خطبة عن حديث ( إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةً وَفِتْنَةُ أُمَّتِى الْمَالُ)
يناير 20, 2018خطبة عن (ديمقراطية فرعون الماضي والحاضر)
يناير 27, 2018الخطبة الأولى ( الحلف بغير الله : إِنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته : ( وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) البقرة، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما : (عَنِ ابْنِ عُمَرَ – رضى الله عنهما أَنَّهُ أَدْرَكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فِى رَكْبٍ وَهْوَ يَحْلِفُ بِأَبِيهِ ، فَنَادَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – « أَلاَ إِنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ ، فَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ ، وَإِلاَّ فَلْيَصْمُتْ » .
إخوة الإسلام
جُبل الانسان على توكيد كلامه، أو وعوده وعهوده والتزاماته بالحلف ، فالحلف هو الملازمة؛ لأن الإنسان يلزمه الثبات على ما حلف عليه، والحلف يسمى (اليمين)؛ لأن المتحالفين كان أحدهما يصفق بيمينه على يمين صاحبه ، ويسمى الحلف أيضاً (القسم). فالحلف في الأصل: هو توكيد لشيء بذكر معظم ، ويكون ذلك مُصدراً بحرف من حروف القسم. ومعنى الحلف في الاصطلاح الشرعي : هو توكيد الشيء بذكر اسم الله، أو صفة لله تعالى، ويكون ذلك مُصدراً بحرف من حروف القسم ، وقد أجمع أهل العلم على أن اليمين المشروعة هي قول الرجل: والله، أو بالله، أو تالله، واختلفوا فيما عدا ذلك. ومن المعلوم أيضا ،أن اليمين عبادة من العبادات ، والتي لا يجوز صرفها لغير الله، فيحرم الحلف بغير الله تعالى، لقوله صلى الله عليه وسلم كما في الحديث المتقدم :« أَلاَ إِنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ ، فَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ ، وَإِلاَّ فَلْيَصْمُتْ » متفق عليه ، فمن حلف بغير الله سواء أكان المحلوف به نبياً أم ولياً أم الكعبة أم غيرها فقد ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب، ووقع في الشرك، فإن رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ : « مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ كَفَرَ أَوْ أَشْرَكَ » ، ولأن الحلف فيه تعظيم للمحلوف به، فمن حلف بغير الله كائناً من كان، فقد جعله شريكاً لله – عز وجل – في هذا التعظيم ، الذي لا يليق إلا به سبحانه وتعالى، وهذا من الشرك الأصغر ، إن كان الحالف إنما أشرك في لفظ القسم لا غير ، أما إن كان الحالف قصد بحلفه تعظيم المخلوق الذي حلف به كتعظيم الله تعالى، كما يفعله كثير من الناس الذين يحلفون بالأولياء أو الصالحين أحياء وأمواتاً، حتى ربما بلغ تعظيمهم في قلوبهم أنهم لا يحلفون بهم كاذبين، مع أنهم يحلفون بالله وهم كاذبون، فهذا شرك أكبر مخرج من الملة؛ لأن المحلوف به عندهم أجل وأعظم وأخوف من الله تعالى ، وفي سنن أبي داود والنسائي (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «لاَ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ وَلاَ بِأُمَّهَاتِكُمْ وَلاَ بِالأَنْدَادِ وَلاَ تَحْلِفُوا إِلاَّ بِاللَّهِ وَلاَ تَحْلِفُوا بِاللَّهِ إِلاَّ وَأَنْتُمْ صَادِقُونَ) وهناك بعض الناس يحلف بالأمانة ، وهو بذلك يعظم الأمانة ، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ،ففي سنن أبي داود : (عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَنْ حَلَفَ بِالأَمَانَةِ فَلَيْسَ مِنَّا ».
ولأن الحَلِف : معناهُ كما تقدم تأكيدُ الفعلِ أَو التركِ، بذكرِ المعظَّمِ فِي النفسِ، المرهوبِ السطوةِ وَالانتقامِ، وَالتعظيمُ المطلقُ، وَالخوفُ وَالخشيةُ من الأعمالِ التي لا تكونُ إلَّا للهِ ، فمن أخطأ وحلف بغير الله ثم استدرك خطأه فعليه أن يذكر الله ويستغفره ، ففي الصحيحين (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم « مَنْ حَلَفَ مِنْكُمْ فَقَالَ فِى حَلِفِهِ بِاللاَّتِ وَالْعُزَّى .فَلْيَقُلْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ .. ) ، فيجب على المسلم أن يكون حذرا في حلفه ، فلا يعظم غير الله , وقد فسر ابن عباس رضي الله عنهما قوله تعالى: { فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} البقرة (22) ، قال: الأنداد هو الشرك , وهو أخفى في هذه الأمة من دبيب النملة السوداء على صخرة سوادء في ظلمة الليل ، فعلى المسلم أن يكون تعظيمة لربه سبحانه , فلا يعظم أي مخلوق بنوع من أنواع التعظيم , لا الحلف ولا غيره ، ومتى عرف المسلم أن الله تعالى هو المستحق للتعظيم والتوقير ، فإنه يعرف أنه هو المستحق لجميع العبادات كلها , فحينئذ هو المستحق لأن يدعى وحده ، ولا يدعى غيره , وهو المستحق لأن يرجى ، وأن يخاف وأن يعتمد عليه ، وأن يتوكل عليه ، وأن يستعان به ، وأن يستغاث به , وهكذا جميع أنواع العبادات التي هي خالص حق الله تعالى , فيصرفها لله ويترك التعلق على مخلوق سوى الله . وعلى المسلم أيضا أن يحترم أسماء الله تعالى , فلا يكثر الحلف بها ؛ مخافة أن يقع في كذب وهو غير متعمد ، ثم يلام على ذلك، وقد كثر حلف الناس في هذا الزمان في البيع والشراء ، وهو بلا شك يوقعهم في كثير من الفجور ،أو نحو ذلك , وقد قال الله تعالى: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} القلم (10)، وحلاف: صيغة مبالغة أي: كثير الحلف , فإن الذي يكون كثير الحلف ،لابد أن يقع في شيء من الكذب , وجعل النبي صلى الله عليه وسلم من أسباب العذاب ، رجلا حلف على سلعة بعد العصر , لقد أعطي بها كذا وكذا وهو كاذب , خص بعد العصر ؛ وذلك لأنه وقت شريف ، يعني من أفضل الأزمنة . وخص الحلف مع أنه حلف بالله , ولكنه حلف على كذب, صدقه الذي حُلف له , وزاد في ثمن تلك السلعة لما أنه حلف له .ففي الصحيحين واللفظ للبخاري (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ :« ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ رَجُلٌ حَلَفَ عَلَى سِلْعَةٍ لَقَدْ أَعْطَى بِهَا أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَى وَهْوَ كَاذِبٌ ، وَرَجُلٌ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ كَاذِبَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ ،..) ، فهذا أخذ ما لا يستحقه ، وحلف بالله وهو كاذب ، وامتهن حرمة الزمان الذي هو وقت شريف وهو بعد العصر , فكان ذلك سببا لعقوبته بهذه العقوبة . وبذلك نتواصى بأن نحفظ أيماننا , يقول الله تعالى: { وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} المائدة 89، وقال الله تعالى (وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ ) البقرة 224،
أيها المسلمون
ومن الملاحظ أن من الأسباب التي أدت إلى انتشار الحلف بغير الله -تعالى-، والاستهانة بهذه القضية الخطيرة عند الناس اليوم أسباب عدة ، ومنها: أولاً: أن عظمة الله -تعالى- في نفوس كثير من المسلمين قد تلاشت، أو قاربت، فأصبح الله -عز وجل- ليس له مهابة في قلوب كثير من المسلمين، فهم يحلفون به في أي ساعة من ساعات الليل والنهار ،سواء كان الأمر يستأهل الحلف ، أو لا يستأهل الحلف، وهذه قضية خطيرة لها ، مساس مباشر بالعقيدة الإسلامية، فإن من أسماء الله -تعالى- أنه العظيم، هذا الاسم العظيم ،الذي جهلته قلوب كثير من المسلمين، فهذا الجهل به ،هو الدافع لانطلاق الحلف على ألسنة الناس. ثانياً: انعدام ثقة الناس بعضهم ببعض، ومن أسبابه فشو الكذب بين الناس، فترى هذا لا يصدق هذا إلا بالحلف، ويقول له إذا قال له الخبر بقضية عادية بأسلوب عادي: تقسم بالله أن هذا صحيح؟ لأن الثقة بين الناس قد انعدمت، وفشى الكذب حتى لم يميز الصادق من الكاذب، والأمين من الخائن، ومع انتشار القسم صار حتى القسم شيئاً عادياً، لا يصدق بمن يقسم.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( إِنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
وأعلموا – أن اليمين ثلاثة أنواع أو أقسام أولها : اليمين اللغو : وهو ما يجري على ألسنة الناس دون قصد، فترى أحدهم يقول يسأل: فلان موجود؟ فيقول له بعض الناس: والله غير موجود، هذا النوع من القسم لا يعتبر قسماً، ولا تنعقد به اليمين، ولا تجب بحنثه الكفارة، لأن المتكلم ما قصد الحلف، وإنما جرى على لسانه بغير قصد، وهذا هو معنى قول الله تعالى: (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ) البقرة: 225، أما النوع الثاني من اليمين: فاليمين الغموس الكاذبة، وهذه اليمين الذي يراد منها اقتطاع مال امرأ مسلم، أو أخذ حقه والاستيلاء عليه ظلماً وعدوانا ، فاليمين الكاذبة التي قال العلماء بالإجماع: إنه ليس لها كفارة مطلقاً؛ فاليمين الغموس الكاذبة هي في عظمة ذنبها أكبر من أن تكفرها أية كفارة؛ فلذلك قال العلماء: إنه لا كفارة لها مطلقاً، ولا يكفرها إلا التوبة والاستغفار، استغفار الله تعالى من هذا الجرم العظيم، وكذلك هي التي قال الله -تعالى- أنها من صفات المنافقين الذين قال الله عنهم: (وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) المجادلة: 14 ،أما النوع الثالث: فهي اليمين الواقعة أو المنعقدة ، يحلف بها الإنسان بالله -عز وجل- على أمر مباح أو مشروع أو غير محرم،هذه اليمين يشرع استخدامها للتأكيد على الحقائق
أيها المسلمون
ومما يرشد إليه هذا الحَدِيثِ ، وممَا يُسْتَفَادُ مِنَه : 1- تحريمُ الحَلِفِ بالآباءِ؛ لأنَّهُ الأصلُ فِي النهيِ . وَالنهيُ عن الحَلِفِ بالآباءِ عامٌّ لكلِّ شيءٍ . فلا يحلُّ لمخلوقٍ – كائنًا مَنْ كَانَ – أنْ يُقْسِمَ ويَحْلِفَ بغيرِ اللهِ جَلَّ وَعَلَا . أَمَّا اللهُ سبحانهُ وتعالى فلهُ أن يقسمَ بما شاءَ من مخلوقاتِهِ؛ ولهَذَا، فلا يحلُّ الحَلِفُ بغيرِ اللهِ تعالى وصفاتِهِ، مهما كَانَ عِظَمُ المحلوفِ بهِ، كالنبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالكعبةِ المشرَّفَةِ، وغيرِها . 2- إنَّ مَن أرادَ الحَلِفَ بغيرِ اللهِ فَلْيَلْزَم الصمتَ، فإنَّهُ أسلمُ لهُ . 3- وعلَّةُ النهيِ : أنَّ الحَلِفَ يرادُ بهِ التأكيدُ بذكرِ أعظمِ شيءٍ فِي نفسِ الحالفِ وأشدِّ عقابٍ وَانتقامٍ . وهَذَا لا يكونُ إلَّا للهِ تعالى وحدَهُ ، وصرفُه لغيرِهِ كفرٌ كما جاءَ فِي حديثِ ابنِ عمرَ، ولكنَّهُ كفرٌ لا يُخْرِجُ من الملَّةِ، فإنَّ الكفرَ أنواعٌ وأقسامٌ . 4- فضيلةُ عمرَ رضيَ اللهُ عنْهُ: بسرعةِ امتثالِهِ وحسنِ فهمِهِ وتورُّعِهِ . فلم يحلفْ بغيرِ اللهِ بنفسِهِ، ولم يحكِ قَسَمَ غيرِه بغيرِ اللِه، امتثالًا وَابتعادًا؛ لِئَلَّا يتعوَّدَ لسانُهُ عليه، فيخفَّ عليهِ ويعتادَهُ . 5- إنَّما خصَّ النهيَ عن الحَلِفِ بالآباءِ، مَعَ أنَّهُ عامٌّ فِي كلِّ ما سِوَى اللهِ تعالى؛ لأنَّ هذهِ عادةٌ جاهليَّةٌ، فنصَّ عليها بِعينِها، مَعَ فهمِ المرادِ العامِّ منها .
الدعاء