خطبة عن (الصبر دواء لكل داء) (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ)
يناير 11, 2017خطبة عن (المجاملات، والنفاق، والفرق بينهما)
يناير 12, 2017الخطبة الأولى ( الرجوع إلى الحق فضيلة ) (أَلاَ وَخَيْرُهُمْ بَطِيءُ الْغَضَبِ سَرِيعُ الْفَيْءِ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
روى الترمذي في سننه بسند حسن (عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمًا صَلاَةَ الْعَصْرِ بِنَهَارٍ ثُمَّ قَامَ خَطِيبًا فَلَمْ يَدَعْ شَيْئًا يَكُونُ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ إِلاَّ أَخْبَرَنَا بِهِ حَفِظَهُ مَنْ حَفِظَهُ وَنَسِيَهُ مَنْ نَسِيَهُ وَكَانَ فِيمَا قَالَ « إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَنَاظِرٌ كَيْفَ تَعْمَلُونَ أَلاَ فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ ». وَكَانَ فِيمَا قَالَ « أَلاَ لاَ يَمْنَعَنَّ رَجُلاً هَيْبَةُ النَّاسِ أَنْ يَقُولَ بِحَقٍّ إِذَا عَلِمَهُ ». قَالَ فَبَكَى أَبُو سَعِيدٍ فَقَالَ قَدْ وَاللَّهِ رَأَيْنَا أَشْيَاءَ فَهِبْنَا.
وَكَانَ فِيمَا قَالَ « أَلاَ إِنَّهُ يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقَدْرِ غَدْرَتِهِ وَلاَ غَدْرَةَ أَعْظَمَ مِنْ غَدْرَةِ إِمَامِ عَامَّةٍ يُرْكَزُ لِوَاؤُهُ عِنْدَ اسْتِهِ ». وَكَانَ فِيمَا حَفِظْنَا يَوْمَئِذٍ « أَلاَ إِنَّ بَنِى آدَمَ خُلِقُوا عَلَى طَبَقَاتٍ شَتَّى فَمِنْهُمْ مَنْ يُولَدُ مُؤْمِنًا وَيَحْيَا مُؤْمِنًا وَيَمُوتُ مُؤْمِنًا وَمِنْهُمْ مَنْ يُولَدُ كَافِرًا وَيَحْيَا كَافِرًا وَيَمُوتُ كَافِرًا وَمِنْهُمْ مَنْ يُولَدُ مُؤْمِنًا وَيَحْيَا مُؤْمِنًا وَيَمُوتُ كَافِرًا وَمِنْهُمْ مَنْ يُولَدُ كَافِرًا وَيَحْيَا كَافِرًا وَيَمُوتُ مُؤْمِنًا ، أَلاَ وَإِنَّ مِنْهُمُ الْبَطِيءَ الْغَضَبِ سَرِيعَ الْفَيْءِ وَمِنْهُمْ سَرِيعُ الْغَضَبِ سَرِيعُ الْفَيْءِ فَتِلْكَ بِتِلْكَ أَلاَ وَإِنَّ مِنْهُمْ سَرِيعَ الْغَضَبِ بَطِيءَ الْفَيْءِ أَلاَ وَخَيْرُهُمْ بَطِيءُ الْغَضَبِ سَرِيعُ الْفَيْءِ أَلاَ وَشَرُّهُمْ سَرِيعُ الْغَضَبِ بَطِيءُ الْفَيْءِ ،أَلاَ وَإِنَّ مِنْهُمْ حَسَنَ الْقَضَاءِ حَسَنَ الطَّلَبِ وَمِنْهُمْ سَيِّئُ الْقَضَاءِ حَسَنُ الطَّلَبِ وَمِنْهُمْ حَسَنُ الْقَضَاءِ سَيِّئُ الطَّلَبِ فَتِلْكَ بِتِلْكَ أَلاَ وَإِنَّ مِنْهُمُ السَّيِّئَ الْقَضَاءِ السَّيِّئَ الطَّلَبِ أَلاَ وَخَيْرُهُمُ الْحَسَنُ الْقَضَاءِ الْحَسَنُ الطَّلَبِ أَلاَ وَشَرُّهُمْ سَيِّئُ الْقَضَاءِ سَيِّئُ الطَّلَبِ ،أَلاَ وَإِنَّ الْغَضَبَ جَمْرَةٌ فِي قَلْبِ ابْنِ آدَمَ أَمَا رَأَيْتُمْ إِلَى حُمْرَةِ عَيْنَيْهِ وَانْتِفَاخِ أَوْدَاجِهِ فَمَنْ أَحَسَّ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَلْيَلْصَقْ بِالأَرْضِ ». قَالَ وَجَعَلْنَا نَلْتَفِتُ إِلَى الشَّمْسِ هَلْ بَقِىَ مِنْهَا شَيْءٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « أَلاَ إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا فِيمَا مَضَى مِنْهَا إِلاَّ كَمَا بَقِىَ مِنْ يَوْمِكُمْ هَذَا فِيمَا مَضَى مِنْهُ ».
إخوة الإسلام
الإنسان بشر، يعتريه الخطأ والنسيان، والضعف والقوة، ويقع منه الخطأ والمعصية، وليس ذلك عيبا، ولكن العيب هو التمادي فيه، أما إذا عرف الحق ورجع إليه فهذه منقبة له، فعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ ». (رواه الترمذي وابن ماجة والدارمي وحسنه الألباني). والمطالع لسير السلف الصالح رضي الله عنهم يجدهم ممن قلَّت أخطاؤهم، ومع ذلك فهم أحق الناس بأن يكونوا ممن قال الله تعالى فيهم:
{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} [الأعراف: 201]، فهذه المبادرة إلى التوبة، وتلك المسارعة إلى الرجوع للحق، هي ولا شك خير من التمادي في الباطل استجابة لأهواء النفوس، ونزعات الشياطين، وتكبراً عن الاعتراف بالخطأ لاسيما عند الخصومات. وانظروا معي إلى سيرة كبار الصحابة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ،فهما يعودا للحق بعدما تبين لهما ، ولا يجدا غضاضة في ذلك ، ففي صحيح البخاري (حَدَّثَنِي أَبُو إِدْرِيسَ الْخَوْلاَنِيُّ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ يَقُولُ : كَانَتْ بَيْنَ أَبِى بَكْرٍ وَعُمَرَ مُحَاوَرَةٌ ، فَأَغْضَبَ أَبُو بَكْرٍ عُمَرَ ، فَانْصَرَفَ عَنْهُ عُمَرُ مُغْضَبًا ، فَاتَّبَعَهُ أَبُو بَكْرٍ يَسْأَلُهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُ ، فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى أَغْلَقَ بَابَهُ فِي وَجْهِهِ ، فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ وَنَحْنُ عِنْدَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم –
« أَمَّا صَاحِبُكُمْ هَذَا فَقَدْ غَامَرَ » . قَالَ وَنَدِمَ عُمَرُ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ فَأَقْبَلَ حَتَّى سَلَّمَ وَجَلَسَ إِلَى النَّبِىِّ – صلى الله عليه وسلم – وَقَصَّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – الْخَبَرَ . قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ وَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – وَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ يَقُولُ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لأَنَا كُنْتُ أَظْلَمَ ،فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – « هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُو لِي صَاحِبِي هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُو لِي صَاحِبِي ،إِنِّي قُلْتُ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا فَقُلْتُمْ كَذَبْتَ . وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ صَدَقْتَ » ، ومن المعلوم أن طبائع الناس وأخلاقهم تختلف اختلافاً كبيراً بيِّناً، فمنهم السهل ومنهم الحزن ، ومنهم المتواضع ومنهم المتكبر، ومنهم سريع الغضب قريب الرجوع إلى الحق، فهذه بهذه، ومنهم من يكون بطيء الغضب بطيء الفيئة فهذه بهذه. لكن مما لا شك فيه أن خيرهم بطيء الغضب سريع الفيئة، وشرهم سريع الغضب بطيء الفيئة، الذي لا يكاد يقر بخطأ، أو يعترف بذنب، فيبدي الأسف، أو يبادر بالاعتذار، فنفسه الأمارة بالسوء قد غلبته وقهرته فلم تدع له مجالاً لسرعة الرجوع إلى الحق.
أخي المسلم
اضبط عواطفك، وعد إلى الحق بسرعة، فحبل الخيرية بيدك أيها المؤمن، وما عليك إلا أن تضبط عواطفك فلا تغضب ولا تسيء، وإن لم تتمالك نفسك فلا يطل عليك الأمد، ويتراكم على قلبك الران، وإنما تفيء إلى دائرة الحق بسرعة، وترجع إلى جادة الصواب على عجل. ولم يخل مجتمع من المجتمعات من الخصومات والجدل، والنزاع مع خلق الله عز وجل، قد يكون مع أهله وزوجته وأبنائه، أو مع جيرانه، فعليه أن يلزم الحلم والصفح فإنهما صفتان عظيمتان، وقد امتدح الله عز وجل العافين عن الناس فقال تعالى : {الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134]، وقال تعالى:{وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى: 40]، ولنعلم أن الأعمال تعرض يوميّ الاثنين والخميس فيغفر لكل مؤمن إلا المتخاصمين فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الاِثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا إِلاَّ رَجُلاً كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ فَيُقَالُ أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا » (رواه مسلم). والمتوقع من المؤمن الصادق أنه يسرع في الرجوع والعفو والصفح، ويسابق إلى الصلح، أما من يلجُّ في الخصومة، ويغرق في التمادي ،فقد ثبت في الصحيحين عَنْ عَائِشَةَ – رضى الله عنها – عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ « إِنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ الأَلَدُّ الْخَصِمُ » وفسره الإمام النووي رحمه الله فقال: “(الألد) شديد الخصومة، مأخوذ من لديدي الوادي وهما جانباه، لأنه كلما احتج عليه بحجة أخذ في جانب آخر، (الخصم) الحاذق بالخصومة، والمذموم هو الخصومة بالباطل في رفع حق، أو إثبات باطل”. بل إن من صفات المنافق أنه: إذا خاصم فجر لحديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ « أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا ، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ » (البخاري ومسلم)، والفجور الميل عن الحق، والاحتيال في رده، وكم يكون عظيماً ذلك الذي يذل للمؤمنين، ويؤوب إلى الرشد، ويعجل إلى ربه، ويرجع ليرضى عنه . ولقد ضرب أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه مثلاً رفيعاً في سرعة الفيئة حين علم أن مسطح بن أثاثة الذي يأكل من نفقة أبي بكر كان قد شارك في اتهام ابنته السيدة عائشة رضي الله عنه بحديث الإفك، فأقسم أبو بكر ألا ينفق عليه، ففي صحيح البخاري 🙁 عَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – حِينَ قَالَ لَهَا أَهْلُ الإِفْكِ مَا قَالُوا ، فَبَرَّأَهَا اللَّهُ مِمَّا قَالُوا – كُلٌّ حَدَّثَنِي طَائِفَةً مِنَ الْحَدِيثِ – فَأَنْزَلَ اللَّهُ ( إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ ) الْعَشْرَ الآيَاتِ كُلَّهَا فِى بَرَاءَتِي . فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ – وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ – وَاللَّهِ لاَ أُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ شَيْئًا أَبَدًا ، بَعْدَ الَّذِى قَالَ لِعَائِشَةَ . فَأَنْزَلَ اللَّهُ : ( وَلاَ يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِى الْقُرْبَى ) الآيَةَ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ بَلَى وَاللَّهِ إِنِّي لأُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي . فَرَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ النَّفَقَةَ الَّتِي كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ وَقَالَ وَاللَّهِ لاَ أَنْزِعُهَا عَنْهُ أَبَدًا ).
فليس العيب الوقوع في الخطأ إذ “كل بني آدم خطّاء، وخير الخطاءين التوابون”، وإنما تكمن المصيبة في الإصرار على الخطأ، والتمادي في الباطل، مع أن أبواب الرحمة مُفتّحة تدعونا لسرعة التوبة ، فعَنْ أَبِى مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا » (مسلم)، وتستطيع أخي المسلم أن تتجاوز أي عقبة عندما تكون صريحاً مع نفسك، وتعترف بخطئك، وهذه بداية طريق التوبة والرجوع إلى الله، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب ، تاب الله عليه، ففي الصحيحين من حديث عائشة في الإفك ، قال صلى الله عليه وسلم ( فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ بِذَنْبٍ ثُمَّ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ » ، وإذا كان ربنا يدعونا إلى واسع رحمته، ويقابل ضعفنا وإساءتنا بإحسانه، فما الذي يؤخرنا عن إصلاح أنفسنا، وما الذي يحول بيننا وبين الرجعة السريعة، والتوبة النصوح؟ ،وقد جاء في الحديث القدسي كما في الصحيحين (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ – رضى الله عنه – قَالَ، قَالَ النَّبِّيُ – صلى الله عليه وسلم – « يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِى بِي ، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي ، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِى ، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ ،
وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَىَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَىَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا ، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِى أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً »
فإن الذي يحول دون التعجيل بالتوبة هو الوقوع في قيد الإصرار، ولقد بوب الإمام البخاري رحمه الله أحد أبواب كتاب الإيمان بقوله: “باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر، وما يُحذر من الإصرار على النفاق والعصيان من غير توبة لقول الله تعالى: {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 135]،قال الحافظ ابن حجر رحمه الله على هذا الباب: “وكأن المصنف لمّح بحديث عبد الله بن عمرو المخرج عند أحمد مرفوعاً عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِى عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ « ارْحَمُوا تُرْحَمُوا وَاغْفِرُوا يَغْفِرِ اللَّهُ لَكُمْ وَيْلٌ لأَقْمَاعِ الْقَوْلِ وَيْلٌ لِلْمُصِرِّينَ الَّذِينَ يُصِرُّونَ عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ». أي: يعلمون أن من تاب ،تاب الله عليه، ثم لا يستغفرون، قاله مجاهد وغيره”، فهل يختار المؤمن مصير الويل والهلاك، أم يقاوم هواه ،ويستعلي على نزوات الشيطان ، لينطلق من قيدها ساعياً إلى رحمة الله؟ فإذا أسأت فأحسن، وإذا أذنبت فاستغفر؛ لعل عملك يشهد لك بالسرعة في طاعة الله، وإذا أخطأت في حق أحد فبادر بالاعتذار، قبل فوات الأوان، وقبل أن تصل الروح إلى الحلقوم ، عند ذلك لا ينفع الندم قال الله تعالى: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ *وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ} [الواقعة: 83-85].
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( الرجوع إلى الحق فضيلة ) (أَلاَ وَخَيْرُهُمْ بَطِيءُ الْغَضَبِ سَرِيعُ الْفَيْءِ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
لماذا كان الرجوع إلى الحق من أخلاق الكبار؟ ،لأن الرجوع إلى الحق يعني الاعتراف بالخطأ ، وهذا قلما يقبله إنسان أو يعترف به. ولأن الرجوع إلى الحق يعني إكساب الآخرين رجاحة القول والرأي ، وقد يُلحق النقيصة بالعائد في قراره ، وهذا أيضاً لا يقدر عليه إلا الكبار. ولأن الرجوع إلى الحق قد يجعل الآخرين ينظرون إلى العائد في قراره على أنه ضعيف ، غير قادر على إدارة المركز الذي يشغله، وهذا أيضاً لا يقدر عليه إلا الكبار. ولأن الرجوع إلى الحق قد يُسهم في تقليل فرص الشخص في إلحاق مهام جديدة له في عمله ، وهذا ما لا يتحمله إلا الكبار. فالكبار لهم محطات في حياتهم يُراجعون فيها أنفسهم ويصححون فيها مسارهم ، حتى لا يسترسلون في خطأ وقعوا فيه ، أو هوى انساقوا إليه ، فإذا كان هناك ثمة خطأ أو هوى عالجوه قبل أن يستفحل. فهم ليسوا كالصنف من الناس الذين يُحددون لأنفسهم قناعات لا يحيدون عنها ، أو قرارات لا تقبل المراجعة والتصحيح ، فحينئذ لن يسلموا في قراراتهم من هوى مطغي ، أو خطأ مهلك. بل يوقنون بأن الإنسان بشر ، والبشر قد يجتهد ومهما كان اجتهاده للوصول إلى القرار الصحيح ، فإن احتمالات الخطأ واردة، ولابد من تداركها، ولن يكون هذا إلا بالاعتراف بالخطأ ابتداءً. وصغار النفوس لا يُفضلون استشارة من حولهم أو الاستئناس برأيهم حول قضية من القضايا ، خشية أن يُظهر ذلك عدم كفاءتهم أو عجزهم عن اتخاذ القرارات، أو لتكبر جبلت عليه نفوسهم. أما الكبار فيحرصون على الشورى ، ويلتمسون فيها الخير والبركة ، ولا مانع عندهم من العودة في آرائهم متى رأوا الصواب في غيرها. وفي قصة أبي بكر الصديق رضي الله عنه مع عمر بن الخطاب رضي الله عنهما حول قضية جمع القرآن خير دليل على ذلك ، فالكبار يسعون إلى الحق، واجتهادهم يكون للوصول إليه، فمتى لاح لهم الحق سارعوا إلى اتباعه وإن جاء على لسان غيرهم، فالخليفة أبو بكر كان متردداً في أن يُقدم على فعل شيء لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمر بن الخطاب يخشى على القرآن الضياع أو النسيان، وكان يرى فيه الخير، فظل أبو بكر يرفض، وعمر يكرر دعوته حتى وافق أبو بكر رضي الله عنهم أجمعين. رويَ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَانَ مِمَّنْ يَكْتُبُ الْوَحْيَ قَالَ :
أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ مَقْتَلَ أَهْلِ الْيَمَامَةِ وَعِنْدَهُ عُمَرُ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّ عُمَرَ أَتَانِي فَقَالَ إِنَّ الْقَتْلَ قَدْ اسْتَحَرَّ يَوْمَ الْيَمَامَةِ بِالنَّاسِ وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَسْتَحِرَّ الْقَتْلُ بِالْقُرَّاءِ فِي الْمَوَاطِنِ فَيَذْهَبَ كَثِيرٌ مِنْ الْقُرْآنِ إِلَّا أَنْ تَجْمَعُوهُ وَإِنِّي لَأَرَى أَنْ تَجْمَعَ الْقُرْآنَ ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ : قُلْتُ لِعُمَرَ كَيْفَ أَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ عُمَرُ : هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ ، فَلَمْ يَزَلْ عُمَرُ يُرَاجِعُنِي فِيهِ حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ لِذَلِكَ صَدْرِي وَرَأَيْتُ الَّذِي رَأَى عُمَرُ…” صحيح البخاري
أيها المسلمون
نعم إن الرجوع إلى الحق فضيلة، وقد كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما كما في سنن البيهقي (عَنْ إِدْرِيسَ الأَوْدِيِّ قَالَ : أَخْرَجَ إِلَيْنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِى بُرْدَةَ كِتَابًا فَقَالَ هَذَا كِتَابُ عُمَرَ إِلَى أَبِى مُوسَى رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَمَّا بَعْدُ لاَ يَمْنَعُكَ قَضَاءٌ قَضَيْتَهُ بِالأَمْسِ رَاجَعْتَ الْحَقَّ فَإِنَّ الْحَقَّ قَدِيمٌ لاَ يُبْطِلُ الْحَقَّ شَيْءٌ وَمُرَاجَعَةُ الْحَقِّ خَيْرٌ مِنَ التَّمَادِي فِي الْبَاطِلِ.) ،وقال مالك وهو يثنى على عمر بن الخطاب: ” ما كان بأعلمنا ولكنه كان أسرعنا رجوعاً إذا سمع الحق”. وقال عمر بن عبد العزيز كما في تاريخ دمشق:” ما من طينة أهون علي فكاً وما من كتاب أيسر علي رداً من كتاب قضيت به ثم أبصرت أن الحق بغيره فنسخته” . وقال الشافعي كما في توالي التأسيس:” كل مسألة تكلمت فيها وصح الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أهل النقل بخلاف ما قلت فأنا راجع عنها في حياتي وبعد موتي” . وقال ابن رجب في الفرق بين النصيحة والتعيير: ” كان أئمة السلف المجمع على علمهم وفضلهم يقبلون الحق ممن أورده عليهم وإن كان صغيراً ويوصون أصحابهم وأتباعهم بقبول الحق إذا ظهر في غيره قولهم ” وقال الإمام الآجري في أخلاق العلماء: “إن أفتى بمسألة فعلم أنه أخطأ لم يستنكف أن يرجع عنها ، وإن قال قولاً فرده عليه غير ممن هو أعلم أو مثله أو دونه فعلم أن القول كذلك رجع عن قوله وحمده على ذلك وجزاه خيراً ”
الدعاء