خطبة عن (رقة القلب) مختصرة
يونيو 26, 2024خطبة عن (أَهْلُ الشَّامِ)
يونيو 26, 2024الخطبة الأولى (الدُّنْيَا)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) (14) آل عمران، وقال تعالى: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) (32) الانعام، وقال تعالى: (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) (185) آل عمران،
إخوة الإسلام
لقد ذكر أهل العلم أن الدنيا مشتقة من (الدنو) وهو القرب، أو مشتقة من (الدناءة) وهي الخسة، ومما لا شك فيه أن الدنيا تجمع بين المعنيين، فهي قريبة بالنسبة للآخرة، ولذلك عبر عنها في بعض الآيات بالأولى، مثل قوله تعالى: (فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى) {النجم:25}، وهي أيضا خسيسة، وذلك إذا ما قورنت منافعها وفوائدها بالآخرة، ففي سنن الترمذي: (عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ»، وفي صحيح مسلم: (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «…وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا فِي الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيُصْبَغُ صَبْغَةً فِي الْجَنَّةِ فَيُقَالُ لَهُ يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ هَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ فَيَقُولُ لاَ وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا مَرَّ بِي بُؤُسٌ قَطُّ وَلاَ رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ».
والمتأمل في حديث القرآن عن الدنيا، يجد أن القرآن الكريم قد تضمن عدداً من الآيات تحذر العبد من مغريات الدنيا ومفاتنها، وتصفها بأنها متاع الغرور، قال تعالى: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) (185) آل عمران، فهي ليست أكثر من متاع، يستخدمه الإنسان في هذه الحياة، إلى أن يصل إلى دار القرار، قال تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} (الكهف:45)، وقال تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} (الحديد:20). فالدنيا بمباهجها ومفاتنها تبدو حلوة جميلة، كالنبات الأخضر، ولكن سرعان ما تغدو حطاماً ،لا قيمة لها ولا وزن، كحال الزرع حين يذبل ويصفر، وهذا مما يستدعي عدم التعلق بها، والحذر والتيقظ منها، قال تعالى: {وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ} (الرعد:26).
وقد حذرنا الله سبحانه من الانجرار والانجراف وراء مفاتن الدنيا الزائفة، والانكباب على زخارفها الفانية، قال سبحانه: { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } (هود:15،16). ويذم ويُشنع القرآن من يؤثر الدنيا الفانية العارضة، على الآخرة الباقية الخالدة، فيقول سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (يونس:7-10). فالحياة الدنيا لا تعدو كونها مقراً مؤقتاً للعمل، وداراً للابتلاء والاختبار؛ لتمييز الصالح من الطالح، والمصلح من المفسد، والطيب من الخبيث، قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} (الملك:2).
فينبغي على المسلم أن يجعل الدار الآخرة هي مطلبه ومبتغاه؛ قال تعالى: {وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (الأنعام:32)، فالدار الآخرة هي الخير الحقيقي الباقي للإنسان، وما عداها من خيرات الدنيا فسرعان ما تزول وتبور، قال تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (القصص:60). وقال تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا) (18): (20) الاسراء، وفي سنن الترمذي: (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «مَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهَ وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلاَّ مَا قُدِّرَ لَهُ».
أيها المسلمون
ولا ينبغي أن يُفهم من هذا أن المسلم عليه أن يقف من الحياة الدنيا موقفاً سلبياً جملة وتفصيلاً، بل إن الموقف المتوازن من الدنيا أن يقف المسلم منها موقفاً متزناً، بحيث يجعل هذه الدنيا في يديه لا في قلبه، فيأخذ منها ما يخدم دينه وآخرته، ويُعْرِض عنها في كل ما يعود بالضرر عليه دنيا وأخرى، فالقرآن يثني على من يجمع بين أمري الدنيا والآخرة، فيقول الله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (البقرة:201،202)، وعلى لسان نبي الله موسى عليه السلام: {وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} (الأعراف: 156)، ويمدح الله سبحانه وتعالى خليله إبراهيم عليه السلام، فيقول تعالى: {وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} (النحل:122). ويخاطب الله تعالى عباده بالاقتصاد في طلب الدنيا، والأخذ منها بقدر، فيقول سبحانه: { وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} (القصص:77). ويبين سبحانه أن طيبات الدنيا إذا أُخذت باعتدال فهو أمر لا حرج فيه، وإنما الحرج كل الحرج يكون بالإفراط في الأخذ من طيباتها، وتجاوز ذلك إلى حدِّ الوقوع في محرماتها، يقول سبحانه: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (الأعراف:31). ويذم الله سبحانه الذين يحرمون ما أحل الله لعباده من الطيبات، ومن ذلك قوله سبحانه: { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (الأعراف:32). والله سبحانه جعل من جملة غاية وجود الإنسان في هذه الحياة الدنيا إعمارها بكل ما هو نافع، واستصلاحها بكل ما فيه خير، يقول سبحانه: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} (هود: 61)، فموقف المؤمن من الحياة الدنيا، موقف متوازن، موقف يجمع بين متطلبات الدنيا، ومتطلبات الآخرة، موقف لا يقدم الدنيا بإطلاق، ويُنكر أمر الآخرة، ولا يقدم الآخرة بإطلاق، ويلعن الدنيا وما فيها من طيبات وخيرات، بل يأخذ من هذه لتلك، ويجعل الدنيا وسيلة للآخرة، ويجعل الآخرة عاقبة لأعمال الدنيا، فالحياة الدنيا لعب ولهو حين تعاش لذاتها، مقطوعة عن منهج الله فيها، والذي يجعلها مزرعة للآخرة، فالإيمان والتقوى في الحياة الدنيا هو الذي يخرجها عن أن تكون لعباً ولهواً، ويطبعها بطابع الجد، ويرفعها عن مستوى المتاع الحيواني إلى مستوى الخلافة الراشدة المتصلة بالملأ الأعلى،
والذم الوارد في الكتاب والسنة للدنيا ليس راجعاً إلى زمانها الذي هو الليل والنهار، المتعاقبان إلى يوم القيامة، فإن الله جعلهما خِلفة لمن أراد أن يذّكر أو أراد شكوراً كما قال سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان:62]. وليس الذم راجعاً إلى مكان الدنيا، الذي هو الأرض التي جعلها الله لبني آدم مهاداً وسكناً ومعاشاً وفراشاً، وليس الذم راجعاً إلى ما أودع الله فيها من الجبال والبحار، والزروع والأشجار، والمعادن والبهائم، فهذه كلها خلقها الله لمنافع العباد، وليس الذم راجعاً إلى ما في الدنيا من تغير الأحوال من حر وبرد، وصيف وشتاء، وليل ونهار، ونور وظلام، فذلك كله نعمة من نعم الله على عباده، ينتفعون به، ويعتبرون به، ويستدلون به على وحدانية الله وقدرته، وإنما الذم راجع إلى أفعال بني آدم الواقعة على غير منهج الله ورسوله من كفر وشرك، وبدع وضلال، وسرقة وظلم، وقتل وفساد ونحو ذلك مما لا يحبه الله ولا رسوله.
أيها المسلمون
روى الامام البخاري في صحيحه: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ – رضي الله عنهما – قَالَ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – بِمَنْكِبِي فَقَالَ «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ، أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ» . وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ إِذَا أَمْسَيْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ الْمَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ)، قال ابنُ رَجَبٍ: (هَذا الحَديثُ أصلٌ في قِصَرِ الأمَلِ في الدُّنيا، وأنَّ المُؤمِنَ لا يَنبَغي لَه أن يَتَّخِذَ الدُّنيا وطنًا ومَسكَنًا، فيَطمَئِنَّ فيها، ولَكِن يَنبَغي أن يَكونَ فيها كأنَّه على جَناحِ سَفرٍ؛ يُهَيِّئُ جَهازَه لِلرَّحيلِ. وقَدِ اتَّفقَت على ذلك وصايا الأنبياءِ وأتباعِهم، قال تعالى حاكيًا عَن مُؤمِنِ آلِ فرعونَ: (يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ) [غافر:39]. وكانَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ كما في مسند أحمد: « مَا لِي وَلِلدُّنْيَا إِنَّمَا مَثَلِى وَمَثَلُ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رَاكِبٍ قَالَ فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا »،
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (الدُّنْيَا)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
وللسلف الصالح مع الدنيا أحوال وأقوال، ومنها: (مرَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه على مزبلة، فاحتبس عندها، فكأنه شق على أصحابه، وتأذَّوا بها، فقال لهم: هذه دنياكم التي تحرصون عليها). وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (ألا إن الدنيا قد ولَّت مدبرة، والآخرة مقبلة، ولكل واحدة منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا؛ فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل). وقال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: (من أراد الدنيا أضرَّ بالآخرة، ومن أراد الآخرة أضرَّ بالدنيا). وقال: (الدنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له، ولها يجمع من لا عقل له. والله الذي لا إله غيره، ما يضرُّ عبدًا يصبح على الإسلام ويمسي عليه ما أصابه من الدنيا. وقال رضي الله عنه لأصحابه: أنتم أكثر صيامًا، وأكثر صلاةً، وأكثر اجتهادًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم كانوا خيرًا منكم، قالوا: ولِمَ يا أبا عبدالرحمن؟ قال: كانوا أزهد في الدنيا، وأرغب في الآخرة). وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه، لما أن حضره الموت، قال: (اللهمَّ إن كنت تعلم أني لم أكن أحب الدنيا وطول البقاء فيها لكري الأنهار، ولا لغرس الشجر؛ ولكن لظمأ الهواجر، ومكابدة الساعات، ومزاحمة العلماء بالركب عند حِلَق الذكر). وقال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: (ما ينتظر من الدنيا إلا كل محزن، أو فتنة تنتظر). وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: اعلموا أن قليلًا يُغنيكم خيرٌ من كثيرٍ يُلهيكم. وقال عمرو بن العاص رضي الله عنه: (إياكم وما شغل من الدنيا، فإن الدنيا كثرة الأشغال، لا يفتح رجل على نفسه باب شغل إلا أوشك ذلك الباب أن يفتح عليه عشرة أبواب. ابن آدم يستقل ماله، ولا يستقل عملَه، يفرح بمصيبته في دينه، ويجزع من مصيبته في دنياه). وقال لقمان لابنه: يا بني، إن الدنيا بحر عميق، وقد غرق فيه ناس كثير، فلتكن سفينتك فيه تقوى الله عز وجل، وحشوها الإيمان بالله تعالى، وشراعها التوكُّل على الله عز وجل؛ لعلك تنجو، وما أراك ناجيًا). وقال عمر بن عبدالعزيز: (ما تركت شيئًا لله من الدنيا إلا عوَّضني اللهُ ما هو خيرٌ منه). وقال الحسن البصري:(مَن آثَرَ دُنْياه على آخرته، فلا دُنْيا له ولا آخره. وأدركتُ أقوامًا لا يفرحون بشيء من الدنيا أتوه، ولا يَأْسَونَ على شيء منها فاتهم. وإذا رأيت الرجل ينافس في الدنيا؛ فنافسه في الآخرة. رحم الله أقوامًا كانت الدنيا عندهم وديعة، فأدَّوها إلى مَن ائتمنها عليها، ثم راحوا خفافًا). وقال سلمة بن دينار: (مَن عرَف الدنيا لم يفرح فيها برخاء، ولم يحزن على بَلْوى. ونعمةُ الله فيما زوى عني من الدنيا أعظَمُ من نعمته عليَّ فيما أعطاني منها، إني رأيته أعطاها قومًا فهلكوا). وقال الفضيل بن عياض: (اللهمَّ زهِّدنا في الدنيا؛ فإنه صلاح قلوبنا وأعمالنا، وجميع طلباتنا، ونجاح حاجاتنا). وقال سعيد بن مسعود: إذا رأيت العبد تزداد دنياه، وتنقص آخرته، وهو به راضٍ، فذلك المغبون الذي يُلعَب بوجهه، وهو لا يشعر.
الدعاء