خطبة عن ( كَما تَدينُ تُدان )
يناير 9, 2017خطبة عن (متى تَلِينُ الجُلُودُ وتَقْشَعِرُّ؟، وتَخْشَعُ القُلُوبُ وتعتبر؟)
يناير 10, 2017الخطبة الأولى (الخيانة: صورها وآثارها) (وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخِيَانَةِ، فَإِنَّهَا بِئْسَتِ الْبِطَانَةُ)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) الأنفال 27، وقال جلَّ علا: (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ) الأنفال 58،
وقال تعالى: (وَلا تُجَادِلْ عَنْ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً) النساء 107 ،وروى النسائي وغيره (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُوعِ فَإِنَّهُ بِئْسَ الضَّجِيعُ وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخِيَانَةِ فَإِنَّهَا بِئْسَتِ الْبِطَانَةُ ». وفي مسند أحمد (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « لاَ يَجْتَمِعُ الإِيمَانُ وَالْكُفْرُ فِي قَلْبِ امْرِئٍ وَلاَ يَجْتَمِعُ الصِدْقُ وَالْكَذِبُ جَمِيعاً وَلاَ تَجْتَمِعُ الْخِيَانَةُ وَالأَمَانَةُ جَمِيعاً ».
إخوة الإسلام
الخيانة من الأخلاق السيئة التي حذر الإسلام منها ، فهي خصلة ذميمة ، تسبب انعدام الثقة بين أفراد المجتمع المسلم ،وهي خصلة قبيحة لا ترضاها النفوس السليمة ، ولكن ترتضيها النفوس الضعيفة والمريضة، والخيانة كلمة تجمع كل معاني السوء الممكن أن تلحق بإنسان، فهي نقض لكل ميثاق أو عقد بين إنسان وخالقه ، أو إنسان وإنسان ، أو بين الفرد والجماعة. قال الله تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ} [الأنفال من الآية:58]، وقال سبحانه: {وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} [يوسف من الآية:52]، وقرن الله جل وعلا بين الخيانة والكفر في قوله جلّ وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج من الآية:38]. والخيانة من سمات النفاق، فالخائن بالضرورة منافق، وإلا فكيف سيُخفي خيانته إلا بالنفاق؟! فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ « آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاَثٌ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ » (متفق عليه). ولقد حذر الله المسلمين من هذا الخلق الذميم فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) الأنفال 27، ونصوص الكتاب والسنَّة في التحذير من هذا الخلق وذمه وبيان سوء عاقبته، وأثره السيئة المترتبة عليها كثيرة، فمن ذلك أن الله جل وعلا أخبرنا أنه لا يحب الخائنين، فخلق الخيانة خلقٌ يبغضه الله قال الله جلَّ وعلا: (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ) [الحج من الآية:38]. ونهانا الله تعالى أن نجادل عمن يطلب ما ليس له أو عمن يمتنع عن بذل الحق الواجب عليه، وأخبر تعالى أن الخيانة من أسباب دخول النار: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ) التحريم (10)
وأشد الناس فضيحة يوم القيامة هم الخائنون، فإن النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – يَقُولُ « يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ » (متفق عليه)، وفي صحيح مسلم عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِذَا جَمَعَ اللَّهُ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرْفَعُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ فَقِيلَ هَذِهِ غَدْرَةُ فُلاَنِ بْنِ فُلاَنٍ ». فهذا الخائنَ وإن اندسّ بين الناسَ وإن عرف كيف يرتّب أموره بحيث لا يُفتضح أمام عباد الله فأين يذهب يوم القيامة؟! وكان عليه الصلاة والسلام يستعيذ من الخيانة كما روى أبو داود أنه كان يقول: « اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُوعِ فَإِنَّهُ بِئْسَ الضَّجِيعُ وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخِيَانَةِ فَإِنَّهَا بِئْسَتِ الْبِطَانَةُ ». رواه أبو داود، والنسائي ،والخيانة مذمومة حتى مع الكفار، حتى مع الخونة، قال تعالى : {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ} [الأنفال: 58]، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: « أَدِّ الأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ وَلاَ تَخُنْ مَنْ خَانَكَ » رواه أبو داود وغيره . وفيه أيضا (وَأَمَّا ابْنُ أَبِى سَرْحٍ فَإِنَّهُ اخْتَبَأَ عِنْدَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فَلَمَّا دَعَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- النَّاسَ إِلَى الْبَيْعَةِ جَاءَ بِهِ حَتَّى أَوْقَفَهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ بَايِعْ عَبْدَ اللَّهِ فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَنَظَرَ إِلَيْهِ ثَلاَثًا كُلُّ ذَلِكَ يَأْبَى فَبَايَعَهُ بَعْدَ ثَلاَثٍ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ « أَمَا كَانَ فِيكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ يَقُومُ إِلَى هَذَا حَيْثُ رَآنِي كَفَفْتُ يَدِى عَنْ بَيْعَتِهِ فَيَقْتُلُهُ ». فَقَالُوا مَا نَدْرِى يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا فِي نَفْسِكَ أَلاَ أَوْمَأْتَ إِلَيْنَا بِعَيْنِكَ ،قَالَ « إِنَّهُ لاَ يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ أَنْ تَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ الأَعْيُنِ ». فالمصطفى عليه الصلاة والسلام لم يرضَ أن يتَّخذ الخيانة وسيلة حتى في حقِّ كافر محارب لله ورسوله، فما مدى جرم أولئك الذين لا تكون خيانتهم إلا في مسلمين؟! كيف بالذين لا تكون خيانتهم إلا في حق مؤمنين موحدين، لا يرقبون فيهم إلا ولا ذمة؟! والخيانة من أخلاق اليهود قال جلَّ وعلا: (وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ) المائدة 13، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الخيانة تكون بعد القرون المفضلة ، وتنتشر بين الناس ، ففي الصحيحين (عن عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ – رضى الله عنهما – يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – « خَيْرُ أُمَّتِى قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ » . قَالَ عِمْرَانُ فَلاَ أَدْرِى أَذَكَرَ بَعْدَ قَرْنِهِ قَرْنَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا « ثُمَّ إِنَّ بَعْدَكُمْ قَوْمًا يَشْهَدُونَ وَلاَ يُسْتَشْهَدُونَ ، وَيَخُونُونَ وَلاَ يُؤْتَمَنُونَ ، وَيَنْذُرُونَ وَلاَ يَفُونَ ، وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ » . وأخبر صلى الله عليه وسلم أن الخائن لا تجوز شهادته ففي مسند أحمد عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- رَدَّ شَهَادَةَ الْخَائِنِ وَالْخَائِنَةِ) ،وأخبر صلى الله عليه وسلم أن الخائن متوعد بعدم دخول الجنة فقال صلى الله عليه وسلم: « مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إِلاَّ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ » رواه مسلم .
وأخبر صلى الله عليه وسلم عن ربه أن الله خصم الخائن في أمانته فيقول صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري : (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ – رضى الله عنه – عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ « قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ثَلاَثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِهِ أَجْرَهُ »
والخيانة موجودة في كل زمان ومكان، وفي كل الأمم ، وفي وقت السلم، وتشتد في الحرب، ولم يسلم منهم زمان دون زمان ولا مكان دون مكان، بل لم يسلم منهم أفضل زمان بوجود أفضل رجل ورجال، زمن النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، فكيف بمن بعده؟! ،ففي غزوة أُحُد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ألف من أصحابه، حتى إذا كان بالشوط بين المدينة وأحد انخزل عنه عبد الله بن أبي بن سلول بثلث الناس، وقال: “أطاعهم وعصاني!” يقول: “ما ندري علام نقتل أنفسنا ها هنا أيها الناس؟!” ،ولما خرج رسول الله إلى تبوك لمقابلة الروم وكان في الجيش بعض الخونة المنافقين فقاموا يرجفون ويخوّفون المسلمين، فقال بعضهم: “أتحسبون جِلادَ بني الأصفر -أي: الروم- كقتال العرب بعضهم بعضًا؟!” والله لكأنا بكم غدًا مُقرَّنين في الحبال، فالخيانة سلاح قديم عرفته الحروب البشرية، واستخدمته الدول والجيوش في حروبها؛ وذلك لإضعاف جبهة أعدائها وتفكيكها تمهيدًا للسيطرة عليها وإحراز النصر،
أيها المسلمون
وللخيانة صور متعددة ، وأنواع كثيرة ، ومجالات مختلفة ، فمن صور الخيانة : – الخيانة في الدين والعقيدة: ومن الخيانة في الدين الطعن في أصول الإسلام ومبادئه والتشكيك في ثوابته ومسلماته، ومن أنواع الخيانة تحريف النصوص من الكتاب والسنة وإخضاع الرأي البشري وتفريغها من مضموناتها وما دلت عليه، ومن أنواع الخيانة القدح في حملة الشريعة لاسيما أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الذين بلغونا كتاب الله ونقلوا لنا سنة نبينا صلى الله عليه وسلم وجدوا واجتهدوا في ذلك، فأصحابه الكرام والتابعون لهم بإحسان السائرون على نهجهم يجب احترامهم وتقديرهم، قال تعالى : (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) الحشر 10، ومن أنواع الخيانة في الدين محاربة شعائر الإسلام والسعي في تطويقها والطعن في حملة الشريعة وعلمائها والقدح فيهم بأي أنواع من القدح الدال على البغض والكراهية ، ومن أنواع الخيانة أيضاً الطعن في الذات الإلهية أو رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فإن المؤمن محب لله معظم له، محب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فالطعن في ذلك من عنوان النفاق والخيانة بالأمانة ،وعقيدة المسلم الإيمان بالله ورسوله ، والولاء لله ورسوله والبراء من أعداء الدين ، فعدم تحقيق ذلك خيانة لله ورسوله ، – ومن صور الخيانة :الخيانة في الشريعة: وذلك بعدم تطبيق أحكامها ، بل تعزل عن حياة المسلمين، وهذه الخيانة عمّت وطمّت، أين الشريعة في الدساتير العلمانية؟! أين الشريعة في الاقتصاد الربوي؟! أين الشريعة في الإعلام التحلُّلِي؟! وأين الشريعة في السلم والحرب والتعليم والقضاء؟! وما شريعة القرآن إلا عهود ومواثيق بين الله وعباده، وقد دعانا رب العزة إلى الوفاء فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ} [المائدة من الآية:1]، وقال تعالى {وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [المائدة من الآية:7].
ومن أعظم خيانات الأوطانِ والمجتمعات المسلمة أن يكون لبعض أفراد الناس ارتباط بعلاقات خارجية ومع جهات مشبوهة الغاية منها أن يتخذ الأعداء جسراً يعبرون منه على المجتمع المسلم فيدمرون ويفسدون ويخربون ويقعون فتنة ; وسفك الدماء ونهب الأموال وهتك الأعراض والفوضى بين أفراد المجتمع، فالسلم بعيد عن هذه الخيانة لا يرضى لوطن المسلم سوء ولا يسعى ولا يكون وسيلة ولا ذريعة ولا مطية لأعداء الإسلام بل يحفظ وطن المسلمين ويسعى في استقرار أمنه واستتبابه، إن من خيانة وطن المسلم التستر على المجرمين والمفسدين وإيواء الخائنين والمجرمين سوء كانت أخلاقية أو عقدية أو غير ذلك، لأن المسلم لا يقر الفساد ولعن الله من أوى محدثا، فلعن الله من أوى المحدث أواه ونصره ووقف بجانبه وخضع إلى الرشوة وغير ذلك لكي يضحي بوطنه ويضحي بالمجتمع المسلم من غير خوف ولا خجل ولا حياء، وإن من خيانة الوطن ما يفعله بعض ضعفاء الإيمان من التجار المسلمين حينما يحدث للسلع ويرفعون أسعارها ويخفونها لأجل أن يرفعوا على ; المستهلك استهلاكه وهذا من خيانة الأمانة، إذا التاجر الصدوق الأمين يجب أن يتقي الله له أن يربح ويحقق الأرباح لكن لا على حساب الإضرار بالآخرين.
ومن الخيانة للمسلمين نشر المخدرات والمسكرات وترويجها بين أفراد المجتمع فأولئك الذين يبيعون المخدرات ويروجنها في المجتمع المسلم ويكونون رصداً لأعداء الإسلام يأخذونها ويروجنها ويبذلونها بين شباب الأمة لإفساد كيان أمة وتدمير أخلاقها وقيمها – ومن الخيانة :الخيانة في الأعراض، ومن الخيانة في الأعراض النظرة الحرام، قال تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر من الآية:19]، قال ابن عباس: “هذا الرجل يدخل على أهل بيت وفيهم امرأة حسناء، فإذا غفلوا نظر إليها، وإذا فطنوا غضَّ بصره”، فكيف بالزنا؟! وقد حرّم الله الزنا ونهى عن مقاربته ومخالطة أسبابه فقال تعالى : {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً} [الإسراء:32]. فعرضك واجب المحافظة عليه، فإياك أيتها المسلمة أن تخوني زوجك بأي أنواع من الخيانة فخير مال الرجل المرأة الصالحة الذي إن نظر إليها أسرته، وإن أمرها أطاعته، وإن غاب عنها حفظته في نفسها وماله، والرجل أيضاً يحافظ على أمانته مع امرأته فلا يخونها بارتكاب الحرام الذي ربما أثر على علاقتها معه أو نقل إليها الأمراض الأضرار العظيمة، وكذلك المحافظة على البيت من أي سلوك سيء فإن المسلم يحمي بيته من أفلام خليعة وصور فاتنة وأغاني ماجنة تهدم الأخلاق والكرم والفضائل. – ومن الخيانة :الخيانة في الكسب: فالمسلم الحق يحرص على الحلال الطيب في مطعمه ومشربه، فلا غش ولا خداع ولا كذب، جاء في حديث أن رسول الله مر على صُبْرَة طعام أي: كُومة، فأدخل يده فيها، فنالت أصابعه بللاً، فقال: «ما هذا يا صاحب الطعام؟!»، قال: أصابته السماء يا رسول الله، قال: «أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس؟! من غش فليس مني» (رواه مسلم). ومن أنواع الخيانة خيانة الشريك لشريكه، فإن الشريك والشركاء يجب أن يؤدي كل منهم الأمانة لصحابه والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: “قال الله عز وجل أن ثالث الشريكين ما لم يخن احدهما الآخر، فإذا خان احدهم الأخر رفعت يدي وجاء الشيطان”، ومن أنواع الخيانة خيانة لأخيك المسلم فيما سألك من نصيحة واستشارك من مشورة فأبدي النصح الطيب والمشورة التي تعتقد صحتها وإياك أن تشير إليه أو ترشده إلى ما لا تعلم أنه خلاف الواقع فإن من حق المسلم على المسلم إذا نصحه أن ينصح له ويصدقه ويمحض الحق له، فإن المسلم يحب لأخيك المسلم ما يحب لنفسه، – ومن الخيانة :الخيانة في الولاية : فيستغلّ الرجل منصبه الذي عُيِّن فيه لجرّ منفعة إلى شخصه أو قرابته، فإن التشبّع من المال العام جريمة، قال رسول الله: «من استعملناه على عمل فرزقناه رزقًا فما أخذ بعد ذلك فهو غلول» (رواه أبو داود).ومن الخيانة أن يُسنَد عمل إلى غير أهلِه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: « فَإِذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ » . قَالَ كَيْفَ إِضَاعَتُهَا قَالَ « إِذَا وُسِّدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ » رواه البخاري ، فلا يُسند منصب إلا لصاحبه الحقيق به، ولا تُملأ وظيفة إلا بالرجل الذي ترفعه كفايته إليها، فلا اعتبار للمجاملات والمحسوبيات، حتى الصحبة لا ينظر إليها، انظروا كيف راعى النبي ذلك، فعَنْ أَبِى ذَرٍّ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلاَ تَسْتَعْمِلُنِي قَالَ فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى مَنْكِبِي ثُمَّ قَالَ « يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّكَ ضَعِيفٌ وَإِنَّهَا أَمَانَةٌ وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْىٌ وَنَدَامَةٌ إِلاَّ مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا وَأَدَّى الَّذِى عَلَيْهِ فِيهَا ». (رواه مسلم ).
– ومن معاني الخيانة أن يستغل الإنسان نعم الله في معصيته ، ولذا عقَّب سبحانه نهيه عن الخيانة بقوله: {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال 28]، ولذا كان من الخيانة تضييع الزوجة والأولاد، فلا يؤدبهم ولا يأمرهم بالمعروف ولا ينهاهم عن المنكر، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]. – ومن الخيانة أيضًا عدم حفظ العبد جوارحه وحواسه عن معصية الله تعالى، فلسانك -أخي المسلم أختي المسلمة- أمانة، إن حفظته من الكذب والغيبة والنميمة والسخرية بالناس والتجسس عليهم والقذف والفحش ، واستعملتَه في ذكر الله وتلاوة القرآن وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إن فعلت ذلك فقد أديت أمانة لسانك وجنّبتَ نفسك عذاب الله في الدنيا والآخرة. وعيناك أمانة ، فإن جنبتهما النظر إلى ما حرّم الله واستعملتهما فيما يعود عليك بالنفع فزت دنيا وأخرى .وأذناك أمانة ، فجنبهما الاستماع إلى ما يغضب الله من سماع اللهو والغناء والغيبة والنميمة، واستعملهما في الاستماع إلى الموعظة الحسنة وذكر الله وتلاوة كتابه، إذا فعلت ذلك -أخي المسلم- فقد أديت أمانة أذنيك.ورجلاك أمانة، فلا تمشِ بهما إلى أماكن اللهو والفسق والفجور وأماكن الظلم والزور والاعتداء والمنكر، وسِرْ بهما إلى صلاة الجماعة في المسجد وصلة الرحم والإصلاح بين الناس وإلى الجهاد في سبيل الله. ويداك أمانة، فلا تمدَّهما إلى ما يغضب الله، واعمل بهما أعمالاً تعود عليك بالنفع في الدنيا والآخرة. والبطن أمانة فلا تدخل فيه ما حرّم الله من المال. والفرج أمانة فقد مدح الله الحافظين لفروجهم، وأخبر أنهم مفلحون ومن أهل جنة الفردوس، فقال تعالى من سورة المؤمنين: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ} [المؤمنون:5-7] أي: المعتدون. والمال أمانة، فاحذر أن تبذره وأن تصرفه فيما حرم الله، وأنفقه على المساكين، وأخرج منه الزكاة. وفي سنن الترمذي « لاَ تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمْرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَا فَعَلَ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَا أَبْلاَهُ ». – ومن معاني الخيانة أن لا تحفظ حقوق المجالس التي تحضرها، فتدع لسانك يفشي أسرارها وينشر أخبارها، فكم من حبال تقطعت ومصالح تعطلت لاستهانة بعض الناس بأمانة المجلس، ففي سنن الترمذي عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « إِذَا حَدَّثَ الرَّجُلُ الْحَدِيثَ ثُمَّ الْتَفَتَ فَهِيَ أَمَانَةٌ ». ومن الخيانة إفشاء الأسرار الزوجية ، ففي مسند أحمد حَدَّثَتْنِي أَسْمَاءُ بِنْتُ يَزِيدَ أَنَّهَا كَانَتْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَالرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ قُعُودٌ عِنْدَهُ فَقَالَ « لَعَلَّ رَجُلاً يَقُولُ مَا يَفْعَلُ بِأَهْلِهِ وَلَعَلَّ امْرَأَةً تُخْبِرُ بِمَا فَعَلَتْ مَعَ زَوْجِهَا ». فَأَرَمَّ الْقَوْمُ فَقُلْتُ إِي وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُنَّ لَيَقُلْنَ وَإِنَّهُمْ لَيَفْعَلُونَ. قَالَ « فَلاَ تَفْعَلُوا فَإِنَّمَا مِثْلُ ذَلِكَ مِثْلُ الشَّيْطَانِ لَقِىَ شَيْطَانَةً فِي طَرِيقٍ فَغَشِيَهَا وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ ». – ومن الخيانة : خيانة العالم لعلمه، فالعلم أمانة في عنق العلماء، إن بيَّنوه للناس وصانوه من التحريف والتلاعب كانوا أوفياء لأقدس أمانة، وإن لم يفعلوا كانوا مرتكبين لأبشع صور الخيانة، {وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران:187]. – ومن معاني الخيانة خيانة الودائع التي وصى الله بها من فوق سبع سماوات، قال تعالى: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء من الآية:58]،
ويدخل في ذلك أداء الديون، فالمماطلة بها خيانة. انظروا إلى رسول الله كيف استخلف ابن عمه علي بن أبي طالب ليُسَلم إلى المشركين الودائع التي حفظوها عنده، مع أنهم آذوه واضطروه إلى ترك أرضه، والخيانة متى ظهرت في قوم فقد أذنت عليهم بالخراب، فلا يأمن أحد أحدًا، ويحذر كلُ أحد من الآخر، فلا يأمن صديق صديقه، ولا زوج زوجه، ولا أب ولده، وتترحل الثقة والمودة الصادقة فيما بين الناس، وقد جاء في مسند أحمد أن رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُول « تَكُونُ فِتْنَةٌ النَّائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْمُضْطَجِعِ وَالْمُضْطَجِعُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَاعِدِ وَالْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي وَالْمَاشِي خَيْرٌ مِنَ الرَّاكِبِ وَالرَّاكِبُ خَيْرٌ مِنَ الْمُجْرِى قَتْلاَهَا كُلُّهَا فِي النَّارِ ». قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَتَى ذَلِكَ قَالَ « ذَلِكَ أَيَّامُ الْهَرْجِ ». قُلْتُ وَمَتَى أَيَّامُ الْهَرْجِ قَالَ « حِينَ لاَ يَأْمَنُ الرَّجُلُ جَلِيسَهُ ». قَالَ قُلْتُ فَما تَأْمُرُنِي إِنْ أَدْرَكْتُ ذَلِكَ قَالَ « اكْفُفْ نَفْسَكَ وَيَدَكَ وَادْخُلْ دَارَكَ ».
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الأولى (الخيانة: صورها وآثارها) (وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخِيَانَةِ، فَإِنَّهَا بِئْسَتِ الْبِطَانَةُ)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
وإذا كانت الخيانة خلق ذميم وصفة سيئة فعلى المسلمين أن يتحلوا بالأمانة ، وأن يتخلوا ويقتلعوا من قلوبهم جذور الخيانة ، فتُربى القلوب على مخافة الله وخشيته، فقد كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يتفقد رعيته ليلاً وإذا به يسمع امرأة تقول لابنة لها: “اخلطي الماء باللبن”، فقالت البنت: “لقد نهانا عمر عن ذلك”، فقالت أمها: ” وما يدري عمر؟!” قالت البنت: “إن كان عمر غائبًا فإن ربه حاضر”. فتقع هذه الكلمة في قلبه، فيجمع وُلدَه ويعزم على أحدهم أن يتزوج هذه الفتاة، فيتزوجها ولده عاصم، فيكون من ولده عمر بن عبد العزيز الذي ملأ الدنيا عدلاً. وعلى المسلم أن يجاهد الخونة في مجتمعه قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التوبة:73]، وقد قدَّمت أن الخائن منافق. وعلى المسلم أن يسلك الطرق والوسائل التي تعينه على الأمانة ومقاومة الخيانة ومنها : أولاً: العودة للقرآن الكريم، بأن نحافظ على الورد اليومي للقرآن الكريم، ونحضَّ أزواجنا وأولادنا على ذلك، ونحرص على تحفيظ الأولاد القرآن الكريم، فيخرج جيل قرآني رباني جديد، ونحرص على إحياء مجالس القرآن الكريم في المساجد وتعليمه للناس، والعمل المستمر من أجل أن يُحكَّم فينا هذا القرآن. ثانيًا: مجاهدة النفس وحملها على الاستقامة، فمعادلة النصر في القرآن هي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]، ففي هذه الآية معركتان: المعركة الثانية: {يَنصُرْكُمْ وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ}، هي معركة يدبرها الله ويديرها ويخرج نتائجها، ونتيجتها النصر والتمكين. أما المعركة الأولى: {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ}؛ فميدانها النفس البشرية، والذي يدير هذه المعركة هو الفرد نفسه، ويخرج نتائجها بنفسه، والنتيجة هي الاستقامة، فلا نصر ولا تمكين إلا بعد الاستقامة، فعلينا أن نجاهد أنفسَنا ونحملها على الاستقامة ونبعدها عن مواطن المعصية التي تؤخر نصر الله.
ثالثًا: إحياء نفسية المقاومة والجهاد، فينبغي على الأمة لتقوم بواجب النُّصرة أن تكسر تلك القيود النفسية والمادية التي كُبلت بها، وتحطم تلك الأغلال التي تمسك بخناقها وتجعلها أسيرة الذل والهوان السرمدي وتحول بينها وبين سبيل الخلاص، وهذا هو الجهاد، تلك الكلمة التي تنخلع عند سماعها قلوب الأعداء، حينئذ فقط تلوح بوارق النصر، وتهب نسمات الجنة، ويغدو الخروج من تيه الذل والاستعباد رمية حجر، ونعرف معنى الحياة العزيزة التي حُرمنا منها منذ عقود طويلة، حتى غدت حلمًا بعيد المنال وضرباً من ضروب المحُال، وندرك ثاراتنا الجاثمة على قلوبنا جثوم الجبال الرواسي، قال تعالى : {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ . وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} [التوبة:14-15]. وأما غير ذلك فصيحات تتبخّر، وصرخات تتبعثر، لم تكن بالأُولى، ولن تكون الأخيرة، وما هي إلا همهماتُ محموم ونفثات مصدور، سرعان ما يعودُ سيرتَه الأولى، فلا كان ولا صار.
أيها المسلمون
وإن أمتنا الإسلامية تمرُّ في هذا الزمان بمحَنٍ عظيمة ونوازلَ شديدة ونكَبات متلاحقة، ساهم فيها بشدة تعرّض الأمة لخيانات متعدّدة، تارة من أعدائها، وتارات -وهو أنكى- من أبنائها. يُخادعني العدو فلا أبالي *** وأبكي حين يخدعني الصديق ، نعم، كل الخيانة قاسية ومريرة مريرة، لكن الأقسى أن يخونك من تتوقّع منه العون، فبالخيانة أسقطت دولة الخلافة الإسلامية، وكانت رمزًا تجمع شتات المسلمين، فتمزقت أوطان المسلمين إلى بلدان وأقاليم، وأقام أعداؤنا في كلّ موطن وإقليم سلطانًا مواليًا لنفوذهم، ينفذ سياستهم بالترغيب والترهيب والحماية، ثم عمدوا إلى مناهج التعليم والتربية فصبغوها بصبغتهم في الإلحاد والكفر، وأنشؤوا بذلك أجيالاً من أبناء المسلمين يعادون دينهم ويتنكرون لتاريخهم وأمتهم، ثم عمدوا إلى الدين والحق فحاصروه في نفوس أتباعه، وضيقوا الخناق عليه في كل مكان، واضطروا أهله إلى النجاة بأنفسهم أو تحمّل صنوف العذاب والبلاء، وبالخيانة تم غزونا فكريًا، فلم يستطع الغرب أبدًا أن يغزونا فكريًا ولا أن يهزم أرواحنا حتى حين هزم جيوشنا، لكن تكفّل بالمهمة الخونة من أبناء جلدتنا، وصدق الله تعالى : {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة:204].
فبسلاح الغدر والخيانة ذلك السلاح الذي تجرعت الأمة وتتجرع بسببه المرارات، وعن طريقه فقدت الأمة أعظم قادتها وخلفائها ممن أعجَزَ أعداءَها على مر التاريخ، فالرسول سَمَّته يهود، وعمر قتله أبو لؤلؤة المجوسي، وعثمان قتلته يد الغدر، وعلي وغيرهم ممن أغاظ أعداء الله أذاقهم صنوف العذاب والهوان في ساحات النزال، وفي بئر معونة قُتِلَ سبعون من خيار الصحابة، لأجل هذا جاء التحذير من الخيانة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال:27]. والخيانة متى ظهرت في قوم فقد أذنت عليهم بالخراب، فلا يأمن أحد أحدًا، ويحذر كلُ أحد من الآخر، فلا يأمن صديق صديقه، ولا زوج زوجه، ولا أب ولده، وتترحل الثقة والمودة الصادقة فيما بين الناس، وينقطع المعروف فيما بين الناس مخافة الغدر والخيانة، ومن قصص العرب أن رجلاً كانت عنده فرس معروفه بأصالتها، سمع به رجل فأراد أن يسرقها منه، واحتال لذلك بأن أظهر نفسه بمظهر المنقطع في الطريق عند مرور صاحب الفرس، فلما رآه نزل إليه وسقاه ثم حمله وأركبه فرسه، فلما تمكن منه أناخ بها جانبًا وقال له: “الفرس فرسي وقد نجحت خطتي وحيلتي”، فقال له صاحب الفرس: “لي طلب عندك”، قال: “وما هو؟” قال: “إذا سألك أحد: كيف حصلت على الفرس؟ فلا تقل له: احتلت بحيلة كذا وكذا، ولكن قل: صاحب الفرس أهداها لي”، فقال الرجل: “لماذا؟!” فقال صاحب الفرس: “حتى لا ينقطع المعروف بين الناس، فإذا مرّ قوم برجل منقطع حقيقة يقولون: لا تساعِدوه لأن فلانًا قد ساعد فلانًا فغدر به”. فنزل الرجل عن الفرس وسلمها لصاحبها واعتذر إليه ومضى.
الدعاء