خطبة حول ( موقف الاسلام من: بدعة الدين الإبراهيمي ،ووحدة الأديان )
مارس 20, 2021خطبة عن أصحاب الهمم والطموح (فكن ذا همة وطموح ،فلَنْ تَبْلُغَ الْمَجْدَ حَتَّى تَلْعَقَ الصَّبِرَا)
مارس 23, 2021الخطبة الأولى ( الحالف بالله كاذبا : حكمه ،وكفارته ،وعقوبته )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) (النحل : 91)
إخوة الإسلام
لقد فطر الله تعالى الإنسان على أشياء ،ومنها : حرصه على تأكيد كلامه وأفعاله ،وذلك عن طريق الحلف ،أو اليمين ،والقسم ،ولذلك شرع الله تعالى لنا الحلف أو الأيمان ،فالحكمة من مشروعية الحلف والأيمان: أنها أسلوب من أساليب التأكيد المتعارف عليها، وهي إما لحمل المخاطب على الثقة بكلام الحالف ،وأنه لم يكذب فيه إن كان خبرًا ،ولا يخلفه إن كان وعدًا أو وعيدًا أو نحوهما، وإما لتقوية عزم الحالف على فعل شيء يخشى إحجام نفسه عنه ،أو ترك شيء يخشى الإقدام عليه، فيحلف بالله ،وذلك لما عرف من قبح هتك حرمة اسم الله تعالى، فالغاية العامة لليمين قصد توكيد الخبر ثبوتًا أو نفيًا. والأيمان مشروعة بالكتاب والسُّنَّة والإجماع ،أما الكتاب ،فمنها: قوله سبحانه: (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ) (المائدة: 89) ،وقد أمر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم في ثلاث مواضع بالحلف فقال سبحانه: (وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) (يونس: 53) ،وقال جَلَّ شأنه: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) (سبأ: 3) ،وقال سبحانه: (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) (التغابن: 7)، وفي السُّنة المطهرة ،جاء في الصحيحين : (قَالَ صلى الله عليه وسلم :« إِنِّي وَاللَّهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لاَ أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلاَّ أَتَيْتُ الَّذِى هُوَ خَيْرٌ وَتَحَلَّلْتُهَا) ،وفي رواية عند أبي داود وغيره : « إِلاَّ أَتَيْتُ الَّذِى هُوَ خَيْرٌ وَكَفَّرْتُ يَمِينِي »،
وكان أكثر قسم الرسول صلى الله عليه وسلم: ومصرف القلوب, ومقلب القلوب, والذي نفسي بيده ،ففي صحيح البخاري 🙁عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ كَثِيرًا مِمَّا كَانَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – يَحْلِفُ « لاَ وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ »، وفي سنن النسائي : (عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَتْ يَمِينُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي يَحْلِفُ بِهَا لَا وَمُصَرِّفِ الْقُلُوبِ)،
وإذا كان الحلف والأيمان مشروعة ،ولكن يُكره الإفراط في الحلف بالله تعالى, لقوله سبحانه: (وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ) (القلم: 10)، فهذا ذم له يقتضي كراهة فعله, فإن لم يخرج إلى حد الإفراط فليس بمكروه, إلا أن يقترن به ما يوجب كراهته ،والغرض من كراهة الافراط في الحلف :إن كثرة الحلف عادة ما تجر الإنسان إلى الكذب، وتنزع هيبة اليمين من قلبه ،فلا يكون لها تأثير على نفسه، وقد روى الشيخان عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (الْحَلِفُ مُنَفِّقَةٌ لِلسِّلْعَةِ مُمْحِقَةٌ لِلْبَرَكَةِ) ،قال النووي: (رحمه الله): في هذا الحديث نهى عن كثرة الحلف في البيع فإن الحلف من غير حاجة مكروه وينضم إليه هنا ترويج السلعة وربما اغتر المشتري باليمين. كما روى مسلم في صحيحه : (عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ ،صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ إِيَّاكُمْ وَكَثْرَةَ الْحَلِفِ فِي الْبَيْعِ فَإِنَّهُ يُنَفِّقُ ثُمَّ يَمْحَقُ)
وعلى المسلم إذا أقسم أن يبر في قسمه ،فقد روى الشيخان عن الْبَرَاءِ بْنَ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال: َ(أَمَرَنَا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبْعٍ بِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَاتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ وَرَدِّ السَّلَامِ وَإِجَابَةِ الدَّاعِي وَإِبْرَارِ الْمُقْسِمِ وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ) ،وإذا أقسم عليك أخوك المسلم أن تفعل شيئًا أو أقسم عليك ألا تفعله، فيُستحب أن تبر قسمه إن كان في إمكانك، بشرط أن لا تكون فيه مفسدة أو خوف ضرر أو نحو ذلك. فقد ثبت أن أبا بكر الصديق لمَّا عَبَّر الرؤيا بحضرة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أصبت بعضًا وأخطأت بعضًا) فقال أبو بكر: أقسمت عليك يا رسول الله لتخبرني، فقال: (لا تقسم) ولم يخبره
أيها المسلمون
وإذا كان الحلف أو اليمين أو القسم: هو توكيد الحكم بذكر مُعظم على وجه مخصوص، ففيه تعظيم للمحلوف به، وهذا التعظيم حق لله تعالى ،فلا يجوز الحلف بغيره، فقد أجمع العلماء على أن الحلف واليمين لا تكون إلا بالله أو بأسمائه وصفاته، وأجمعوا على المنع من الحلف بغيره. فالله سبحانه شرع لعباده المؤمنين أن تكون أيمانهم به سبحانه وتعالى أو بصفة من صفاته، لأن من حلف بشيء فقد عظمه ،ومن عظم غير الله فقد أعظم الفرية ،وارتكب ذنبا عظيما ، فعلينا أن نحفظ أيماننا ،وإذا حلفنا أن نحلف بالله وحده لا شريك له، ففي صحيح البخاري : (عَنِ ابْنِ عُمَرَ – رضي الله عنهما أَنَّهُ أَدْرَكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فِي رَكْبٍ وَهْوَ يَحْلِفُ بِأَبِيهِ ، فَنَادَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – «أَلاَ إِنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ ،فَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ ، وَإِلاَّ فَلْيَصْمُتْ »، وفي سنن أبي داود وغيره : (عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَنْ حَلَفَ بِالأَمَانَةِ فَلَيْسَ مِنَّا ».،وفيه أيضا :(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « لاَ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ وَلاَ بِأُمَّهَاتِكُمْ وَلاَ بِالأَنْدَادِ وَلاَ تَحْلِفُوا إِلاَّ بِاللَّهِ وَلاَ تَحْلِفُوا بِاللَّهِ إِلاَّ وَأَنْتُمْ صَادِقُونَ » ،ولبيان عظمة الله تعالى ،وعظمة الحلف به سبحانه ،فقد رُوي في المستدرك للحاكم وصححه الذهبي: (عن أبي هريرة رضي الله عنه :عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :(إن الله أذن لي أن أحدث عن ديك رجلاه في الأرض وعنقه مثنية تحت العرش وهو يقول : سبحانك ما أعظم ربنا ،قال فيرد عليه: ما يعلم ذلك من حلف بي كاذبا)
أيها المسلمون
ومن المصائب التي أصبنا بها في هذا الزمان :تساهل الكثير من الناس بأيمانهم ،وأصبح البعض يحلف بالله في كثير من أحاديثه وأقواله، وفي بيعه وشرائه، وفي كل أمر يَعِدُ به غيره، فتراه يحلف بالله على أتفه الأسباب ،وبلا سبب يقتضيه، ومن الناس من لا يصدق غيره إلا إذا حلف له يمينا مغلظا ،وقد أمرنا الله تعالى أن نحفظ أيماننا تعظيما لاسمه -جل وعلا- ولا نكثر من الحلف إلا عند الحاجة الملِّحة ،فقال الله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} المائدة (89) ، بل أمرنا تبارك وتعالى أن لا نُطع من يُكثر الحلف فقال تعالى: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} القلم (10) ؛فليست اليمين مجرد كلمة تمر على اللسان، ولكنها عهد وميثاق سيُسأل عنه العبد يوم القيامة. ومن الأسباب التي أدت إلى انتشار الحلف بالله تعالى، والاستهانة بهذه القضية الخطيرة عند الناس اليوم أولاً: أن عظمة الله -تعالى- في نفوس كثير من المسلمين قد تلاشت أو قاربت، وأصبح الله تعالى ليس له مهابة في قلوب الكثير من المسلمين، فهم يحلفون به في أي ساعة من ساعات الليل والنهار ،سواء كان الأمر يستأهل الحلف أو لا يستأهل الحلف، وهذه قضية خطيرة لها مساس مباشر بالعقيدة الإسلامية، لأن من أسماء الله -تعالى- أنه العظيم، فهذا الاسم العظيم الذي جهلته قلوب الكثير من المسلمين، هذا الجهل هو الدافع لانطلاق الحلف على ألسنة الناس. ثانياً: انعدام ثقة الناس بعضهم ببعض، ومن أسبابه فشو الكذب بين الناس، فترى هذا لا يصدق هذا إلا بالحلف، ويقول له: تقسم بالله أن هذا صحيح؟ ، فالثقة بين الناس قد انعدمت، وفشا الكذب حتى لم يميز الصادق من الكاذب، والأمين من الخائن، ومع انتشار القسم صار حتى القسم شيئاً عادياً، لا يصدق بمن يقسم.
أيها المسلمون
واليمين ثلاثة أقسام، يمين لغو، ويمين منعقدة، ويمين غموس، فأما يمين اللغو فهي الحلف من غير قصد اليمين، كقول الرجل: حينما يسأل عن حاله: أنا والله بخير، فهو لا يقصد أن يحلف لك، ولذلك لا يؤاخذ عليه، ولا كفارة فيه، قال تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} المائدة (89) ،أما اليمين المنعقدة فهي اليمين التي يقصدها الحالف ويؤكد ويصر عليها، فهي يمين متعمدة مقصودة وليست لغواً يجري على اللسان .وأما اليمين الغموس فهي الحلف كذبا لأكل مال إنسان بالباطل، وسميت بالغموس لأنها تغمس صاحبها في الإثم العظيم أو في النار والعياذ بالله. فقد روى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَال:َ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْكَبَائِرُ؟ قَالَ: (الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ) قَالَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: (ثُمَّ عُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ)، قَالَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: (الْيَمِينُ الْغَمُوسُ)، قُلْتُ: وَمَا الْيَمِينُ الْغَمُوسُ؟ قَالَ: الَّذِي يَقْتَطِعُ مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ هُوَ فِيهَا كَاذِبٌ) رواه البخاري.
ولنعلم أن اليمين الكاذبة ماحقة للمال وللعمر، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وَالْيَمِينُ الْفَاجِرَةُ تَدَعُ الدِّيَارَ بَلاَقِعَ) رواه البيهقي، أي أن اليمين الكاذبة تترك الديار مقفرة لا شيء فيها، والمعنى أن الحالف يفتقر ويمحق الله ماله، وقيل: هو أن يفرق اللّه شمله ويغير عليه ما أولاه من نعمه؛ ولهذا جاء في الصحيحين 🙁إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ – رضى الله عنه – قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – يَقُولُ « الْحَلِفُ مُنَفِّقَةٌ لِلسِّلْعَةِ مُمْحِقَةٌ لِلْبَرَكَةِ » ،وروى سلمان الفارس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: أُشَيْمِطٌ زَانٍ، وَعَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ، وَرَجُلٌ جَعَلَ اللَّهَ لَهُ بِضَاعَةً فَلَا يَبِيعُ إِلَّا بِيَمِينِهِ وَلَا يَشْتَرِي إِلَّا بِيَمِينِهِ) رواه الطبراني، ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم (جعل الله بضاعته) أي جعل الحلف بالله وسيلة لترويج بضاعته وسلعته، فيُكثر من الأيمان الكاذبة ليخدع الناس فيشتروا منه اعتماداً على يمينه الكاذبة، وبعض الخصوم يتساهلون في أمر اليمين في المحاكم، فترى أحدهم يحلف كاذبا ليكسب قضية، دون مبالاة بحرمة تلك اليمين الكاذبة، التي قد تبطل حقا أو تحق باطلا، فيأخذ بيمينه متاعاً من الدنيا قليلا بغير حق، فقد روى الأَشْعَثَ بْنَ قَيْسٍ رضي الله عنه قال: كَانَتْ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ خُصُومَةٌ فِي بِئْرٍ فَاخْتَصَمْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ)، قُلْتُ إِنَّهُ إِذًا يَحْلِفُ وَلا يُبَالِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : (مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ يَسْتَحِقُّ بِهَا مَالاً وَهُوَ فِيهَا فَاجِرٌ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ) فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَ ذَلِكَ ثُمَّ اقْتَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَـئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [آل عمران: 77] متفق عليه.
والبعض يحلف بأن يمتنع عن فعل معروف ،ويستمر على هذا الأمر ،وإذا نصح في ذلك تعلل بأنه حلف أيمانا مغلظة ويخاف عاقبة هذه الأيمان، فمن حلف ألا يصل قريبه أو أخاه المسلم، أو لا يكلمه، أو لا يدخل بيته، ونحو ذلك مما فيه معصية للخالق ،وتقصير في حق مسلم، فلا ينبغي له أن تمنعه يمينه عن فعل البر ،وتحقيق الصلة، بل الذي ينبغي له أن يكفِّر عن يمينه، ويفعل الذي هو خير ،أسوة بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي قال: (إِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ وَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ) رواه أبو داود والنسائي. ولا تظن أن التراجع عن الرأي ليس من شيم الرجال، كلا، فطالما أنك تفعل ما فيه خير وصلاح فلا حرج في هذا التراجع، بل هي الحكمة والرجولة، فأنت لست أفضل من سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم الذي قال: (إِنِّي وَاللَّهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلاَّ كَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي وَأَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ) رواه البخاري.
ولما كان أمر الحلف بالله عظيما ،فقد شرع الله صيانة لجنابه تعالى ،واحتراماً للحلف به ،أوجب الكفارة على من يخالف في الأمر الذي حلف عليه ،ويحنث في يمينه، فقال تعالى: (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) المائدة: 89، فالحالف مخير بين الإطعام أو الكسوة أو عتق رقبة، فمن لم يستطع الإطعام أو الكسوة أو تحرير رقبة، فينتقل إلى الدرجة الثانية من الكفارة: وهي صيام ثلاثة أيام، وأما من حلف على شيء يظن صدقه فظهر خلافه فهو من باب الخطأ ولا كفارة فيه لأنه من اللغو.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( الحلف بالله كاذبا : حكمه ،وكفارته ،وعقوبته )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
والحلف على الكذب من صفات المنافقين واليهود ،الذين يعتاضون ويستبدلون بعهد الله تعالى، وبأيمانهم الكاذبة الفاجرة أعراض الحياة الدنيا ،الأمر الذي يحرمهم من النصيب في الآخرة، ويحول بينهم وبين التطهير من الذنوب والأدران ،فمن اتصف بصفاتهم، وتخلق بأخلاقهم، وسلك مسلكهم، فقد عرض نفسه لما سيحل بهم من عقابه تعالى وغضبه، وإعراضه عز وجل عنهم ،ومن حلف بالله كاذبا متعمداً، فقد ذهب الجمهور إلى أنه لا كفارة عليه، إذ أنه أتى بذنب أعظم من أن تمحو أثره كفارة يمين، وإنما الواجب عليه أن يتوب لله تعالى مما ارتكبه وتجرأ عليه، وإذا كان اقتطع بها مال امرئ بغير حق، فلابد أن يتحلل منه، فإن تاب فالتوبة تَجُبُّ ما قبلها. وقد رخص في الحلف على الكذب فيما إذا ترتبت عليه مصلحة شرعية من جلب نفع، أو دفع ضر، لا تتحقق بدون الكذب، فإذا كان المقصود منه أمرا واجباً: كحماية نفس المسلم ،أو ماله وجب، وإن كان المقصود منه الوصول إلى حق مباح كان مباحاً، حيث لم يمكن الوصول إليه إلا به ،مثال ذلك: ما لو اختفى بريء من ظالم يريد قتله أو أخذ ماله، وسأل الظالم عن المظلوم، أو عن ماله، ففي هذه الحالة يجب الكذب المؤدي إلى إخفاء المظلوم، وتضليل الظالم عن مكانه، أو مكان ماله، ولكن الأحوط أن يستعمل الإنسان في الحالات التي يشرع فيها الكذب ما يسمى بالتورية، وهي أن يقصد بعبارته معنى صحيحاً ليس المتكلم كاذباً بالنسبة إلى ذلك المعنى، وإن كان كاذباً بالنسبة لظاهر اللفظ ولفهم المخاطب، ولا يلجأ إلى الكذب مع إمكانها، والدليل على جواز الكذب في هذه الحال ما روي في الصحيحين واللفظ لمسلم : (أَنَّ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ عُقْبَةَ بْنِ أَبِى مُعَيْطٍ وَكَانَتْ مِنَ الْمُهَاجِرَاتِ الأُوَلِ اللاَّتِي بَايَعْنَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ يَقُولُ « لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِى يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ وَيَقُولُ خَيْرًا وَيَنْمِى خَيْرًا ». قَالَ ابْنُ شِهَابٍ وَلَمْ أَسْمَعْ يُرَخَّصُ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَقُولُ النَّاسُ كَذِبٌ إِلاَّ فِي ثَلاَثٍ الْحَرْبُ وَالإِصْلاَحُ بَيْنَ النَّاسِ وَحَدِيثُ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ وَحَدِيثُ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا) .
الدعاء