خطبة عن (الرحلة إلى الدار الآخرة)2 (الحساب والميزان)
ديسمبر 12, 2025الخطبة الأولى (الرحلة إلى الدار الآخرة)1 (البعث والحشر والشفاعة)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
قال تعالى: (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى) (55) طه،
وقال تعالى: (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ) (16) المؤمنون.
إخوة الإسلام
قال تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) آل عمران: 185، فالموت حقيقة لا شك فيها، والرحلة إلى الدار الآخرة تبدأ بالموت، وتنتهي إما إلى الجنة، وإما إلى النار؛ والعاقل من اتخذ له زادا إلى الدار الآخرة، ففي سنن الترمذي 🙁عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ»،
والمؤمن يسعى إلى أن يكون سعيدا في الدار الآخرة، وأن يدخل الجنة، وأن ينجو من عذاب النار، قال تعالى: (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) (185) آل عمران،
ولهذا سوف يكون لقاؤنا-إن شاء الله تعالى- عن الرحلة إلى الدار الآخرة، والهدف من ذلك: هو تجديد الإيمان بها، والاستعداد لها بالأعمال الصالحة.
ومن المعلوم أن الرحلة إلى الدار الآخرة تمر بمراحل متعددة، تبدأ: (بالاحتضار، ثم الموت، ثم القبر (وحياة البرزخ)- وحينما يأذن الله بفناء الكون، ينفخ الملك النفخة الأولى، فيصعق من في السموات والأرض، ثم تكون النفخة الثانية، فيخرج الناس من قبورهم، ويساقون إلى أرض المحشر، فتشتد هناك الأحوال، وتعظم الأهوال، ثم تتطاير الصحف فآخذ كتابه بيمينه، وآخذ كتابه بشماله، أو من وراء ظهره، ثم الحساب والميزان، والعرض على الملك الديان، والمرور على الصراط، ثم القنطرة، وتكون النهاية: (فريق في الجنة، وفريق في السعير)
وسوف يكون لقائي معكم عن أحداث هذه الرحلة الطويلة من خلال ما جاء في الكتاب والسنة المطهرة، بداية من (البعث والنشور)، لأن المراحل التي تسبق ذلك من (النفخ في الصور- وفناء العالم) فهذه المراحل لا يشهدها الكثير من الناس، فمن مات فقد قامت قيامته ،ولا يشعر الأموات بهذه الأحداث، وإنما يشهدها فئة من الأحياء من الكافرين، لأن الساعة لا تقوم إلا على أشرار الخلق.
أما عن (البعث والنشور)، فقد قال تعالى: (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى) (55) طه، وقال تعالى: (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ) (16) المؤمنون
وفي الصحيحين: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – «ثُمَّ يُنْزِلُ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً. فَيَنْبُتُونَ كَمَا يَنْبُتُ الْبَقْلُ لَيْسَ مِنَ الإِنْسَانِ شَيْءٌ إِلاَّ يَبْلَى إِلاَّ عَظْمًا وَاحِدًا وَهْوَ عَجْبُ الذَّنَبِ، وَمِنْهُ يُرَكَّبُ الْخَلْقُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»،
وعند النفخة الثانية: تتزاوج الأرواح مع الأجساد، وتعود الحياة إليها مرة أخرى، فتتشقَّق الأرض، ويخرج الأموات من قبورهم أحياء؛ فتسوقهم الملائكة إلى أرض المحشر، للحساب، وليقفوا بين يدي الله تعالى ليقضي بينهم،
أما كيف يكون حال الناس حين البعث من القبور؟، ففي الصحيحين: (أَنَّ عَائِشَةَ – رضي الله عنها قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «تُحْشَرُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً» قَالَتْ عَائِشَةُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ. فَقَالَ «الأَمْرُ أَشَدُّ مِنْ أَنْ يُهِمَّهُمْ ذَاكِ»، وفي رواية (قَالَتْ عَائِشَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَكَيْفَ بِالْعَوْرَاتِ قَالَ « (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ)»، وفي الصحيحين: (أن النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – يَقُولُ «يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى أَرْضٍ بَيْضَاءَ عَفْرَاءَ كَقُرْصَةِ النَّقِيِّ لَيْسَ فِيهَا عَلَمٌ لأَحَدٍ». وفي سنن الترمذي: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلاَثَةَ أَصْنَافٍ صِنْفًا مُشَاةً وَصِنْفًا رُكْبَانًا وَصِنْفًا عَلَى وُجُوهِهِمْ». قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ يَمْشُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ قَالَ «إِنَّ الَّذِي أَمْشَاهُمْ عَلَى أَقْدَامِهِمْ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُمْشِيَهُمْ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَمَا إِنَّهُمْ يَتَّقُونَ بِوُجُوهِهِمْ كُلَّ حَدَبٍ وَشَوْكٍ».
وهناك يجتمع الخلق جميعهم إنسهم وجنهم في أرض المحشر، تحيط بهم الملائكة من كل ناحية، ويصف لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حال الناس يومئذ، كما في الصحيحين: (يُجْمَعُ النَّاسُ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ ، يُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي، وَيَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ، وَتَدْنُو الشَّمْسُ، فَيَبْلُغُ النَّاسَ مِنَ الْغَمِّ وَالْكَرْبِ مَا لاَ يُطِيقُونَ وَلاَ يَحْتَمِلُونَ فَيَقُولُ النَّاسُ أَلاَ تَرَوْنَ مَا قَدْ بَلَغَكُمْ أَلاَ تَنْظُرُونَ مَنْ يَشْفَعُ لَكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضٍ عَلَيْكُمْ بِآدَمَ فَيَأْتُونَ آدَمَ عليه السلام فَيَقُولُونَ لَهُ أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ. وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ، وَأَمَرَ الْمَلاَئِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلاَ تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ أَلاَ تَرَى إِلَى مَا قَدْ بَلَغَنَا فَيَقُولُ آدَمُ إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ ، وَإِنَّهُ نَهَانِى عَنِ الشَّجَرَةِ فَعَصَيْتُهُ ،نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى نُوحٍ،
(فَيَأْتُونَ نُوحًا فَيَقُولُونَ يَا نُوحُ إِنَّكَ أَنْتَ أَوَّلُ الرُّسُلِ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ، وَقَدْ سَمَّاكَ اللَّهُ عَبْدًا شَكُورًا اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلاَ تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ فَيَقُولُ إِنَّ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإِنَّهُ قَدْ كَانَتْ لِي دَعْوَةٌ دَعَوْتُهَا عَلَى قَوْمِي نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى إِبْرَاهِيمَ ،فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ، فَيَقُولُونَ يَا إِبْرَاهِيمُ، أَنْتَ نَبِيُّ اللَّهِ وَخَلِيلُهُ مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ أَلاَ تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ فَيَقُولُ لَهُمْ إِنَّ رَبِّى قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإِنِّي قَدْ كُنْتُ كَذَبْتُ ثَلاَثَ كَذَبَاتٍ -فَذَكَرَهُنَّ- نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي اذْهَبُوا إِلَى مُوسَى ،فَيَأْتُونَ مُوسَى، فَيَقُولُونَ يَا مُوسَى أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ، فَضَّلَكَ اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ وَبِكَلاَمِهِ عَلَى النَّاسِ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ .. فَيَقُولُ ..إِنِّي قَدْ قَتَلْتُ نَفْسًا لَمْ أُومَرْ بِقَتْلِهَا،.. اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى عِيسَى ، فَيَأْتُونَ عِيسَى فَيَقُولُونَ يَا عِيسَى أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَكَلَّمْتَ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا اشْفَعْ لَنَا .. فَيَقُولُ عِيسَى.. اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِى اذْهَبُوا إِلَى مُحَمَّدٍ – صلى الله عليه وسلم – فَيَأْتُونَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم فَيَقُولُونَ يَا مُحَمَّدُ أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ وَخَاتَمُ الأَنْبِيَاءِ، وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ أَلاَ تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ فَأَنْطَلِقُ فَآتِى تَحْتَ الْعَرْشِ، فَأَقَعُ سَاجِدًا لِرَبِّي عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَىَّ مِنْ مَحَامِدِهِ وَحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ شَيْئًا لَمْ يَفْتَحْهُ عَلَى أَحَدٍ قَبْلِي ثُمَّ يُقَالُ يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ، سَلْ تُعْطَهْ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ)، فيستجيب الله تعالى لشفاعة رسوله، ويبدأ الحساب،
وهذه هي الشفاعة العظمى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو المقام المحمود الذي أعطيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا) {الإسراء:79}. وفي صحيح البخاري: (أن ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما يَقُولُ: (إِنَّ النَّاسَ يَصِيرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جُثًا، كُلُّ أُمَّةٍ تَتْبَعُ نَبِيَّهَا، يَقُولُونَ يَا فُلاَنُ اشْفَعْ، حَتَّى تَنْتَهِيَ الشَّفَاعَةُ إِلَى النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – فَذَلِكَ يَوْمَ يَبْعَثُهُ اللَّهُ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ)،
ويوم القيامة يوم طويل، قال تعالى: (فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) (4) المعارج، وفي صحيح مسلم: يقول صلى الله عليه وسلم: (حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَ عِبَادِهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ثُمَّ يُرَى سَبِيلَهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ)،
وهذا اليوم يكون سهلا يسيرا قصيرا على المؤمنين، ففي صحيح الجامع للألباني: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يومُ القيامَةِ على المؤمنينَ كقدْرِ ما بينَ الظٌّهرِ والعصرِ»، وفي مسند أحمد: (قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَوْماً كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ مَا أَطْوَلَ هَذَا الْيَوْمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُ لَيُخَفَّفُ عَلَى الْمُؤْمِنِ حَتَّى يَكُونَ أَخَفَّ عَلَيْهِ مِنْ صَلاَةٍ مَكْتُوبَةٍ يُصَلِّيهَا فِي الدُّنْيَا».
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (الرحلة إلى الدار الآخرة)1
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
والناس في أرض المحشر ليسوا متساويين، فكل على حسب عمله، ففي صحيح مسلم: (أن رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- .. قَالَ «فَيَكُونُ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ فِي الْعَرَقِ فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى كَعْبَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى حَقْوَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ الْعَرَقُ إِلْجَامًا». وهناك أصناف من المؤمنين لا يحزنون، فقد استظلوا بظل عرش الرحمن ففي الصحيحين: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ الإِمَامُ الْعَادِلُ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ وَرَجُلاَنِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ. وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ أَخْفَى حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ»، وفي مسند أحمد: (أن رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «كُلُّ امْرِئٍ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ حَتَّى يُفْصَلَ بَيْنَ النَّاسِ». ويوم القيامة يختلف في طوله وقصره حسب أعمال العبد،
وبعد أن يستجيب الله لشفاعة رسولنا صلى الله عليه وسلم ويبدأ الحساب، يستلم كل عبد كتاب أعماله في الدنيا، قال تعالى: (كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ)(28)، (29) الجاثية، وقال تعالى: (اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ﴾ [الإسراء:13،14]، وفي سنن الترمذي: (فَعِنْدَ ذَلِكَ تَطِيرُ الصُّحُفُ فِي الأَيْدِي فَآخِذٌ بِيَمِينِهِ وَآخِذٌ بِشِمَالِهِ». إنه مشهد من المشاهد المرعبة؛ وهو تطاير الصحف، ونشر الدواوين؛ كما قال تعالى: ﴿وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ﴾ [التكوير:10]،
وهو مشهد يتخلَّى فيه القريب عن قريبه، والحبيب عن حبيبه؛ ففي سنن ابي داود: (عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّهَا ذَكَرَتِ النَّارَ فَبَكَتْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: «مَا يُبْكِيكِ». قَالَتْ: ذَكَرْتُ النَّارَ فَبَكَيْتُ فَهَلْ تَذْكُرُونَ أَهْلِيكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: «أَمَّا فِي ثَلاَثَةِ مَوَاطِنَ فَلاَ يَذْكُرُ أَحَدٌ أَحَدًا: عِنْدَ الْمِيزَانِ حَتَّى يَعْلَمَ أَيَخِفُّ مِيزَانُهُ أَوْ يَثْقُلُ وَعِنْدَ الْكِتَابِ حِينَ يُقَالُ (هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ) حَتَّى يَعْلَمَ أَيْنَ يَقَعُ كِتَابُهُ أَفِي يَمِينِهِ أَمْ فِي شِمَالِهِ أَمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ وَعِنْدَ الصِّرَاطِ إِذَا وُضِعَ بَيْنَ ظَهْرَيْ جَهَنَّمَ»
فما من عبدٍ إلا وله صحائفُ قد دُوِّنت فيها جميع أعماله؛ قال الله تعالى: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا﴾ [آل عمران:30]، وقال تعالى: ﴿يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ﴾ [القيامة:13]، وقال تعالى: ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ﴾ [يس:12]. فكتاب الأعمال لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها، فقد سجِّلت فيه الملائكة جميع أعمال العباد؛ صغيرِها وكبيرِها، قال الله تعالى: ﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ [الكهف:49]،
أما عن قراءة الكتاب: قال تعالى: (اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ﴾ [الإسراء:14]، وقال الله تعالى: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَالَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ) الحاقة/19-33.
وأقسام الدواوين ثلاثة: قسم لا يغفره الله وهو الشرك بالله تعالى. قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء:48]. وقسم لا يبالي الله به، فإن شاء غَفَرَ، وإن شاء عذَّب. وهو الذنب الذي بينك وبين ربك، وقسم لا يترك الله منه شيئًا، وهو المتعلِّق بحقوق الآخرين.
وبعد قراءة الكتاب يبدأ الحساب، وذلك ما نستكمله في اللقاء القادم -إن شاء الله تعالى-.
الدعاء
