خطبة عن (عَلَّمَهُ الْبَيَانَ)
نوفمبر 9, 2023خطبة عن حديث (شَفَاعَتِي لِمَنْ لاَ يُشْرَكُ بِاللَّهِ شَيْئاً مِنْ أُمَّتِي)
نوفمبر 12, 2023الخطبة الأولى ( وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته : (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) (64) العنكبوت
إخوة الإسلام
نقضي اليوم -إن شاء الله- لحظات طيبة مع هذه الآية الكريمة من كتاب الله تعالى ،نتلوها ونتدبر معانيها ،ونتفهم مراميها ـ ونسبح في بحارها ،ونرتشف من رحيقها المختوم ،فهي آية تبين لنا حقيقة الحياة الدنيا ومفهومها الصحيح ،وذلك حتى لا نخدع بها ،ولا نفتن ببريقها ، ونزهد فيها ،وهي في نفس الوقت تبين لنا حقيقة الدار الآخرة ،وما فيها من حياة دائمة ونعيم مقيم ،وذلك لنطلبها ،ونسعى إليها ،
وقد جاء في التفسير الميسر : (وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب، تلهو بها القلوب ،وتلعب بها الأبدان؛ بسبب ما فيها من الزينة والشهوات، ثم تزول سريعًا، وإن الدار الآخرة لهي الحياة الحقيقية الدائمة التي لا موت فيها، لو كان الناس يعلمون ذلك لما آثروا دار الفناء على دار البقاء) … وقال الامام السعدى في تفسيره : (يخبر تعالى عن حالة الدنيا والآخرة، وفي ضمن ذلك، التزهيد في الدنيا والتشويق للأخرى، فقال: { وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا } في الحقيقة { إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ } تلهو بها القلوب، وتلعب بها الأبدان، بسبب ما جعل اللّه فيها من الزينة واللذات، والشهوات الخالبة للقلوب المعرضة، الباهجة للعيون الغافلة، المفرحة للنفوس المبطلة الباطلة، ثم تزول سريعا، وتنقضي جميعا، ولم يحصل منها محبها إلا على الندم والحسرة والخسران. وأما الدار الآخرة، فإنها دار { الحيوان } أي: الحياة الكاملة، التي من لوازمها، أن تكون أبدان أهلها في غاية القوة، وقواهم في غاية الشدة، لأنها أبدان وقوى خلقت للحياة، وأن يكون موجودا فيها كل ما تكمل به الحياة، وتتم به اللذات، من مفرحات القلوب، وشهوات الأبدان، من المآكل، والمشارب، والمناكح، وغير ذلك، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} لما آثروا الدنيا على الآخرة ،ولو كانوا يعقلون لما رغبوا عن دار الحيوان، ورغبوا في دار اللهو واللعب، فدل ذلك على أن الذين يعلمون، لا بد أن يؤثروا الآخرة على الدنيا، لما يعلمونه من حالة الدارين) …
أيها المسلمون
فحياة المسلم الحقيقية تكون بعد الموت، وحياة الكافر قبل الموت، وكلٌ يعمل لحياته ، فالموقنون بالآخرة يتقون الشبهات استبراء لدينهم وعرضهم، ويكترثون بالآخرة أشد من اكتراث غيرهم بالدنيا، والقرآن الكريم لا يعني بهذا أن يحض على الزهد في متاع الدنيا والفرار منه وإلقائه بعيداً ،إنما يعني مراعاة الآخرة في هذا المتاع ، والوقوف فيه عند حدود الله ، كما يقصد الاستعلاء عليه فلا تصبح النفس أسيرة له ،
وكثيرا ما بين القرآن الكريم والسنة المطهرة حقيقة الدنيا ،فقد قال الله تعالى: ﴿ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا * الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا ﴾ [الكهف: 45- 46].،وقال الله تعالى : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) (14) ،(15) آل عمران ، وقال الله تعالى : (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) (32) الانعام ،
وأما في السنة النبوية ،فقد روى مسلم في صحيحه : (عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَرَّ بِالسُّوقِ دَاخِلاً مِنْ بَعْضِ الْعَالِيَةِ وَالنَّاسُ كَنَفَتَهُ فَمَرَّ بِجَدْىٍ أَسَكَّ مَيِّتٍ فَتَنَاوَلَهُ فَأَخَذَ بِأُذُنِهِ ثُمَّ قَالَ « أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنَّ هَذَا لَهُ بِدِرْهَمٍ ». فَقَالُوا مَا نُحِبُّ أَنَّهُ لَنَا بِشَيْءٍ وَمَا نَصْنَعُ بِهِ قَالَ : « أَتُحِبُّونَ أَنَّهُ لَكُمْ ». قَالُوا وَاللَّهِ لَوْ كَانَ حَيًّا كَانَ عَيْبًا فِيهِ لأَنَّهُ أَسَكُّ فَكَيْفَ وَهُوَ مَيِّتٌ فَقَالَ « فَوَاللَّهِ لَلدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ هَذَا عَلَيْكُمْ ».، وفي مسند أحمد وصححه الألباني: (عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ سُفْيَانَ الْكِلاَبِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ لَهُ « يَا ضَحَّاكُ مَا طَعَامُكَ ». قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ اللَّحْمُ وَاللَّبَنُ. قَالَ « ثُمَّ يَصِيرُ إِلَى مَاذَا ». قَالَ إِلَى مَا قَدْ عَلِمْتَ. قَالَ « فَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ضَرَبَ مَا يَخْرُجُ مِنِ ابْنِ آدَمَ مَثَلاً لِلدُّنْيَا »، وفي سنن الترمذي : (عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ » ، وفي صحيح مسلم : (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « وَاللَّهِ مَا الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ هَذِهِ – وَأَشَارَ يَحْيَى بِالسَّبَّابَةِ – فِي الْيَمِّ فَلْيَنْظُرْ بِمَ يَرْجِعُ ».
فأنت تلاحظ هنا في الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة أن الدنيا موصوفة بأنها لهو ولعب وأنها لا تساوي شيئاً عند الله وهي لا قيمة لها في الآخرة وهي مذمومة في جميع أحوالها إلا ما كان لله، وأنها كلها متاع، وهي عرض زائل وزمنها قصير جداً لا يُمكّن المرء من قضاء حاجاته فيها، والمؤمن لا يركن لها لأنها سجنه وإنما يُطلق من سجنه ويُفك أسره بموته إذا قدم على ربه، ولو كانت الدنيا تعدل عند الله شيئاً ذا قيمة لوهبها الصالحين من عباده ولكنه عز وجل ادخر لهم كرامته ،فإذا علم المسلم أن عباد الله الصالحين الذين يُحبهم الله قد أكرمهم بحجب الدنيا وزهرتها عنهم ونزههم عن فتنتها وأخلصهم له ولعبادته وادّخر لهم دار كرامته يوم يلقونه بقلوب مطمئنة ونفوسٍ راضيةٍ بما قدره ربهم الرحيم بهم جلّت قدرته وتعالت حكمته ؛ فكيف يأسى بعد ذلك إنسانٌ عاقلٌ على ما يفوته من حطام الدنيا وزخارفها الزائلة عمّا قريب. فهذه هي حقيقة الدنيا التي يطلبها ويخطب ودها كثير من الناس كما وصفها النبي عليه الصلاة والسلام ، فهي مبغوضة ساقطة لا تساوي ولا تعدل عند الله جناح بعوضة ،
أيها المسلمون
هكذا يحذر المولى جل وعلا عباده من الانجراف في مزالق الحياة الدنيا الغادرة ،وعدم الإخبات إليها أو اتخاذها وطناً وسكناً ،وأنها غادرة ماكرة ،ما لجأ إليها أحد أو رجاها من دون الله إلا خذلته وتخلت عنه ،فهي حقيرة عند الله عز وجل كحقارة الميتة عند الناس ، وإنما جعلها الله فتنة للعباد ،ليرى الصابر والشاكر ،والمغتنم لأوقاته لما فيه رضا ربه سبحانه ، ممن عكف عليها وأقام وأناب إليها ومن قضى أيامه ولياليه من أجلها ، فلا يستوي الفريقان عند الله أبداً قال الله تعالى : (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) (7) الشورى ، وقال تعالى : (وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) فاطر(19): (22)
فإذا كانت الدنيا دار لهو ولعب، وكانت الآخرة دار الحياة الحقيقية وجب على الإنسان العاقل أن يتعامل مع الآخرة على أساس أنها الحقيقة، ومع الدنيا على أساس أنها لهو ولعب، فيوجه أنظاره وعنايته إلى الآخرة أولاً ثم الدنيا ثانياً، قال تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدنْيَا) القصص 77،، لا أن يعكس الأمر فيتعامل مع الآخرة وكأنها لهو ولعب فيهجرها أو يزهد فيها، ويتعامل مع الدنيا على أساس أنها حقيقة مطلقة غير قابلة للشك، فيتعلق بها ويطمع فيها ويركن إليها ويطمئن لها، فيأمن غوائلها ومكرها، فالإنسان لم يخلق للدنيا حتى يتعلق بها ويرفض أن يفارقها بل هو في سفر، يقطع العوالم عالَماً عالَماً، بدأ سفره من الله وينتهي من سفره عند الله، قال تعالى: (إِنا لِلهِ وَإِنا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) البقرة 156،،
فإذا كانت الدنيا هكذا، وهكذا هو حالها إذن لماذا يغتر الإنسان بها ويركن إليها ويطمع فيها، مع أنه إذا نسبها إلى عالم الآخرة – التي هي دار الخلود – وجدها أقل طولاً ،وأصغر عمراً، فكم سيبلغ طولها إذا ما قيست بالعوالم الأخرى جميعاً؟ ، قال الله تعالى : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) (45) يونس ، فإذا كان عمر الدنيا كلها ساعة من نهار أو لحظة من زمان فكم سيبلغ عمري وعمرك فيها ،ونحن الذين وُجدنا لنعيش فيها سنوات معدودة؟ إنها ساعة ،ولكنها فرصة منحك الله تعالى إياها لتسعى فيها قدر جهدك لنيل كمالك الأخروي، ولا تنسَ أن الفرص تمر مر السحاب، والعاقل هو الذي يستثمر كل فرص وجوده ليعيش في طاعة الله ورضاه،
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
إن النفس والهوى في العادة يطالبان الإنسان بالمعصية ،ومن الصعب على الإنسان أن لا يستجيب إليهما ولكن جدير بالمؤمن أن يتحدى النفس ويقاوم الهوى «فإنما الدنيا ساعة» والمفروض أن تحمل ألم ساعة في مرضات الله تعالى ، فماذا سيكون حالكَ أيها الإنسان فيما لو أخبرك الله تعالى بأن المتبقي لك من عمرك مجرد ساعة، فهل كنتَ ستعصي الله تعالى فيها؟ هل كنتَ ستظلم الناس وتنازعهم حقوقهم؟ هل كنتَ لتنشغل عن الموت بطلب الملذات وزخارف الدنيا؟ ،فعليك أن تفكر لتنجو بنفسك، عليك أن تفكر في التوبة والرجوع إلى الله تعالى، عليك أن تفكر في الأعمال التي ترضي الله تعالى عنك وتجنبك سخطه، عليك أن تفكر بما يسعدك في دار الدنيا والآخرة، فالعاقل هو الذي يستثمر فرص الدنيا لسعادة الآخرة، فإن الفرصة إذا ذهبت قد لا تعود مرة ثانية، ومَن سوف التوبة إلى الغد ولم يأتِ عليه الغد بأن عاجله الموت فقد هلك وهوى. يقول الله تعالى عن الغافلين عن الدار الآخرة : (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنْ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنْ الآخرة هُمْ غَافِلُونَ) (الروم 7)
الدعاء