خطبة عن (الله هو الحفيظ الحافظ)
يوليو 19, 2025الخطبة الأولى (الخير كل الخير فيما يختاره الله)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (68) القصص، وقال تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا) (36) الأحزاب. وروى مسلم في صحيحه: (عَنْ صُهَيْبٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ».
إخوة الإسلام
رحمة الله سبحانه تعالى بنا واسعة، ورفقه بنا دائم، وهو سبحانه يختار لنا الخير، فالخير فيما اختاره الله ، فكم من أمر تمنيناه، فظهر شره فيما بعد، وكم من أمر کرهناه، فظهر خيره فيما بعد، وصدق الله العظيم إذ يقول: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (216) البقرة، وقال سبحانه: (فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا) (19) النساء،
فكُن على يقين أن ما يختاره الله فيه الخير لنا، حتى ولو كان خارج رغبتنا، فارضَ بما قسم الله لك؛ واصبر على ما أصابك، واحتسب، واعلم أن الخير حليف المؤمن، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ». ويقول ابن القيم: (لو كشف الله الغطاء لعبده، وأظهر له كيف يدبر أموره، وكيف أن الله أكثر حرصا على مصلحة العبد نفسه، وأنه أرحم به من أمه، لذاب قلب العبد محبة لله)،
فعلى المؤمن التسليم لقضاء الله وقدره في كل شيء، وليحذر كل الحذر من التسخط، وإظهار الجزع من القضاء والقدر، فإن الشر كل الشر في ذلك، كما أن الخير كل الخير فيما اختاره الله وقضاه، والله سبحانه وتعالى إذا قضى على العبد قضاءً لا يرضاه، كالأمراض والآفات والمصائب في النفس والأهل والأولاد ونحو ذلك، فإن الله أراد لعبده الخير بذلك، ولكن الإنسان ظلوم جهول،
وجاء في حكم ابن عطاء الله: “لا يكُنْ تَأخُّرُ أَمَدِ العَطاء مَعَ الإلْحاحِ في الدّعَاءِ مُوجبًا ليأسِك، فهو ضَمِنَ لَكَ الإجابَةَ فيما يختارُهُ لكَ لا فيما تختاره لنَفْسكَ وفي الوقْتِ الذي يُريدُ لا في الوقْت الذي تُريدُ”. فهو سبحانه ضمن لك الإجابة بقوله: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60]. فإذا دعوت الله تعالى وسجدت له، واعترفت بفقرك وضعفك وحاجتك، وأنه لا حول ولا قوة إلا بالله، فقد استجاب لك، ولكن فيما يختاره لك، لا فيما تختاره لنفسك، فإنه أعلم بما يَصلُح لك منك، فربما طلبت شيئًا كان الأولى منعه عنك، فيكون المنع عين العطاء، وربما منعك فأعطاك، وربما أعطاك فمنعك، وكذلك ضمن لك الإجابة في الوقت الذي يريد، لا في الوقت الذي تريد، يقول الإمام علي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه:
وكم لله من لطفٍ خفيٍ *** يَدِقّ خَفَاهُ عَنْ فَهْمِ الذَّكِيِّ
وَكَمْ يُسْرٍ أَتَى مِنْ بَعْدِ عُسْر *** فَفَرَّجَ كُرْبَة َ القَلْبِ الشَّجِيِّ
وكم أمرٍ تُساءُ به صباحًا *** وَتَأْتِيْكَ المَسَرَّة ُ بالعَشِيِّ
إذا ضاقت بك الأحوال يومًا *** فَثِقْ بالواحِدِ الفَرْدِ العَلِيِّ
وَلاَ تَجْزَعْ إذا ما نابَ خَطْبٌ *** فكم للهِ من لُطفٍ خفي
فالعبد المؤمن من تأدَّب مع ربه، ولم يتزلزل عند تأخُّر ما وعده به، وثمرة هذا الثقةُ: الاطمئنانُ إلى حكمته وتدبيره، لأن الله تعالى قال: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ . لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد:22-23].
فما من أمرٍ من الأمور في هذا الكون إلا بقدرةِ وحكمةِ، وتقديرِ بليغ، فإذا كان فوات المطلوب، فلا تأس ولا تحزن، ولا تسخط، وإذا كان تحقيق المراد، وانفتاح الدنيا، وإغداق النِّعم، فلا تفرح الفرح المؤدي إلى نسيان الله، والبطر والغرور بالنعمة، فقد تأتي النجاة من قلب الهلاك، وقد تكتب الحياة في زحام الموت، وقد يكون الموت مع توفر أسباب الحياة، فكثيرًا ما نمرُّ بصعاب، يظن الإنسان أنها نهاية العالم، ويتبرَّم ويُصاب بالأزمات النفسية، إلا من اطمأن قلبه، بثقته في ربه الخالق المدبر الحكيم القدير سبحانه وتعالي.
فالخير كل الخير فيما يختاره الله: يقول سيد قطب رحمه الله: “إن الإسلام يُقرِّر أن من الفرائض ما هو شاق مرير كريه المذاق؛ ولكن وراءه حكمة تُهوِّن مشقته، وتسيغ مرارته، وتحقق به خيرًا مخبوءًا، قد لا يراه النظر الإنساني القصير، فمن يدري، فلعل وراء المكروه خيرًا، ووراء المحبوب شرًا، فإن العليم بالغايات البعيدة، المُطَّلع على العواقب المستورة، هو الذي يعلم وحده، حيث لا يعلم الناس شيئًا من الحقيقة، وعندما تنسم تلك النسمة الرخية على النفس البشرية تهون المشقة، وتتفتح منافذ الرجاء، ويستروح القلب في الهاجرة، ويجنح إلى الطاعة، والأداء في يقين وفي رضاء.
وهكذا يُربي الإسلام الفطرة، فلا تملّ التكليف، ولا تجزع عند الصدمة الأولى، ولا تخور عند المشقة البادية، ولا تخجل وتتهاوى عند انكشاف ضعفها أمام الشدة، ولكن تثبت وهي تعلم أن الله يعذرها ويمدها بعونه ويُقوِّيها، وتصمم على المضي في وجه المحنة، فقد يكمن فيها الخير بعد الضُرّ، واليُسرِ بعد العُسر، والراحة الكبرى بعد الضنى والعناء، ولا تتهالك على ما تحب وتلتذ، فقد تكون الحسرة كامنة وراء المتعة، وقد يكون المكروه مختبئًا خلف المحبوب ،وقد يكون الهلاك متربِّصًا وراء المطمع البرَّاق، فما تستشعر النفس حقيقة السلام، إلا حين تستيقن أن الخيرة فيما اختاره الله، وأن الخير في طاعة الله.
لقد كان المؤمنون الذين خرجوا يوم بدر، يطلبون عِير قريش وتجارتها، ويرجون أن تكون الفئة التي وعدهم الله إيَّاها هي فئة العِير والتجارة، لا فئة الحامية المقاتلة من قريش، ولكن الله جعل القافلة تفلت، ولقاهم المقاتلة من قريش، وكان النصر الذي دوّى في الجزيرة العربية، ورفع راية الإسلام، فأين تكون القافلة من هذا الخير الضخم، الذي أراده الله للمسلمين؟، وأين يكون اختيار المسلمين لأنفسهم من اختيار الله لهم؟، فالله يعلم والناس لا يعلمون.
فكم من محنة تجرَّعها الإنسان، يكاد يتقطع لفظاعتها، ثم ينظر بعد فترة، فإذا هي تنشئ له في حياته من الخير ما لم ينشئه الرخاء الطويل، فعسى أن يكون الخير كامنًا في الشر: {فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء:19].
ويتجسَّد هذا المعنى في قصة موسى والعبد الصالح عليهما السلام: فالحكمة الإلهية العليا، التي لا ترتب النتائج القريبة على المُقدِّمات المنظورة، بل تهدف إلى أغراض بعيدة لا تراها العين المحدودة، فخرق السفينة فيه البركة، والنجاة من الغصب، فبهذا العيب نجت السفينة من أن يأخذها ذلك الملك الظالم غصبًا؛ وسفينتك: قد تكون زوجتك التي فقدتها، وقد يكون ابنك المجروح، أو مالك المُصَادر، أو وظيفتك، أو عزيز لديك، فلو خُرِقت سفينتك، أترضى بقضاء الله، وتعلم أن الله يُدبِّر لك خيرًا تجهله، فيه النجاة، أم تسخط وتستنكر قضاء الله؟، وماذا لو أن المساكين أصحاب السفينة استنكروا ما فعله العبد الصالح، ولاموه على ذلك، وأصلحوا ما خَرَق؟!، لغُصِبَت سفينتهم، وكانوا من الخاسرين.
وفي قتل الغلام لطف خفي، قال تعالى: {وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا} [الكهف:80] فهذا الغلام لا يستحق القتل في الظاهر، ولكن الغيب يُطْلِع العبدَ الصالح على سبب قوي لقتله، إنه سينشأ كافرًا طاغيًا، تكمن في نفسه بذور الكفر والطغيان ،فلو عاش لأرهق والديه المؤمنَيْنِ بكفره وطغيانه، وقادهما بدافع حبهما له أن يتبعاه في طريقه، فأراد الله، ووجه إرادة عبده الصالح إلى قتل هذا الغلام، وأن يبدلهما الله خلفًا خيرًا منه، لطفًا ورحمة به وبوالديه، فيدخلوا جميعًا في رحمته يوم القيامة، أم أنهم مع حياته يدخلون في عذابه يوم القيامة؟.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (الخير كل الخير فيما يختاره الله)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
فإذا كنت مبتلى فاعلم أن الله اختار لك هذا لتغبط يوم القيامة، لما تناله من خيرٍ عميم، وثواب عظيم، فلا تشغل نفسك بما يُطغيك ويُنسيك الله، ويُشقيك ويُرديك في الآخرة، وما مشهد سراقة بن مالك، وعمر ابن الخطاب (رضي الله عنهما) ينادي في الناس ليُلبِسه سواري كسرى، إلا دليلًا على أن الثقة في الله، وفي شرعه، هي النجاة، مهما طال الزمن، وبعدت المسافات.
ومتى شعر المرء برضا ربه، وثقته في ربه، وفي دينه، شعر بالسعادة حتى ولو لم يملك من الدنيا إلا ما يَسدّ به رمقه، ويشعر بحلاوةٍ لا تضاهيها حلاوة وفي ذلك روى مسلم: (عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ مَنْ رَضِي بِاللَّهِ، رَبًّا وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا».
فشعر براحة البال، وسعادة القلب وطمأنينة النفس، من رَضِي بالله ربًّا مُدبِّرًا مُشرِّعًا إلهًا حاكمًا، وبالإسلام دينًا يَدِين به، أي يتخذه منهجًا يسيِّر به أموره ويتبع شرعته، وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم قدوةً ومثلًا لتطبيق هذا الدين واتباع هذه الشريعة. قَالَ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زَيْدٍ: “الرِّضَا بَابَ اللَّهِ الْأَعْظَمَ، وَجَنَّةَ الدُّنْيَا، وَمُسْتَرَاحَ الْعَارِفِينَ، وَسِرَاجُ الْعَابِدِينَ وَحَيَاةَ الْمُحِبِّينَ، وَنَعِيمَ الْعَابِدِينَ، وَقُرَّةَ أَعْيُنِ الْمُشْتَاقِينَ”.
أيها المسلمون
وقد جاء في قصص السابقين: أنه كان هناك ملك، لديه وزير حكيم، يؤمن بأن كل ما يختاره الله هو خير، حتى لو بدا للوهلة الأولى شرًا، وفي أحد الأيام، قطع الملك إصبعه أثناء تقطيع الفاكهة، فقال الوزير “الخيرة فيما اختاره الله”. فغضب الملك، وأمر بسجن الوزير، قائلاً “وما الخير في ذلك؟”. وبعد فترة، خرج الملك للصيد، ودخل أرض قوم يعبدون النار، وأخذوه ليقدموه قرباناً. ولكنهم لما رأوا إصبعه مقطوعة، رفضوا تقديمه قرباناً، لأنه غير كامل. وعندئذٍ تذكر الملك قول الوزير، وأطلق سراحه، ثم استدعى الوزير وأخبره بالقصة. وسأل الملك الوزير عن الخير في سجنه، فأجاب الوزير: “لو لم أسجن، لكنت معك في الصيد، وقدمت قرباناً بدلاً منك”. وهذه القصة تعلمنا الرضا بقضاء الله والتسليم بأمره، وأن ما يبدو شرًا قد يكون خيرًا مستترًا.
الدعاء