَبْصَرَنَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ فَقَالَ « يَا أَبَا بَكْرٍ مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا » . فالثقة بالله هي سفينة نجاة المتقين, وهي حبل وصول المقربين, وهي سلاح الصابرين في دار الابتلاء والامتحان المبين.
أيها المسلمون
والثقة بالله.. تجدها في هاجر عندما ولى زوجها وقد تركها في واد غير ذي زرع.. صحراء قاحلة وشمس ملتهبة ووحشة.. قائلة: يا إبراهيم لمن تتركنا.. قالتها فقط لتسمع منه كلمة يطمئن بها قلبها.. فلما علمت أنه أمر إلهي قالت بعزة الواثق بالله.. إذا لا يضيعنا ، ففجر لها ماء زمزم وخلد سعيها . الثقة بالله.. تجدها في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم أحد ، حين قيل لهم.. إن الكفار قد جمعوا لكم فاخشوهم.. ولكن ثقتهم بالله أكبر من قوة أعدائهم وعدتهم.. فقالوا بعزة الواثق بالله: حسبنا الله ونعم الوكيل، فخلد الله كلمتهم في كتابه ، قال الله تعالى :(الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) (173) ،(174) آل عمران ، فالثقة بالله: هي نعيم بالحياة، وهي طمأنينة بالنفس، وهي قرة العين، وهي أنشودة السعداء. ومن وثق بالله نجاه من كل كرب أهمه؛ قال أبو العالية: “إن الله – تعالى- قضى على نفسه أن من آمن به هداه، وتصديق ذلك في كتاب الله قوله تعالى : {وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} التغابن (11) ، ومن توكل عليه كفاه، وتصديق ذلك في كتاب الله: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} الطلاق (3) ، ومن أقرضه جازاه، وتصديق ذلك في كتاب الله: {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} البقرة (245) ، ومن استجار من عذابه أجاره، وتصديق ذلك في كتاب الله: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا} آل عمران (103) ، والاعتصام الثقة بالله، ومن دعاه أجابه، وتصديق ذلك في كتاب الله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} البقرة (186) ، حلية الأولياء
أيها المسلمون
ومن الثقة بالله أن يكون العبد موقنا بأن الله رازقه، ففي مسند أحمد وغيره أن (نَبِيَّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « لَوْ أَنَّكُمْ تَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ تَغْدُو خِمَاصاً وَتَرُوحُ بِطَاناً » فإذا وثق العبد بالله، وأيقن أنه رازقه وكافيه زهد في هذه الدنيا، وعاش فيها راضيا مطمئنا، قيل لحاتم الأصم: “على ما بنيت أمرك هذا من التوكل؟ قال: على أربع خلال: “علمت أن رزقي لا يأكله غيري، فلست اهتم له، وعلمت أن عملي لا يعمله غيري، فأنا مشغول به، وعلمت أن الموت يأتيني بغتة، فأنا أبادره، وعلمت أني بعين الله في كل حال، فأنا مستحيي منه ” [شعب الإيمان ]. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: ” ما أعطي عبد مؤمن شيئاً خيراً من حسن الظن بالله تعالى، والذي لا إله إلا هو لا يحسن عبد بالله الظن إلا أعطاه الله عز وجل ظنه، ذلك أن الخير في يده”. ومن الثقة بالله : أن يوقن العبد أن الله تبارك وتعالى سيُثيبه ثوابا جزيلا على أعماله الصالحة؛ التي فعلها ابتغاء وجه الله، مقتفيا فيها لسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم – ومن الثقة بالله : ثقة المؤمن أن الله ناصر دينه، وعباده المؤمنين؛ فقد وعد الله بذلك، فقال تعالى : {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} غافر(51) ،وقال تعالى :{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ* إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ} الصافات 171 ، 172 ، فإذا كنت مؤمنا بالله، واثقا بوعده؛ فلا تهن ولا تحزن، قال تعالى: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} آل عمران (139)
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( الثقة بالله والتوكل عليه )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
وإن الخطأ كل الخطأ ،أن يفهم البعض ،التوكل على الله ،والثقة بالله فهما خاطئا ،وقد انقسم الناس في ذلك إلى طائفتين : الطائفة الأولى: اتجهوا إلى العمل بالأسباب ،واثقين بأنفسهم ،وما عندهم من القدرة، وتركوا الاعتماد على الله تعالى ،وهذا تخلٍّ عن الله ووثوق بالنفس، ومن توكل على غير الله وكله الله إلى من توكل عليه، وليس له عند ذلك إلا الذم والخسارة. والطائفة الأخرى: وثقت بالله ثقة مغلوطة ،بحيث انفصلوا معها عن العمل بالأسباب وتواكلوا وقعدوا ينتظرون النتائج بدون عمل ، وهذا هو التواكل الذي يذمه العقل والشرع . وكلتا الطائفتين على خطأ، والصواب هو تعليق القلب بالله تعالى ،وفعل ما يستطاع من الأسباب الممكنة المشروعة، فالقلوب تتوكل على الله وتثق به ، والجوارح تعمل بالأسباب ، فالثقة بالله تعالى لا تعني تعطيل الأسباب، وانتظار القدر بدون سعي وعمل لجلب المرغوب ودفع المرهوب ، وإنما الثقة بالله تعالى تعني: أن تفوض أمرك إليه وتعلق قلبك به، وتتوكل في أمرك كله عليه، وتبذل ما في قدرتك ووسعك من الأسباب لتحصيل المحبوبات ودفع المكروهات. ففي قوله صلى الله عليه وسلم « لَوْ أَنَّكُمْ تَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ تَغْدُو خِمَاصاً وَتَرُوحُ بِطَاناً » فذكر عليه الصلاة والسلام أن الطير تخرج من أوكارها لطلب الرزق ولا تبقى فيها.
أيها المسلمون
وهناك وسائل تعين المؤمن على تقوية الثقة بالله وحسن التوكل عليه ، ومنها : العلم بالله تعالى : وذلك عن طريق النظر والتفكر في أسمائه وصفاته، وفي مخلوقاته وصنعه عز وجل في خلقه، والعلم بقضائه وقدره قال تعالى: ﴿ مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [التغابن: 11]. ومن الأسباب المعينة على الثقة بالله وحسن التوكل عليه : العلم بدين الله تعالى ،وذلك عن طريق القراءة في القرآن والسنة وسؤال العلماء الناصحين عما لم يفهم منها؛ فإن ذلك يورث المسلم البصيرة والنور في معضلات الحياة. ومن وسائل تقوية الثقة بالله تعالى: التحلي بالصبر؛ فإن الصبر مفتاح الفرج، وعلاج للألم، وبوابة للأمل، فمن صبر ظفر، فالحال السيئة لا تدوم، وتغييرها يسرع إليها أكثر من إسراعها لأهل العافية منها، وكلما اشتد الهم وتواترت المشقات آذانت بانفراج قريب ،كالليل الذي تتكاثف ظلماته عند اقتراب الفجر، فإذا وصل المسلم إلى اليقين بهذه الحقائق نمت الثقة في قلبه نماء راسخاً. قال تعالى: ﴿ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ﴾ [الشرح: 5-6]. ومن الوسائل الناجعة لتقوية الثقة بالله تعالى: الدعاء والإقبال على الله تعالى والتضرع بين يديه والإلحاح عليه ؛ فإن المسلم إذا عاش مع الدعاء صادقاً فيه مكثراً منه وثق قلبه واطمأنت نفسهن وقوي بالله وحده يقينه.
الدعاء