خطبة عن (الصادقون مع الله)
ديسمبر 12, 2024خطبة عن (الشَّامُ)
ديسمبر 16, 2024الخطبة الأولى ( وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته : (وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50) وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا) (50) :(52) الفرقان
إخوة الإسلام
لقاؤنا اليوم -إن شاء الله تعالى- مع مائدة القرآن الكريم ،نتلو هذه الآية ،ونتدبرها ،ونتفهم معانيها، ونخوض في بحار مراميها ،ونجمع من لآلئها، ونرتشف من رحيقها المختوم ، فالمتأمل والمتدبر في قوله تعالى : (فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا) (52) الفرقان ، يتبين له أن الله تبارك وتعالى يأمر رسوله ومن آمن به أن يجاهد الكافرين بالقرآن ، وأن يقيم عليهم الحجج والبراهين الدالة على صدق رسالته ،فيقول سبحانه 🙁 فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ ) أي في ترك شيء مما أرسلت به ،وجاهدهم (بالقران) جهادا كبيرا ،أي: لا تبق من مجهودك في نصر الحق ،وقمع الباطل إلا بذلته، ولو رأيت منهم من التكذيب والجرأة ما رأيت ،فابذل جهدك واستفرغ وسعك ،(وَجَاهِدْهُمْ بِهِ) : أي : بالقرآن، بتلاوة ما في تضاعيفه من القوارع والزواجر والمواعظ ،وتذكير أحوال الأمم المكذبة ، (جِهَادًا كَبِيرًا) فإن دعوة كل العالمين على الوجه المذكور جهاد كبير ،فجاهدهم بالشدة والقوة لا بالملاءمة والمداراة ،كما في قوله تعالى : (يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (9) التحريم ، وجاهدهم بالكلمة وبالبيان ،وبالعلم والأدلة القاطعة، فاجتمعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم المجاهدات كلها ،فكبر من أجل ذلك جهاده ،وعظم ،فقد كُلِّف النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم دون غيره من بقية الرسل برسالة عامة، ليست قومية ولا إقليمية، بل عالمية كونية، فهي لا تقتصر على البلاغ حتى تضم إليه البيان، ولا تنازل الأساطير والخرافات الفكرية الاعتقادية؛ إلا وتواجه معها الانحرافات التشريعية والسلوكية، ولا تكتفي بأمور سعادة الناس في الآخرة، حتى تصلح بالدين دنياهم. وكل ذلك انطلاقًا من بقعة صغيرة من الأرض، مَنْ يعاديه فيها ويحاصره أكثر ممن يؤيده ويناصره، وفي وسط أمة كانت في المؤخرة، ومجتمع لم تكن له مؤهلات أو تطلعات إلى ريادة أو قيادة فيكون عونًا له، بل كان بتفرُّقه وخذلانه عبئًا عليه. ولم يكن صلى الله عليه وسلم مطالبًا بتغيير هذا الواقع وهو في برج عاجي من أبراج الفلاسفة المنظِّرين، أو صومعة نائية للمتأملين المنقطعين، أو حصن منيع من حصون الملوك المحروسين المتعالين، بل كان عليه صلى الله عليه وسلم أن يغيِّر في أفكار الناس وعقائدهم وهو يعايشهم في مجتمعاتهم، ويغشى مجالسهم، ويمشي في أسواقهم، مؤثرًا فيهم غير متأثِّر بهم، وهو صلى الله عليه وسلم لم يكن في موقف الإلقاء والناس حوله في موقف الإصغاء، كلا؛ بل كان أكثر خواصهم يجادل بالباطل ،ويغضب له، وعوامهم يهرفون بما لا يعرفون في حمية جاهلية ، لا يصبر على معالجتها إلا إنسان مؤيَّد منصور، وهو ما استوجب أن يجتمع في شخصه صلى الله عليه وسلم ما تفرق من مناقب وصفات جميع المرسلين الذين انتُدبوا لمعالجة جميع أدواء الأمم ،وأمراض البشر، من المرسلين والأنبياء السابقين قبله، لذلك فقد اجتمعت فيه صلى الله عليه وسلم عظيم الصفات والسمات: كثبات نوح، وجسارة هود، وهدوء صالح، وقنوت إبراهيم، وتقوى يوسف، وبسالة موسى، وصبر أيوب، وشجاعة داوود، وفطنة سليمان، وسماحة يحيى، ووداعة عيسى (عليهم جميعًا صلوات الله وسلامه) ، نعم : (فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا) (52) الفرقان ،فالله سبحانه وتعالى اختار نبيه صلى الله عليه وسلم من بين الأنبياء، ليكون رسولًا للعالمين ، مستقلًا بشخصه في تحمُّل أعباء رسالة عامة، لا تخص زمانه ولا مكانه، بخلاف غيره من الرسل، فجعل عظمة شخصه صلى الله عليه وسلم معادلًا لجميع أشخاص الرسل، الذين كان يمكن إرسالهم إلى جميع القرى في حال لم يرسله هو؛ ولذلك أعطاه من العلم والفهم، ومن القوة والقدرة على التحمل والصبر، ما كان يمكن أن يتحمله عشرات الأنبياء والرسل، في عشرات المدائن والقرى، ولتتوحد الرسالة، ولا تتفرق على ألسنة عشرات الرسل، والله تعالى لما بعثه رسولًا للعالمين، وبديلًا عن كثير من المرسلين ؛ كانت له أجورهم جميعًا وأجور جميع من استجاب له إلى يوم الدين من الإنس والجن؛ فثقل بذلك ميزانه ،وعظمت منزلته ،وارتفعت درجته، حتى كان جديرًا بالوسيلة والفضيلة، والدرجة العالية الرفيعة، ورسالته صلى الله عليه وسلم لما كانت لا تخص زمانه ولا مكانه ولا قومه، احتاجت كتابًا غير محدود في مكان، ولا موقوت بزمان ولا مخصوص بنوع إنسان، فجاء هذا القرآن الذي هو أعظم الكتب تشريفًا لمن تنزل عليه، ولمن قام به، ويقول سبحانه: {فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ} [الفرقان:52] فبعد أن بدأت الآية بإظهار عظمة الرسول صلى الله عليه وسلم ،ورِفعَة قدره بالرسالة التي تنزَّلت عليه في القرآن ،جاءت بحضِّه على شكر تلك النعمة ،بأن يجاهد بهذا القرآن، ولا يطيع فيه أهواء الضالين من جميع الأصناف وفي جميع البلاد؛ فالمعنى: إنا فضلناك بالرسالة إلى الكافة، فبلِّغها كافة، ولا تطع في ترك أي شيء منها أنواع المبطلين كافة ،واعلم أنه كلما كبرت المنزلة العلمية والدعوية، عظمت المسؤولية، وكلما عظم الطمع في الأجر، تطلب ذلك كثرة المجاهدة، فبعد أن أعلم الله رسوله صلى الله عليه وسلم بعِظَم منزلته في الآية، أعلمه بعظم مسؤوليته، وكلفه بذلك التكليف الكبير، وأصحاب الضلال والهوى يحبون أن يطاعوا في هواهم، ويتمنون ذلك، لكن المطلوب أن نطيع الله فيهم؛ وذلك بمخالفتهم وإبلاغها، بألا نترك إبلاغهم تبعًا لأهوائهم ، فنحن لا نطيع الكفار في ما كان دينًا صحيحًا في الأصل ثم نُسخ؛ فكيف بالباطل المخرِّف والدين المحرَّف الذي كتبوه بأيديهم ويريدون منا أن نقرَّهم عليه؟ بل كيف بما صاغوه من تشريعات وأنظمة أرضية وضعية، وضعوها مضاهاة وضِرارًا للتشريعات الإلهية، ويريدون منا أن نحكم بها ونتحاكم إليها؟ إن ذلك لو حدث لكان شركًا في التشريع، كما قال الله تعالى: {وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف:26]، وفي قوله تعالى : (فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ ) فالوصف بـ (الْكَافِرِينَ) هنا، دلالة على العلة في الأمر بترك طاعتهم، وهي علة تغطيتهم للحق وجحده، فينبغي الحذر من طاعتهم في القضايا المتعلقة بالاعتقاد؛ لأن من شأنها أن توصِل إلى الكفر إذا استمرت واستُمْرئت، كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إن تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [آل عمران:149]، وقال تعالى :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إن تُطِيعُوا فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} [آل عمران:100]. ،وفي قوله تعالى : {وَجَاهِدْهُم بِهِ} [الفرقان:52]. فهذا خطاب له صلى الله عليه وسلم ولمن بعده من أهل الدعوة من أمته، باستغراق الوسع في مدافعة الباطل الاعتقادي والفكري بهذا الكتاب المبين وبمنهجه القويم؛ فالقرآن الكريم أعظم نعم الله، والجهاد بآياته بعد الاهتداء بهداياته من شُكْر نعمته، والخروج من هجره الذي شكاه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ربه، كما ورد في سورة الفرقان نفسها {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان:30]. فمن هجر القرآن هجر الجهاد به، والاقتصار على المقالات والنقولات والنظر العقلي ، وكما تقابل نعمة القرآن بالشكر جهادًا به ودعوة إليه، فيجب أن تقابل بالصبر على مشاق تلك الدعوة والأذى في سبيلها. ، والمجاهدة لا تكون إلا بين طرفين يجاهد كلًا منهما الآخرُ: أحدهما هنا يجاهد بالوحي، والآخر يجاهِد بالهوى؛ فمهما تركنا أو أهملنا جهاد أهواء المبطلين بالقرآن، فلن يتركوا هم مجاهدتنا، وسيغزونا بها في عقر دارنا ،وعندما نجاهد بالقرآن، فالأصل الدعوة بالرفق وبالتي هي أحسن، أما المعاند فتنبغي معه المفاصلة والشدة، وإظهار ما جاء به الوحي من أحكام وعقائد ومواعظ، بلا تهيب أو مجاملة؛ والأمر بالجهاد هنا منصرف إلى جهاد الدعوة والحجة، وهو جهاد اللسان لا السيف -كما هو الظاهر من سياق سورة الفرقان المكية- أما جهاد السلاح فمأخوذ من نصوص أُخَر، والآية تدل على أن الدعوة والمحاجة بالوحي من جنس الجهاد؛ إذ الجهاد نوعان: جهاد دعوة يتضمن إبطال الباطل وإحقاق الحق في الصورة النظرية، وجهاد قتال ينصرف إلى الناحية العملية، وهذا ينقسم إلى جهاد دفع لصد المعتدين على حرمات الله، وجهاد طلب لإزالة بأس الصادين عن سبيل الله. ، وجهاد الدعوة والحُجة والبيان أسبق وأهم من جهاد السلاح والسنان، وهذا – كما قال ابن القيم-: “لعظيم منفعته، وشدة مؤنته، وكثرة أعدائه”، ولأنه لولا قوة الحجة، لما أفادت حجة القوة، ولما أدت شرعة الجهاد مقاصدها من الهداية والإصلاح. ودخول الناس في دين الله أفوجًا، ولأن المجاهد بلسانه يكون جهاده أخوف على نفسه؛ لأنه يكون بين ظهراني من يجاهدهم، وتحت سطوتهم في الغالب ، ومن الجهاد بالقرآن تلاوته على المخالف، وهذا يتضمن إيصالًا لمعانيه التي يشترك في فهم معظمها أكثر الناس، لقوله تعالى {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} [القمر:17]، فبلفظه المباشر في الغالب تقوم الحجة وتصل المحجة ، أما من لا يعرفون لغة العرب، فيبلَّغون بأيسر التراجم الصحيحة للقرآن؛ فالقرآن ألفاظ ومعانٍ، وتلك المعاني تخاطب الفطرة بأي لسان، والوجدان والعقل يُخاطَب بالمعاني قبل الألفاظ. ، والمجاهدة بالقرآن تحتاج منا إلى استحضار واستقصاء وبحث؛ فالنص الواحد في القرآن تُكرِّر معانيه ،وتقررها نصوص قرآنية أخرى، وما لم تظهر معانيه رغم ذلك، تبينه نصوص السنة الصحيحة الموضِحة، فإن لم يَرِد من السنة ما يكفي للبيان؛ كانت أقوال السلف -من الصحابة والتابعين- بيانًا إضافيًا، كما قرر ذلك ابن تيمية في مقدمة أصول التفسير، والأمر بجهاد الحجة والدعوة يوجَّه أيضًا لأنواع المنافقين المتظاهرين بالإسلام -وما أكثرهم- مثلما هو موجَّه لأصناف الكافرين الظاهرين في الكفر، وكلا الفريقين يجاهَدان -في حال عنادهم- بالحجة مع الشدة، كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْـمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة:73]، وقوله تعالى: {وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} [النساء:63] ،فلا ينبغي أن نقلل من أهمية جهاد المنافقين بالقرآن، فجهادهم – كما قال ابن القيم-: “أصعب من جهاد الكفار، وهو جهاد خواص الأمة وورثة الرسل، والقائمون به أفراد في العالم، والمشاركون فيه والمعاونون عليه وإن كانوا هم الأقلين عددًا، فهم الأعظمون عند الله قدرًا” وهو “أكبر الجهادين، فإن المنافقين لم يكونوا يقاتلون المسلمين، بل كانوا معهم في الظاهر، بل ربما كانوا يقاتلون عدوهم معهم، ومع هذا فقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْـمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} ،و يدخل في جهادنا بالقرآن جهاد أهل الأهواء والبدع الغليظة، وبخاصة الرؤوس منهم، وهؤلاء لا أبلغ ولا أمضى في الرد عليهم من نصوص الوحي المعصوم، ومن تأمل مناظرات ومساجلات وردود الأئمة من أهل العلم على المبتدعة؛ وجد أن ردودهم في الغالب تتفرع عن معاني نصوص الوحي الذي لا حيلة لهم في ردِّه أو تكذيبه. ، فينبغي أن نكون على ذكر بأن الانحرافات الفكرية المعاصرة المنحرفة عن هدايات الرسل، لا تحصين للمسلمين من إضلالها وإغوائها، إلا بنصوص القرآن الحاسمة، ثم نصوص السنة الثابتة؛ شرط أن يكون فَهْم هذه النصوص مأخوذًا عن سلف الأمة؛ فالفكر العَلماني في شقه الشرقي: (الشيوعية والاشتراكية) والفكر العَلماني في وجهه الغربي: (الليبرالية) برأسماليتها في الاقتصاد، وديمقراطيتها في السياسة، وحرياتها المنفلتة في الاجتماع؛ هذه العلمانية بتلوناتها وتقلُّباتها؛ ليس أجدر بكشف زيفها وفضح زيغها أمام المسلمين من القرآن. وكذلك كل الأفكار الوافدة الباطلة وأصول البدع القديمة والمعاصرة؛ في القرآن ردٌّ عليها لمن بحث وتدبَّر، لقوله تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْـحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء:18] ، فلا بد من مجاهدة الباطل بالقلب قبل اللسان أو اليد، كما قال صلى الله عليه وسلم«: فمن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك مثقال حبة خردل من إيمان» (رواه مسلم). وجهاد أهل العلم والدعوة بالقرآن؛ يكون كبيرًا على قدر ما يترتب عليه من آثار؛ فهو قد فُرِض على الرسول صلى الله عليه وسلم،وعلى القائمين بالدين بعده لوظائف عظام، يأتي على رأسها إقامة الحجة على التوحيد، ودحض شبهات الشرك والكفر، والتمكين للحق والسنة، وإبطال مقولات المبتدعة، وتكثير أتباع الحق، وتفريق صفوف الباطل، وكل ذلك وعلى قدره، تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى. وقد كان جهاد الرسول صلى الله عليه وسلم بالقرآن محققًا لكل ذلك، فكان جهادًا كبيرًا حقًا؛ لأنه كان مواجهة للعالم في عصره، وظل نبراسًا بعد عصره لكل الهداة المهتدين ،وقد ضمن الله تعالى بقاء طائفة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم سائرة على نهجه في البقاء على الحق علمًا وعملًا، تحصيلًا وإظهارًا، انتصارًا للقرآن، وجهادًا به، وهو ما أخبر عنه صلى الله عليه وسلم في قوله: « لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِى عَلَى الدِّينِ ظَاهِرِينَ لِعَدُوِّهِمْ قَاهِرِينَ لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ إِلاَّ مَا أَصَابَهُمْ مِنْ لأْوَاءَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ » (مسند أحمد)..
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
جاء في موسوعة الكحيل للإعجاز العلمي : يقول تعالى في هذه الآية: (فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَ جَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا) [الفرقان: 52] ،فلماذا يكون الجهاد بالقرآن؟ ،لأن القرآن هو كلام الله تعالى وهو رسالة الله وهو كتاب الحقائق وهو منهج لضمان السعادة في الدنيا والآخرة، والقرآن كتاب قوانين وتشريعات إلهية، وهو كتاب علوم وطب وهندسة وفلك، والقرآن يحوي جميع المجادلات المنطقية والعلمية لحوار غير المسلمين ،و ببساطة فالقرآن هو كل شيء! وفيه تفصيل لكل شيء.. قال تعالى: (مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَ لَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَ تَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَ هُدًى وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [يوسف: 111].،وهنا نستطيع أن ندرك أن في القرآن تفصيلاً لكل شيء ولكن حسب قدرة كل شخص على الرؤية والتدبر والملاحظة.. فالعلوم التي أودعها الله في كتابه المجيد لا يستطيع كل الناس مشاهدتها.. إلا من فتح الله عليه من علمه واختصه بهذا النوع من التدبر. هذه الآية جاءت وسط آيات الإعجاز العلمي ليدلنا على الأسلوب العملي للجهاد الكبير، فالسياق يدل على الاتفاق كما يقول أهل التفسير.. وسياق الآيات العلمية دلّنا على أن نوع الجهاد ينبغي أن يكون في هذه الحالة جهاداً علمياً. وتأملوا معي كيف جاءت آية الجهاد الكبير في وسط هذا النص الزاخر بالحقائق العلمية، ليؤكد لنا أن الإعجاز العلمي في هذا العصر هو جزء من الجهاد الكبير.. وأن الجهاد في هذا العصر (عصر ضعف المسلمين) هو جهاد العلم.. مع الأمر بأخذ جميع الأسباب التي تؤدي لقوة المسلمين والنهوض بهم من ضعفهم، لقوله: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) [الأنفال: 60]، والعلم هو احد هذه الاسباب… والجهاد بالعلم كبير لأنه أوسع بكثير.. فأنت تستطيع أن تجاهد بعلوم القرآن في أي وقت وفي أي عصر وفي أي مكان وتحت أية ظروف وفي الليل والنهار وفي جميع بقاع الأرض ولجميع الناس ،إذاً فهذا النوع يتجاوز حدود الزمان والمكان.. بينما الجهاد- كجهاد الدفع فهو محدد بمكان وزمان وظروف محددة ..والجهاد بالعلم وهو الجهاد الكبير يشمل المال والنفس والوقت والتفكير وسهر الليالي وبذل جهود كبيرة في تحصيل العلم لإقناع الملحدين.. فلا يمكن مواجهة النظريات الإلحادية والتي كانت سبباً في إلحاد الكثير من الشباب إلا بالإعجاز العلمي. فالملحدون اليوم يستخدمون لغة العلم لتسويق حججهم الواهية، ومواجهة هذه الحجج يجب يكون بنفس أسلوبهم وهو العلم.. والجهاد الكبير هو أسلوب راقي جداً وآمن وغير مكلف ومستمر.. أي أن آثاره مستمرة، بينما الجهاد بمعنى القتال، ذو تأثير محدد.. واليوم للأسف الحروب كلها مدمرة بسبب الأسلحة المدمرة التي تم اختراعها.. فأي حرب اليوم تعني الدمار ، بينما الجهاد الكبير اليوم يعني البناء! فأنت تبني الشاب المسلم المثقف المزود بسلاح العلم… وتبني السمعة الطيبة للإسلام والمسلمين.. وتصحح نظرة غير المسلمين عن الإسلام، في زمن محاربته من قبل أعدائه باسم الإرهاب!! ،والجهاد الكبير يمكن أن تمضي كل عمرك فيه، وهو أيسر بكثير ومتاح لك وأنت في غرفة نومك! حيث تستطيع أن ترسل مقطع فيديو قصير حول الإعجاز العلمي (من خلال واتس أب أو فيس بوك .. مثلاً) لمعارفك وبعضهم سيعيد إرساله.. وهكذا وفق سلسلة هندسية تتضاعف ربما تصل في النتيجة للملايين أحياناً .. وعند تكرار هذه العملية باستمرار لابد أن يصل هذا المقطع وغيره من مقاطع الإعجاز في النهاية لإنسان ملحد أو على أبواب الإلحاد.. فتكون سبباً في إعادته للإسلام… وإذا تأملنا الآيات التي وردت على لسان الكفار ومحاولاتهم للتشكيك بالقرآن وتشويه صورة الإسلام.. هذه الآيات غالباً ما يكون الجواب عنها في القرآن بآيات الإعجاز العلمي!! وهي كثيرة جداً في القرآن.… فلابد من جهاد العلم في هذا العصر وأن نعمل بقوله تعالى: {فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان: 52].. فما أجمل العلم عندما يمتزج مع الإيمان ليكون سبيلاً للدعوة إلى الله تعالى .
الدعاء