خطبة عن (الناس والحساب)
أبريل 28, 2023خطبة عن أحوال أهل القبور وحديث (إِنَّ الْقَبْرَ أَوَّلُ مَنَازِلِ الْآخِرَةِ)
أبريل 29, 2023الخطبة الأولى ( يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته : (فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى) (34) ،(35) النازعات ، وقال الله تعالى : (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي) (23)، (24) الفجر ، وقال الله تعالى : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41) وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى) (39) :(42) النجم
إخوة الإسلام
من المعلوم لدينا : أن الناس كلهم يحاسبون في موقف القيامة ، إلا صنفا من الناس ، يتفضل الله عليهم ، فيدخلهم الجنة من غير سبق حساب ، ولا عذاب ،فقد روى الترمذي وحسنه الألباني (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةَ : (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنْ النَّعِيمِ) قَالَ النَّاسُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ عَنْ أَيِّ النَّعِيمِ نُسْأَلُ فَإِنَّمَا هُمَا الْأَسْوَدَانِ وَالْعَدُوُّ حَاضِرٌ وَسُيُوفُنَا عَلَى عَوَاتِقِنَا ؟ (قَالَ :إِنَّ ذَلِكَ سَيَكُونُ) ، وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية : ” أي: ثم لتسألن يومئذ عن شكر ما أنعم الله به عليكم، من الصحة والأمن والرزق وغير ذلك ، ما إذا قابلتم به نعمه من شكره وعبادته “، وروى الترمذي وصححه الألباني: ( عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ )، وقال ابن القيم رحمه الله :” قال قتادة : ” إن الله سائل كل عبد عما استودعه من نعمه وحقه ،والنعيم المسئول عنه نوعان : نوع أخذ من حله ،وصرف في حقه ،فيسأل عن شكره ،ونوع يأخذ بغير حله ،وصرف في غير حقه، فيسأل عن مستخرجه ومصرفه ”
والحساب يوم القيامة نوعان : النوع الأول : حساب عرض ، وهذا يخص المؤمن ، يُسأل عن عمله وعلمه ونعمة الله التي منّ بها عليه ، فيجيب بما يشرح صدره ،ويثبت حجته، ويديم نعمة الله عليه ، وإذا عرضت عليه ذنوبه أقر بها ،فيسترها الله عليه ويتجاوز عنه ، فهذا لا يناقش الحساب ،ولا يدقق عليه ،ولا يحقق معه ،ويأخذ كتابه بيمينه ،وينقلب إلى أهله في الجنة مسرورا ؛ لأنه نجا من العذاب ،وفاز بالثواب ، فقد روى البخاري ومسلم : (عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ عُذِّبَ) قَالَتْ قُلْتُ أَلَيْسَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى :(فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا ) ؟ قَالَ ( ذَلِكِ الْعَرْضُ ) ،قال الحافظ رحمه الله : ” قَالَ الْقُرْطُبِيّ : مَعْنَى قَوْله ” إِنَّمَا ذَلِك الْعَرْضُ ” أَنَّ الْحِسَابَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ إِنَّمَا هُوَ أَنْ تُعْرَضَ أَعْمَالُ الْمُؤْمِنِ عَلَيْهِ ،حَتَّى يَعْرِفَ مِنَّةَ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي سَتْرِهَا عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا ، وَفِي عَفْوِهِ عَنْهَا فِي الْآخِرَةِ ” ، وروى الامام أحمد في المسند وصححه الألباني :(عن عَائِشَةَ قالت : ” سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْحِسَابِ الْيَسِيرِ فَقُلْتُ :يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْحِسَابُ الْيَسِيرُ ؟ فَقَالَ : ( الرَّجُلُ تُعْرَضُ عَلَيْهِ ذُنُوبُهُ ثُمَّ يُتَجَاوَزُ لَهُ عَنْهَا ، إِنَّهُ مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ هَلَكَ ) ..وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : ” المؤمن يحاسب ولكنه ليس حساب مناقشة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:(من نوقش الحساب هلك -أو قال- عذب) لكنه حساب عرض ” ، وقد روى البخاري ومسلم : (عن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ( إِنَّ اللَّهَ يُدْنِي الْمُؤْمِنَ فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَيَسْتُرُهُ فَيَقُولُ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا ؟ فَيَقُولُ نَعَمْ أَيْ رَبِّ . حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ هَلَكَ قَالَ : سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ . فَيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ . وَأَمَّا الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُونَ فَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ )
أما النوع الثاني من الحساب يوم القيامة : فهو حساب مناقشة ، وهذا حساب الله للكفار ، ومن شاء من عصاة الموحدين ، وقد يطول حسابهم ويعسر بحسب كثرة ذنوبهم ، وهؤلاء العصاة من الموحدين يدخل الله منهم النار من شاء إلى أمد ، ثم يخرجهم فيدخلهم الجنة إلى أبد ، فقد روى مسلم : (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : ” قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ : هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؟ قَالَ : ( هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ فِي الظَّهِيرَةِ لَيْسَتْ فِي سَحَابَةٍ )؟ قَالُوا لَا قَالَ : ( فَهَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَيْسَ فِي سَحَابَةٍ )؟ قَالُوا لَا قَالَ : ( فَوَ الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ رَبِّكُمْ إِلَّا كَمَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ أَحَدِهِمَا ) ،قَالَ ( فَيَلْقَى الْعَبْدَ فَيَقُولُ أَيْ فُلْ أَلَمْ أُكْرِمْكَ وَأُسَوِّدْكَ وَأُزَوِّجْكَ وَأُسَخِّرْ لَكَ الْخَيْلَ وَالْإِبِلَ وَأَذَرْكَ تَرْأَسُ وَتَرْبَعُ؟ فَيَقُولُ بَلَى قَالَ فَيَقُولُ أَفَظَنَنْتَ أَنَّكَ مُلَاقِيَّ؟ فَيَقُولُ : لَا فَيَقُولُ فَإِنِّي أَنْسَاكَ كَمَا نَسِيتَنِي ، ثُمَّ يَلْقَى الثَّانِيَ فَيَقُولُ أَيْ فُلْ أَلَمْ أُكْرِمْكَ وَأُسَوِّدْكَ وَأُزَوِّجْكَ وَأُسَخِّرْ لَكَ الْخَيْلَ وَالْإِبِلَ وَأَذَرْكَ تَرْأَسُ وَتَرْبَعُ؟ فَيَقُولُ : بَلَى أَيْ رَبِّ فَيَقُولُ أَفَظَنَنْتَ أَنَّكَ مُلَاقِيَّ ؟ فَيَقُولُ لَا فَيَقُولُ فَإِنِّي أَنْسَاكَ كَمَا نَسِيتَنِي ، ثُمَّ يَلْقَى الثَّالِثَ فَيَقُولُ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ آمَنْتُ بِكَ وَبِكِتَابِكَ وَبِرُسُلِكَ وَصَلَّيْتُ وَصُمْتُ وَتَصَدَّقْتُ وَيُثْنِي بِخَيْرٍ مَا اسْتَطَاعَ ، فَيَقُولُ هَاهُنَا إِذًا قَالَ ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: الْآنَ نَبْعَثُ شَاهِدَنَا عَلَيْكَ ، وَيَتَفَكَّرُ فِي نَفْسِهِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْهَدُ عَلَيَّ؟ فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ وَيُقَالُ لِفَخِذِهِ وَلَحْمِهِ وَعِظَامِهِ انْطِقِي ، فَتَنْطِقُ فَخِذُهُ وَلَحْمُهُ وَعِظَامُهُ بِعَمَلِهِ وَذَلِكَ لِيُعْذِرَ مِنْ نَفْسِهِ وَذَلِكَ الْمُنَافِقُ وَذَلِكَ الَّذِي يَسْخَطُ اللَّهُ عَلَيْهِ ) ، وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : ” اختلف العلماء رحمهم الله في قوله تعالى : (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) (8) التكاثر) ،هل المراد الكافر، أو المراد المؤمن والكافر؟ والصواب: أن المراد به المؤمن والكافر، كل يسأل عن النعيم، لكن الكافر يسأل سؤال توبيخ وتقريع ، والمؤمن يسأل سؤال تذكير…وسؤال المؤمن سؤال تذكير بنعمة الله عز وجل عليه ، حتى يفرح ، ويعلم أن الذي أنعم عليه في الدنيا ، تكرم عليهم بنعمته في الآخرة، أما الكافر فإنه سؤال توبيخ وتنبيه ”
أيها المسلمون
وإن المتأمل والمتدبر لهذه الآيات الكريمات ،والتي تصدرت بها هذه الخطبة ،يتضح له جليا أنه سوف يرى نتيجة عمله يوم القيامة ،ويحاسب عليه ،ويجازى على ما قدم ،وإذا أيقن العبد بذلك ، فعليه من الآن أن يعد العدة ، ويستعد لهذا اليوم العظيم ، قال الفضيلُ بنُ عياض لرجلٍ : كم أتت عليك ؟ ،قال : ستون سنة ،قال : فأنت منذ ستين سنة تسيرُ إلى ربِّك ،يُوشِكُ أنْ تَبلُغَ ،فقال الرجل : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ،فقال الفضيلُ :أتعرف تفسيرَه ، تقول : أنا لله عبد وإليه راجع ،فمن عَلِمَ أنَّه لله عبد ،وأنَّه إليه راجع ،فليعلم أنَّه موقوفٌ ،ومن علم أنَّه موقوف ، فليعلم أنَّه مسؤول ،ومن عَلِمَ أنَّه مسؤولٌ ، فليُعِدَّ للسؤال جواباً ،فقال الرجل : فما الحيلةُ ؟ ، قال :يسيرة ،قال : ما هي ؟، قال :تُحسِنُ فيما بقي يُغفَرُ لك ما مضى ، فإنّك إنْ أسأتَ فيما بقي ،أُخِذْتَ بما مضى وبما بقي. فهيا يا أُخي : أقِبلْ على قِبْلَةِ التوجُّه إلى مولاك ، وأعرِض عَنْ مواصلة غِيِّك وهواك ، وواصل بقيَّة العمر بوظائف الطَّاعات ، واصبِر على ترك عاجلِ الشَّهوات ، فالفرارَ أيها المكلَّفُ كلَّ الفرارِ ، من مواصلة الجرائم والأوزارِ ، فالصَّبرُ على الطَّاعة في الدنيا ، أيسرُ مِنَ الصَّبرِ على النَّار ، قال بعض الحكماء : من كانت الليالي والأيام مطاياه ، سارت به وإن لم يسر ، فيا من كلما طال عمره زاد ذنبه ، ويا من كلما أبيض شعره بمرور الأيام أسود بالآثام قلبه ، ويا من تمر عليه سنة بعد سنة وهو مستثقل في نوم الغفلة والسنة ، ويا من يأتي عليه عام بعد عام وقد غرق في بحر الخطايا فعام ، ويا من يشهد الآيات والعبر كلما توالت عليه الأعوام والشهور ، ويسمع الآيات والسور ،ولا ينتفع بما يسمع ولا بما يرى من عظائم الأمور ، فك عنك قيود الغفلة ، واكسر حواجز الشهوات ، وانتبه لما هو آت ، قبل أن يفاجئك الرحيل ، وهناك ، فريق في الجنة ، وفريق في السعير .
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
فالمسلم لا بد له من أن يحاسب نفسه على أقواله وأفعاله ،في سفرة وحضره، ويحاسبها على العمل ،سواء كان الأمر يتعلق بالدين أو الدنيا، أو كان يتعلق به في خاصته ،أو يتعلق بغيرة من إخوانه، فإن ذلك هو أسلم الطرق للنجاة من النار ،ومن شدة المحاسبة في الآخرة ، والمحاسبة : أن يتصفح الإنسان في ليله ما صدر من أفعاله نهاره ،فإن كان محمودا أمضاه ،وأتبعه بما شاكله وضاهاه، وإن كان مذموما استدراكه إن أمكن ،وإن لم يمكن فيتبعها بالحسنات لتكفيرها ،وينتهي عن مثلها في المستقبل ، فلا نجاة للعبد إلا بالمحاسبة ، قال الله تعالى :﴿ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ [المجادلة 6] ،والمحاسبة تصدر من التأمل في هذه النصوص: قال الله تعالى : ﴿ يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾ المحاسبة انطلاقا من آثار قوله تعالى ﴿ يوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [آل عمران 30]. والمحاسبة تنطلق من الإيمان باليوم الآخر وأن الله يحاسب فيه الخلائق وقد حذرنا الله من ذلك اليوم فقال سبحانه وتعالي ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة 281].
ومحاسبة النفس : طريقة المؤمنين ،وسمة الموحدين ،وعنوان الخاشعين ،فالمؤمن متق لربه ،محاسب لنفسه مستغفر لذنبه ،يعلم أن النفس خطرها عظيم ،وداؤها وخيم ،ومكرها كبير ،وشرها مستطير ،فهي أمارة بالسوء ،ميالة إلى الهوى ،داعية إلى الجهل، قائدة إلى الهلاك ،تواقة إلى اللهو إلا من رحم الله ،فلا تُترك لهواها ، لأنها داعية إلى الطغيان، من أطاعها قادته إلى القبائح ،ودعته إلى الرذائل ،وخاضت به المكاره… وغوائلها عجيبة، ونزعاتها مخيفة وشرورها كثيرة ،فمن ترك سلطان النفس حتى طغى ،فإن له يوم القيامة مأوي من جحيم ، قال الله تعالى : ﴿ فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآَثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾ [النازعات 37 : 39] (وعلى النقيض من ذلك)، قال الله تعالى :﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾ [النازعات 40، 41] ، وقد أمرنا الله تعالى بالمحاسبة ،كما في قوله تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [الحشر 18] ، تنظر : أي تفكر و تتفكر ، يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي – رحمه الله – عن هذه الآية الكريمة : هي أصل في محاسبة العبد نفسه ،وأنه ينبغي له أن يتفقدها ،فإن رأى ذنبا تداركه بالإقلاع عنه ،والتوبة النصوح منه ،والإعراض عن الأسباب الموصلة إليه ،وإن رأى نفسه مقصرا في أمر الله، بذل جهده ،واستعان بربه في تتميمه وتكميله وإتقانه ،ويقايس بين منن الله عليه ،وبين تقصيره هو في حق الله ،فإن ذلك يوجب الحياء لا محالة ،والحرمان كل الحرمان أن يغفل العبد عن هذا الأمر ،ويشابه قوما نسوا الله وغفلوا عن ذكره والقيام بحقه ،وأقبلوا على حظوظ أنفسهم وشهواتها ،فلم ينجحوا ولم يحصلوا على طائل ،بل أنساهم الله مصالح أنفسهم ،وأغفلهم عن منافعها وفوائدها ،فصار أمرهم فرطا ،فرجعوا بخسارة الدارين، وغبنوا غبنا لا يمكن تدركه ،ولا يجبر كسره لأنهم هم الفاسقون .
أيها المسلمون
يقول الله تعالى: {يَومَ يَقُومُ الرٌّوحُ وَالمَلَائِكَةُ صَفًّا لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَن أَذِنَ لَهُ الرحمَنُ وَقَالَ صَوَابًا، ذَلِكَ اليَومُ الحَقٌّ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا، إِنَّا أَنذَرنَاكُم عَذَابًا قَرِيبًا يَومَ يَنظُرُ المَرءُ مَا قَدَّمَت يَدَاهُ وَيَقُولُ الكَافِرُ يَا لَيتَنِي كُنتُ تُرَابًا} [38 :40 النبأ].، يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ، ولكن يكون نظره ذلك حسرة عليه ،كما قال الله تعالى: {وَوُضِعَ الكِتَابُ فَتَرَى المُجرِمِينَ مُشفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيلَتَنَا مَالِ هَذَا الكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظلِمُ رَبٌّكَ أَحَدًا} [(49) الكهف]. وكما في الصحيحين : (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – « مَا مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ ، لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تَرْجُمَانٌ ، فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلاَ يَرَى إِلاَّ مَا قَدَّمَ مِنْ عَمَلِهِ ، وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلاَ يَرَى إِلاَّ مَا قَدَّمَ ، وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلاَ يَرَى إِلاَّ النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ ، فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ » ،ذلك النظر لا يزيد الإنسان إلا هلعاً وخوفاً ورعباً، وذلك النظر لا يزيد الإنسان إلا قلقاً واضطراباً، ذلك نظر مخيف يوم ينظر جرائمه وأعماله السيئة ،يوم ينظر ما قدمت يداه قال الله تعالى: {يَومَئِذٍ, يَصدُرُ النَّاسُ أَشتَاتًا لِّيُرَوا أَعمَالَهُم، فَمَن يَعمَل مِثقَالَ ذَرَّةٍ, خَيرًا يَرَهُ، وَمَن يَعمَل مِثقَالَ ذَرَّةٍ, شَرًّا يَرَهُ} [6: 8 الزلزلة]. ،ويقول الله تعالى: {وَمَن أَظلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعرَضَ عَنهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَت يَدَاهُ} [(57) الكهف]. فلا أحد أظلم ممن ذكر بأن يحاسب نفسه ،وبأن يتذكر ،وبأن ينظر ما قدمت نفسه ،وبأن ينظر ما قدم لغد ،بأن يحاسب نفسه قبل أن يحاسب، ولكنه أعرض ونسي ما قدمت يداه ،فلم يلق لها بالاً {وَمَن أَظلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعرَضَ عَنهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَت يَدَاهُ إِنَّا جَعَلنَا عَلَى قُلُوبِهِم أَكِنَّةً أَن يَفقَهُوهُ} [(57) الكهف] ،وذلك عقوبة لهم على نسيانهم لله تعالى – فطمس الله على قلوبهم ،وعلى بصائرهم ،فهم كل يوم يزدادون إجراماً وأعمالاً شنيعة.
الدعاء