خطبة عن (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)
نوفمبر 2, 2025الخطبة الأولى (الخَطَأُ وأَنْوَاعُهُ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: ﴿وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ [الأحزاب:5]. وفي سنن ابن ماجه: (عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ».
إخوة الإسلام
إِنَّ الْخَطَأَ سِمَةٌ بَشَرِيَّةٌ، لَا يَسْلَمُ مِنْهَا أَحَدٌ، كما قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ». ، وفي صحيح مسلم: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ».
فَالْخَطَأُ وَاقِعٌ مِنَ النَّاسِ لَا محالة، ولا مَفَرَّ مِنْهُ، وَلَكِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْعَاقِلِ وَالْغَافِلِ، أَنَّ المؤمن العاقل إِذَا أَخْطَأَ اعْتَرَفَ، وَتَابَ ورجع وأقلع، وندم واستغفر، وَأما الْغَافِل فيُبَرِّرُ خطأه، وَيُصِرُّ وَيَتَمَادَى في إجرامه.
وقد خلق الله الإنسان ضعيفًا، فقال سبحانه: ﴿وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا﴾ [النساء:28]. ولذلك جعل الله له بابًا للتوبة والرجوع، فليس الخطأ في ذاته هلاكًا، ولكن الإصرار عليه هو الخطر الحقيقي فالخطأ ليس نهاية الطريق، بل هو بداية التصحيحٍ، إن صدقت النية في التوبة.
ومن أعظم الخطأ أن يرى الانسان نفسه منزّهًا عنه، أو يبرّر فعله ولا يعترف بتقصيره، فيغلق باب الإصلاح على نفسه، ومن الخطأ أن نرى غيرنا يخطئ، فنسخر أو نُعيّر أو نُفضح ،بينما نحن نحتاج إلى من يسترنا لو علم بذنوبنا وأخطائنا.
ومَنْ تَدَبَّرَ فِي سِيَرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَجَدَ أَنَّهُمْ مَا عُصمُوا مِنَ الْخَطَإِ، وَلٰكِنَّهُمْ سَارَعُوا إِلَى التَّوْبَةِ وَالِاعْتِرَافِ، والندم والاستغفار، فهذا نبي الله آدَمُ (عَلَيْهِ السَّلَامُ)، أخطأ وأكل من الشجرة المنهي عنها، قال تعالى: (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى) (120)، (121) طه، فلما تبين له خطأه، قَالَ: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ الأعراف:23، فَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ. وهذا نبي الله يُونُسُ (عَلَيْهِ السَّلَامُ)، قال الله تعالى في شأنه: (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) (87)، (88) الأنبياء، وَهٰكَذَا الْمُؤْمِنُ الصَّادِقُ، مَتَى زَلَّ أَوْ أَخْطَأَ، لَمْ يُبَرِّرْ، وَلَمْ يُكَابِرْ، بَلْ أَسْرَعَ إِلَى رَبِّهِ مُسْتَغْفِرًا، نَادِمًا، عَازِمًا عَلَى أَلَّا يَعُودَ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ
وإذا كان الخطأُ أمرًا لا يسلم منه أحد، فإن الواجب علينا أن نُحسن التعامل معه، وأول ذلك: أن نُدرك أن الله لا يريد من عباده العصمة، بل يريد منهم التوبة والرجوع والاستغفار والندم
والأخطاء تتنوع وتختلف، ولَها أَصْنَافٌ وَأَلْوَانٌ متعددة: فَمِنَ الْأَخْطَاءِ مَا يَكُونُ فِي حَقِّ النَّفْسِ: كَالتَّفْرِيطِ فِي الصَّلَاةِ وَالطَّاعَاتِ، وَإِضَاعَةِ الْأَوْقَاتِ فِي اللَّهْوِ وَالْغَفَلَاتِ، وَمِنْهَا: مَا يَكُونُ فِي حَقِّ الْغَيْرِ: كَالْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَالظُّلْمِ وَالِاعْتِدَاءِ عَلَى الْمَالِ أَوِ الْعِرْضِ، وَمِنْهَا: مَا يَكُونُ فِي مَجَالِ الدَّعْوَةِ وَالْإِصْلَاحِ: كَالْغُلُوِّ أَوِ التَّفْرِيطِ، أَوِ التَّسَرُّعِ فِي الْحُكْمِ عَلَى النَّاسِ. ومنها: مَا يَكُونُ عَنْ جَهْلٍ، وَمِنْها: مَا يَكُونُ عَنْ غَفْلَةٍ، وَمِنْها: مَا يَكُونُ عَنْ عَمْدٍ وَاعْتِدَاءٍ، وَقَدْ يَقَعُ الخطأ فِي الْقَوْلِ، أَوِ في الْفِعْلِ، أَوِ في الْحُكْمِ، أَوِ في الْمَوْقِفِ، وَكُلُّ ذٰلِكَ يَحْتَاجُ إِلَى مِيزَانٍ مِنَ الْوَرَعِ، وَالْعَقْلِ، وَالرُّجُوعِ إِلَى الْحَقِّ مَتَى تَبَيَّنَ.
ومن الأخطاء العظيمة: الْخَطَأُ فِي حَقِّ اللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ، وهو خطأ عَظِيمٌ، وَلٰكِنَّهُ يُغْفَرُ بِالتَّوْبَةِ وَالنَّدَمِ وَالِاسْتِغْفَارِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا﴾ [الزُّمَرِ:٥٣]. فَكَمْ مِنْ عَبْدٍ عَصَى، فَأَنَابَ، فَصَارَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ، بَعْدَ أَنْ كَانَ مِنَ الْمُسْرِفِينَ. وفي الصحيحين: (أن أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ «إِنَّ عَبْدًا أَصَابَ ذَنْبًا – وَرُبَّمَا قَالَ أَذْنَبَ ذَنْبًا – فَقَالَ رَبِّ أَذْنَبْتُ – وَرُبَّمَا قَالَ أَصَبْتُ – فَاغْفِرْ لِي فَقَالَ رَبُّهُ أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ غَفَرْتُ لِعَبْدِي . ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أَصَابَ ذَنْبًا أَوْ أَذْنَبَ ذَنْبًا، فَقَالَ رَبِّ أَذْنَبْتُ – أَوْ أَصَبْتُ – آخَرَ فَاغْفِرْهُ. فَقَالَ أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ غَفَرْتُ لِعَبْدِي، ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ أَذْنَبَ ذَنْبًا – وَرُبَّمَا قَالَ أَصَابَ ذَنْبًا – قَالَ قَالَ رَبِّ أَصَبْتُ – أَوْ أَذْنَبْتُ – آخَرَ فَاغْفِرْهُ لِي . فَقَالَ أَعَلِمَ عَبْدِى أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ غَفَرْتُ لِعَبْدِي – ثَلاَثًا – فَلْيَعْمَلْ مَا شَاءَ».
أَمَّا الْخَطَأُ فِي حَقِّ الْخَلْقِ، فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ رَدِّ الْحُقُوقِ، وَالِاعْتِذَارِ وَالِاسْتِسْمَاحِ، فَالظُّلْمُ خَطَأٌ، وَالْكِبْرُ خَطَأٌ، وَالْغِيبَةُ خَطَأٌ، وَإِيذَاءُ النَّاسِ فِي مَشَاعِرِهِمْ أَوْ أَمْوَالِهِمْ أَوْ أَعْرَاضِهِمْ خَطَأٌ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إِلَىٰ أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَتَّىٰ يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ». وَمِنْ أَنْوَاعِ الْخَطَإِ أَيْضًا: خَطَأُ الْعَالِمِ أَوِ الداعية، أو الْقَاضِي أَوِ الْخَطِيبِ فِي الْفَتْوَى وَالِاجْتِهَادِ، فَإِنْ كَانَ عَنْ بَصِيرَةٍ وَنِيَّةٍ صَالِحَةٍ أُجِرَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ عَنْ هَوًى أَوْ تَعَصُّبٍ أَوْ إِعْرَاضٍ عَنِ الدَّلِيلِ فَهُوَ عَلَى خَطَرٍ عَظِيمٍ، ففي صحيح البخاري: (عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – يَقُولُ «إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ». ومن الأخطاء المنتشرة اليوم: التسرّع في إصدار الأحكام على الناس بغير علم، أو بناء المواقف على الظنّ وسوء الفهم، أو تداول الشائعات دون تثبّت، وقد قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا﴾ [الحجرات:6].
وإننا اليوم في زمنٍ كثرت فيه الأخطاء، ولا سيما في وسائل التواصل، حيث يُكتب ما لا يُحسب، ويُقال ما لا يُراجع، وينتشر الخطأ بسرعة الضوء، فاحذروا من الوقوع في خطإ اللسان والقلم، فربّ كلمةٍ ترفع صاحبها، أو تهوي به في نار الجحيم.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ
وَمِنْ أَنْوَاعِ الْخَطَإِ: خَطَأُ الْجَاهِلِ الَّذِي لَا يَعْلَمُ، وَهَذَا يُعْذَرُ إِذَا تَعَلَّمَ وَتَابَ، واستغفر وأناب، ومثله خطأ الملائكة، قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) (30): (33) البقرة.
وَمِنْ أَنْوَاعِ الْخَطَإِ: خَطَأُ الْغَافِلِ الَّذِي يَنْسَى، وَعَلَيْهِ أَنْ يَتَذَكَّرَ وَيُصَحِّحَ، ومنه خطأ المؤمن، قال تعالى: (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) (200)، (201) الأعراف
وَمِنْ أَنْوَاعِ الْخَطَإِ: خَطَأُ الْمُتَعَمِّدِ المتمرد المتكبر، الَّذِي يَعْلَمُ وَلَا يَتُوبُ، وَهَذَا أخطرها، ومثله خطأ ابليس (عليه اللعنة)، قال تعالى في شأنه: (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ) (11): (18) الأعراف
ومنها: خطأ فرعون: قال تعالى: (ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا
بِمُؤْمِنِينَ) (75): (78) يونس
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ
فلَيْسَ الْعَيْبُ أَنْ نُخْطِئَ، وَلٰكِنَّ الْعَيْبَ أَنْ نُصِرَّ عَلَى الْخَطَإِ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ، فَمِنْ عَلامَاتِ تَوْفِيقِ اللَّهِ لِلْعَبْدِ: أَنْ يُبَصِّرَهُ بِعُيُوبِ نَفْسِهِ، وَأَنْ يَرْزُقَهُ التَّوَاضُعَ لِلْحَقِّ، إِذَا تَبَيَّنَ لَهُ، قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً أَهْدَى إِلَيَّ عُيُوبِي». وَمِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ بِعِبَادِهِ أَنَّهُ لَمْ يُؤَاخِذْهُمْ عَلَى مَا لَا يَقْصِدُونَهُ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَٰكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ [الْأَحْزَابِ:٥]. فَرَفَعَ الْإِثْمَ عَنِ الْمُخْطِئِ غَيْرِ الْمُتَعَمِّدِ، وَأَبْقَاهُ عَلَى مَنْ تَعَمَّدَ وَأَصَرَّ.
وإذا كانت الْحَيَاة لَا تَخْلُو مِنَ الْأَخْطَاءِ، فالسُّؤَالَ: كَيْفَ نَتَعَامَلُ مَعَ الخطأ؟، والجواب: بالتَّوْبَةُ والاستغفار نَصْلُحُ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ اللهِ، فَالِاسْتِغْفَارُ يَمْسَحُ آثَارَ الذُّنُوبِ، وَيُجَدِّدُ صِلَةَ الْقَلْبِ بِرَبِّ الْقُلُوبِ. قَالَ ﷺ: «وَاللَّهِ إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً» (رواه البخاري). وَبالِاعْتِذَار وَالْإِصْلَاح نُصْلِح مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ النَّاسِ،
وَمِنَ الْمُؤْسِفِ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَرَى الِاعْتِذَارَ ضَعْفًا، وَرَدَّ الْحَقِّ هَزِيمَةً، وَلَوْ عَلِمَ أَنَّ الرُّجُوعَ إِلَى الصَّوَابِ شَجَاعَةٌ وَرِفْعَةٌ، مَا تَأَخَّرَ عَنْهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ، فَاللَّهُ تَعَالَى يُحِبُّ التَّوَّابِينَ، وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ، ويحب النادمين المستغفرين.
ألا فَلْنَحْرِصْ جَمِيعًا عَلَى تَصْحِيحِ الْمَسَارِ، وَمُرَاجَعَةِ النَّوَايَا، وَإِخْلَاصِ الْأَعْمَالِ لِلَّهِ، فَإِنَّ الْخَطَأَ يُمْحَى بِالتَّوْبَةِ، وَالزَّلَّةَ تُغْفَرُ بِالْإِنَابَةِ، وَاللَّهُ أَكْرَمُ الْأَكْرَمِينَ، ولِنُفَتِّشْ أَنْفُسَنَا قَبْلَ أَنْ نُحَاسَبَ، وَلْنُصَحِّحْ أَخْطَاءَنَا قَبْلَ أَنْ نُعْرَضَ عَلَيْهَا، فَالرُّجُوعُ إِلَى اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ الِاسْتِمْرَارِ فِي الزَّلَلِ، وَالِاعْتِرَافُ بِالذَّنْبِ شَرَفٌ لَا ذُلٌّ.
أَقُولُ قَوْلِي هٰذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ،
الخطبة الثانية (الخَطَأُ وأَنْوَاعُهُ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
ولكي نتجنب الوقوع في الخطإ مع الآخرين: فينبغي للمؤمن أن يكون واسع الصدر، يعذر من أخطأ، ويتعامل معه برفقٍ وحكمةٍ، فالنبي ﷺ ما كان يعنّف المخطئ، ولا يوبّخه أمام
الناس، بل كان يوجّهه بلطفٍ، ففي صحيح مسلم: (عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ قَالَ: بَيْنَا أَنَا أُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ فَقُلْتُ يَرْحَمُكَ اللَّهُ. فَرَمَانِي الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ فَقُلْتُ وَاثُكْلَ أُمِّيَاهْ مَا شَأْنُكُمْ تَنْظُرُونَ إِلَيَّ. فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُصَمِّتُونَنِي لَكِنِّي سَكَتُّ فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَبِأَبِي هُوَ وَأُمِّي مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلاَ بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ فَوَاللَّهِ مَا كَهَرَنِي وَلاَ ضَرَبَنِي وَلاَ شَتَمَنِي قَالَ «إِنَّ هَذِهِ الصَّلاَةَ لاَ يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلاَمِ النَّاسِ إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ »، وفي سنن البيهقي: (أَنَّ رَجُلاً أَتَى رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ ائْذَنْ لِي فِي الزِّنَا قَالَ فَهَمَّ مَنْ كَانَ قُرْبَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ يَتَنَاوَلُوهُ فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- :«دَعُوهُ». ثُمَّ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- :«ادْنُهْ أَتُحِبُّ أَنْ يُفْعَلَ ذَلِكَ بِأُخْتِكَ». قَالَ: لاَ قَالَ: «فَبِابْنَتِكَ». قَالَ: فَلَمْ يَزَلْ يَقُولُ بِكَذَا وَكَذَا كُلَّ ذَلِكَ يَقُولُ: لاَ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- :«فَاكْرَهْ مَا كَرِهَ اللَّهُ وَأَحِبَّ لأَخِيكَ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ». قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يُبَغِّضَ إِلَىَّ النِّسَاءَ قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- :«اللَّهُمَّ بَغِّضْ إِلَيْهِ النِّسَاءَ». قَالَ: فَانْصَرَفَ الرَّجُلُ ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِ بَعْدَ لَيَالٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا مِنْ شَيْءٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنَ النِّسَاءِ فَائْذَنْ لِي بِالسِّيَاحَةِ فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- :«إِنَّ سِيَاحَةَ أُمَّتِي الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ».
وفي المقابل، يجب على المخطئ أن يُبادر بالاعتذار والتصحيح، ولا يتمادى في باطله، فالاعتراف بالخطإ لا ينقص من قدر صاحبه، بل يرفعه عند الله وعند الناس، لأن الاعتراف بداية التوبة والإصلاح.
ولكي نتجنب الوقوع في الخطإ مع الآخرين: علينا أن نتعامل مع الخطأ بعقلٍ ورشد، لا بتسرّعٍ ولا بانفعالٍ، وأن نزن الأمور بميزان الشرع والعقل، فبعض الأخطاء تُصلَح بالكلمة الطيبة، وبعضها بالمناصحة، وبعضها بالتربية والتعليم، المهم أن يكون الهدف الإصلاح لا الفضيحة، فمن الناس من إذا أخطأ غيرُه جعل خطأه ذريعةً للحقد، فيغلق باب الخير كله بسبب زلةٍ واحدة، وهذا من الجهل والظلم، فالمؤمن لا يُحاسب أخاه على لحظة ضعفٍ، بل يتذكّر له حسناته، ويستر زلّاته، كما قال ﷺ: «من ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة» (رواه مسلم). وفي سنن أبي داود: (جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَمْ نَعْفُو عَنِ الْخَادِمِ فَصَمَتَ ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِ الْكَلاَمَ فَصَمَتَ فَلَمَّا كَانَ فِي الثَّالِثَةِ قَالَ «اعْفُوا عَنْهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ سَبْعِينَ مَرَّةً».
أيها المسلمون
فلْيكن في قلوبنا رحمةٌ بالمخطئين، لا قسوةٌ ولا شماتة، فإن الله أرحم بهم منا، وربّ كلمةِ نصحٍ صادقةٍ تغيّر مسارَ إنسانٍ إلى الخير، ولنكن دُعاةَ إصلاحٍ لا دُعاةَ فضيحةٍ، ولنفتح أبواب التوبة لا أبواب اليأس، ومن أخطأ فليتُب، ومن ظلم فليُصلح، ومن قصّر فليُكمل، ومن جهل فليتعلّم، ومن غفل فليذكر، فلعلّ الله أن يُبدّل سيئاتنا حسنات، ويجعل من أخطائنا سلّمًا إلى رضاه.
واعلموا أنَّ الْإِصْرَارَ عَلَى الْخَطَإِ يُغْلِقُ الْقَلْبَ، وَيُعَمِّي الْبَصِيرَةَ، وَيُبْعِدُ الْإِنْسَانَ عَنِ التَّوْفِيقِ، وَأَمَّا مَنْ تَوَاضَعَ وَرَجَعَ عَنْ زَلَّتِهِ، فَهُوَ الْعَاقِلُ الْحَكِيمُ، وَلْنُصَحِّحْ أَخْطَاءَنَا مَعَ اللهِ، وَأَخْطَاءَنَا مَعَ النَّاسِ، وَنُكْثِرْ مِنَ الِاسْتِغْفَارِ وَالِاعْتِرَافِ، فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يَرَى ذَنْبَهُ كَأَنَّهُ جَبَلٌ عَلَى رَأْسِهِ، وَالْمُنَافِقَ يَرَاهُ كَذُبَابٍ مَرَّ عَلَى أَنْفِهِ.
وَلنُرَبِّ أَنْفُسَنَا وَأَبْنَاءَنَا عَلَى قَبُولِ النَّصِيحَةِ، وَعَدَمِ الِاسْتِكْبَارِ عَنِ الْحَقِّ، فَإِنَّ مَنْ رَأَى نَفْسَهُ فَوْقَ الْخَطَإِ فَقَدْ بَدَأَ بِالزَّلَلِ الْكَبِيرِ، قَالَ ﷺ: «إِذَا قَالَ الرَّجُلُ: هَلَكَ النَّاسُ، فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ» (رواه مسلم)، أَيْ أَكْثَرُهُمْ خَطَأً، ورَبُّوا أَبْنَاءَكُمْ عَلَى شَجَاعَةِ الِاعْتِذَارِ، وَعَلَى قَوْلِ: «أَخْطَأْتُ فَاغْفِرْ لِي»، فَإِنَّهَا كَلِمَةٌ تُصْلِحُ مَا فَسَدَ، وَتَرْأَبُ مَا تَصَدَّعَ، وَتُزِيلُ مَا تَرَاكَمَ مِنَ الْبَغْضَاءِ، وَلْيَكُنْ كُلٌّ مِنَّا مِرْآةً لِأَخِيهِ، يُذَكِّرُهُ بِرِفْقٍ، وَيَنْصَحُهُ بِحِكْمَةٍ، وَيَسْتُرُ عَلَيْهِ وَلَا يَفْضَحُهُ، فَذٰلِكَ مِنْ تَمَامِ الْإِيمَانِ،
فاتقوا الله، واعرفوا أن الخطأ طريق البشر، والتوبة طريق المؤمنين، والإصرار طريق الهالكين.
الدعاء
