خطبة عن ( اسم الله : الرَءُوف )
مايو 11, 2017خطبة عن ( القرآن شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ )
مايو 15, 2017الخطبة الأولى ( وجوب الحكم بما أنزل الله : (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (49) ، (50) المائدة ،وقال تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا) (105) النساء
إخوة الإسلام
إن تحكيم شرع الله في كل شؤون الحياة أمر ضروري لصلاح هذه الحياة واستقرارها، قال الحافظ ابن كثير عليه رحمة الله : في تفسيره لقوله تعالى : ( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) (50) المائدة
قال : (ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المُحْكَم المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات، التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات، مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم، فمن أعدل من الله في حكمه لمن عَقل عن الله شرعه، وآمن به وأيقن وعلم أنه تعالى أحكم الحاكمين، وأرحم بخلقه من الوالدة بولدها، فإنه تعالى هو العالم بكل شيء، القادر على كل شيء، العادل في كل شيء) وحكم الجاهلية – كما يصفها الله ويحددها قرآنه – هي حكم البشر للبشر , لأنها هي عبودية البشر للبشر , والخروج من عبودية الله , ورفض ألوهية الله , والاعتراف في مقابل هذا الرفض بألوهية بعض البشر وبالعبودية لهم من دون الله . فالجاهلية – في ضوء هذا النص – ليست فترة من الزمان ; ولكنها وضع من الأوضاع . هذا الوضع يوجد بالأمس , ويوجد اليوم , ويوجد غدا , فيأخذ صفة الجاهلية , المقابلة للإسلام , والمناقضة للإسلام . والناس – في أي زمان وفي أي مكان – إما أنهم يحكمون بشريعة الله – دون فتنة عن بعض منها – ويقبلونها ويسلمون بها تسليما , فهم إذن في دين الله . وإما إنهم يحكمون بشريعة من صنع البشر – في أي صورة من الصور – ويقبلونها فهم إذن في جاهلية ; وهم في دين من يحكمون بشريعته , وليسوا بحال في دين الله . والذي لا يبتغى حكم الله يبتغي حكم الجاهلية ; والذي يرفض شريعة الله يقبل شريعة الجاهلية , ويعيش في الجاهلية . وهذا مفرق الطريق , يقف الله الناس عليه . وهم بعد ذلك بالخيار ،ثم يسألهم سؤال استنكار لابتغائهم حكم الجاهلية ; وسؤال تقرير لأفضلية حكم الله .(وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ). . ومن ذا الذي يجرؤ على ادعاء أنه يشرع للناس , ويحكم فيهم , خيرا مما يشرع الله لهم ويحكم فيهم ؟ وأية حجة يملك أن يسوقها بين يدي هذا الادعاء العريض ؟ ،أيستطيع أن يقول: إنه أعلم بالناس من خالق الناس ? أيستطيع أن يقول: إنه أرحم بالناس من رب الناس ? أيستطيع أن يقول :إنه أعرف بمصالح الناس من إله الناس ؟ أيستطيع أن يقول: إن الله – سبحانه – وهو يشرع شريعته الأخيرة , ويرسل رسوله الأخير ; ويجعل رسوله خاتم النبيين , ويجعل رسالته خاتمة الرسالات , ويجعل شريعته شريعة الأبد . . كان – سبحانه – يجهل أن أحوالًا ستطرأ , وأن حاجات ستستجد , وأن ملابسات ستقع ; فلم يحسب حسابها في شريعته لأنها كانت خافية عليه , حتى انكشفت للناس في آخر الزمان ؟! ما الذي يستطيع أن يقوله من ينحي شريعة الله عن حكم الحياة , ويستبدل بها شريعة الجاهلية , وحكم الجاهلية ; ويجعل هواه هو أو هوى شعب من الشعوب ،أو هوى جيب من أجيال البشر , فوق حكم الله , وفوق شريعة الله ؟،ما الذي يستطيع أن يقوله . . وبخاصة إذا كان يدعي أنه من المسلمين؟!
الظروف ؟ الملابسات ؟ عدم رغبة الناس ؟ الخوف من الأعداء ؟ . ألم يكن هذا كله في علم الله ; وهو يأمر المسلمين أن يقيموا بينهم شريعته , وأن يسيروا على منهجه , وألا يفتنوا عن بعض ما أنزله ؟ ، فهل هناك قصور في شريعة الله عن استيعاب الحاجات الطارئة , والأوضاع المتجددة , والاحوال المتغلبة؟ ،ألم يكن ذلك في علم الله ; وهو يشدد هذا التشديد , ويحذر هذا التحذير؟، يستطيع غير المسلم أن يقول ما يشاء . . ولكن المسلم . . أو من يدعون الإسلام . . ما الذي يقولونه من هذا كله , ثم يبقون على شيء من الإسلام ؟ أو يبقى لهم شيء من الإسلام ؟ إنه مفرق الطريق , الذي لا معدى عنده من الاختيار ; ولا فائدة في المماحكة عنده ولا الجدال . . إما إسلام وإما جاهلية . إما إيمان وإما كفر . إما حكم الله وإما حكم الجاهلية . . والذين لا يحكمون بما أنزل الله هم الكافرون الظالمون الفاسقون . والذين لا يقبلون حكم الله من المحكومين ما هم بمؤمنين . . إن هذه القضية يجب أن تكون واضحة وحاسمة في ضمير المسلم ; وألا يتردد في تطبيقها على واقع الناس في زمانه ; والتسليم بمقتضى هذه الحقيقة ونتيجة هذا التطبيق على الأعداء والأصدقاء !
أيها المسلون
فحُكم الجاهلية هو كل حُكْمٍ خالفَ ما أنزل اللهُ تعالى على رسوله. فلا يُوجد في الوجود كله إلا حكم الله ورسوله أو حكم الجاهلية. فمن أعرض عن الأول ابتلي بالثاني المبني على الجهل والظلم والغي، ولهذا أضافه الله للجاهلية، وأما حكم الله تعالى فمبني على العلم، والعدل والقسط، والنور والهدى. لقد أغنانا الله وكفانا بالإسلام وأمرنا بالتحاكم إلى شرعه المنزل وإتباع نبيه المرسل، فمن حكم بغير شريعة الإسلام فقد حكم بحكم الجاهلية وبحكم الطاغوت، لأن الله أمرنا بالتحاكم إلى ما أنزل الله فقال لرسوله صلى الله عليه وسلم: (وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ) المائدة 49، وقال تعالى : (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ) النساء 105، فمن لم يقبل الحكم بما أنزل الله فهو يريد حكم الجاهلية ،وهو مصاب بذنوبه ،وهو فاسق بمراده خارج عن طاعة الله ،ويريد حكم الطاغوت كما قال عن اليهود: (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيدا) النساء 60، ومن اعتقد أن حكم غير الله أحسن من حكم الله ،أو أنه مساو له أو أنه مخير بين أن يحكم بحكم الله أو بحكم غيره ،فهو كافر الكفر الأكبر المخرج من الملة، لأنه لا حكم أحسن من حكم الله ،وهو الصالح لكل زمان ومكان ،وهو الحكم العدل الذي لا يجوز ولا يحابي ،وهو الذي يحل كل مشكلة ويبين حكم كل معضلة ، قال تعالى : (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) الانعام 38،
أيها المسلمون
إن شريعة الله التي جاء بها القرآن الكريم جاءت لتكون هي المرجع النهائي للبشرية جمعاء، ولتقيم المنهج الذي تقوم عليه الحياة البشرية في شتى شعبها ونشاطاتها، ولقد جاءت ليُحكم بها، لا لتعرف وتدرس، وتتحول إلى ثقافة في الكتب تُسَوَّدُ بها القراطيس؛ يقول الله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ} (48) المائدة. وإن هذه القضية يجب أن تكون واضحة، وحاسمة في ضمير المسلم ويجب التسليم التام بمقتضى هذه الحقيقة، وإلا لا يستقم للمسلم ميزان، ولا يتضح له منهج ولن يخطوَ خطوة واحدة في الطريق الصحيح. ومن المحزن أن القرآن الكريم لم يُعطَ المكانة السامية أو المنزلة المرموقة بنحو كافٍ بين أنصاره وأتباعه في هذه الأيام، فهو ليس للتبرك، ولا للتلاوة على أرواح الأموات، ومناسبات التعازي، أو التلاوة اليومية من حفظته وعشاقه فقط، وإنما هو دستور للعمل والتطبيق، وتصحيح للعقيدة والشريعة ومناهج السلوك والأخلاق، فإن الله تعالى أوجب بنص قاطع على عباده أن يتدبروا آياته، ويعملوا بنحو شامل لا يقبل التجزئة بشرائعه وأحكامه، كما قال سبحانه: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} (29) ص . ولو أتيح لكثير من الحكام حظ من التعقل والإنصاف ولو تجردوا ساعة من شهواتهم؛ لاستمدوا التشريع من معين القرآن، دستور الحياة الأقوم، ولحكموه في جميع شؤونهم، بإيمان واثق يملأ النفوس، والقلوب والمشاعر والأفئدة، وينير جوانب الحياة كلها ضياءُ الإسلام ونور القرآن .
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (الحكم بما أنزل الله : (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
إن المتدبر لهذه الآيات:(وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (49) ،(50) المائدة ، يتبين له أن الأمر بالتحاكم إلى ما أنزل الله، قد أكده الله بمؤكدات ثمانية وهي كالآتي: الأول: الأمر به في قوله تعالى: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنْزَلَ اللَّهُ). الثاني: أن لا تكون أهواء الناس ورغباتهم مانعة من الحكم به بأي حال من الأحوال وذلك في قوله: (وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ). الثالث: التحذير من عدم تحكيم شرع الله في القليل والكثير، والصغير والكبير، بقوله سبحانه:(وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ) . الرابع: أن التولي عن حكم الله وعدم قبول شيء منه ذنب عظيم موجب للعقاب الأليم، قال تعالى: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ ). الخامس: التحذير من الاغترار بكثرة المعرضين عن حكم الله، فإن الشكور من عباد الله قليل، يقول تعالى: (وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ) . السادس: وصف الحكم بغير ما أنزل الله بأنه حكم الجاهلية، يقول سبحانه: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ ). السابع: تقرير المعنى العظيم بأن حكم الله أحسن الأحكام وأعدلها، يقول عز وجل: (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا ) . الثامن: أن مقتضى اليقين هو العلم بأن حكم الله هو خير الأحكام وأكملها، وأتمها وأعدلها، وأن الواجب الانقياد له، مع الرضا والتسليم، يقول سبحانه: (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ )، وهذه المعاني موجودة في آيات كثيرة في القرآن، وتدل عليها أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم وأفعاله، فمن ذلك قوله سبحانه: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) النور 63، ففي سنن البيهقي (عَنْ عَدِىِّ بْنِ حَاتِمٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : أَتَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- وَفِى عُنُقِي صَلِيبٌ مِنْ ذَهَبٍ قَالَ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ) ،قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ. قَالَ :« أَجَلْ وَلَكِنْ يُحِلُّونَ لَهُمْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيَسْتَحِلُّونَهُ وَيُحَرِّمُونَ عَلَيْهِمْ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فَيُحَرِّمُونَهُ فَتِلْكَ عِبَادَتُهُمْ لَهُمْ ». وقال ابن عباس رضي الله عنه لبعض من جادله في بعض المسائل: (يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله، وتقولون: قال أبو بكر وعمر). ومعنى هذا: أن العبد يجب عليه الانقياد التام لقول الله تعالى، وقول رسوله، وتقديمهما على قول كل أحد، وهذا أمر معلوم من الدين بالضرورة. ولهذا كان من مقتضى رحمته وحكمته سبحانه وتعالى أن يكون التحاكم بين العباد بشرعه ووحيه؛ لأنه سبحانه المنزه عما يصيب البشر من الضعف، والهوى والعجز والجهل، فهو سبحانه الحكيم العليم اللطيف الخبير، يعلم أحوال عباده وما يصلحهم، وما يصلح لهم في حاضرهم ومستقبلهم، ومن تمام رحمته أن تولى الفصل بينهم في المنازعات والخصومات وشئون الحياة ليتحقق لهم العدل والخير والسعادة، بل والرضا والاطمئنان النفسي، والراحة القلبية.
أيها المسلمون
ومما تقدم يتبين لنا أن تحكيم شرع الله والتحاكم إليه مما أوجبه الله ورسوله، وأنه مقتضى العبودية لله والشهادة بالرسالة لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وأن الإعراض عن ذلك أو شيء منه موجب لعذاب الله وعقابه، وهذا الأمر سواء بالنسبة لما تعامل به الدولة رعيتها، أو ما ينبغي أن تدين به جماعة المسلمين في كل مكان وزمان. فالواجب على عامة المسلمين وأمرائهم وحكامهم، وأهل الحل والعقد فيهم: أن يتقوا الله عز وجل ويحكموا شريعته في بلدانهم وسائر شئونهم، وأن يقوا أنفسهم ومن تحت ولايتهم عذاب الله في الدنيا والآخرة، وأن يعتبروا بما حل في البلدان التي أعرضت عن حكم الله، وسارت في ركاب من قلد الغربيين، واتبع طريقتهم، من الاختلاف والتفرق وضروب الفتن، وقلة الخيرات، وكون بعضهم يقتل بعضا، ولن تصلح أحوالهم ويرفع تسلط الأعداء عليهم سياسيا وفكريا إلا إذا عادوا إلى الله سبحانه، وسلكوا سبيله المستقيم الذي رضيه لعباده، وأمرهم به ووعدهم به جنات النعيم، وصدق سبحانه إذ يقول : (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى) طه 124: 126، ولقد سارت كثير من بلاد المسلمين على طريق تحكيم القوانين الوضعية رويداً رويداً حتى انهارت بسبب ذلك، ولم يعد يوجد فيها من الإسلام إلا مظاهره التعبدية، ثم حاقت بها الأزمات والابتلاءات والمشكلات، مصداقاً لما سبق في الآيات الكريمة، وقد قيل قديماً: الشقي من وعظ بنفسه، والسعيد من وعِظ بغيره، فهل من مدكر؟
الدعاء