خطبة عن (الروح والجسد) مختصرة
أبريل 16, 2024خطبة عن (اللَّهُ يُحِبُّ الْحَيَاءَ وَالسَّتْرَ)
أبريل 17, 2024الخطبة الأولى (الرياء والمراؤون)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
روى البخاري في صحيحه: (عَنْ سَلَمَةَ قَالَ سَمِعْتُ جُنْدَبًا يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – «مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ يُرَائِي يُرَائِي اللَّهُ بِهِ»، وفي مسند أحمد: (عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ الشِّرْكُ الأَصْغَرُ». قَالُوا وَمَا الشِّرْكُ الأَصْغَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ «الرِّيَاءُ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا جُزِيَ النَّاسُ بِأَعْمَالِهِمْ اذْهَبُوا إِلَى الَّذِينَ كُنْتُمْ تُرَاءُونَ فِي الدُّنْيَا فَانْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ عِنْدَهُمْ جَزَاءً».
إخوة الإسلام
الرياء: هو أن يُظهِر الإنسانُ من نفسه خلافَ ما هو عليه، ليراه الناس، وقال الغزالي: هو “طلب المنزِلة في قلوب الناس، بإيرائِهم خِصالَ الخير، فهو إرادةُ العباد بطاعة الله”، وقال الحسن البصري :”أصْل الرِّياء حبُّ المحْمدَة”، ورُوي أنَّ لقمان قال لابنه: “الرياء: أنْ تطلبَ ثواب عملك في دار الدنيا، وإنَّما عمل القوم للآخِرة”، ومن صوره: (إظهارُ العبادة؛ لقصْد رؤية الناس لها، فيحمدوا صاحبَها)، فالمُرائي في الحقيقة: جعَل العبادات مطيةً لتحصيل أغراض نفسِه الدنيئة، واستعمل العبادةَ فيما لَم تُشرَع لأجْله، وهو تلاعُب بالشريعة ،واستهانة بمَقام الألوهية، ووضْع للأمور في غيْر مواضعها، وقد توعَّد الله صنفًا مِن الناس يُراؤون في صلاتهم بالويل والهلاك، فقال تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ* الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ﴾ [الماعون:4 -7]. وفي سنن ابن ماجه: (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَنَحْنُ نَتَذَاكَرُ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ فَقَالَ «أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِمَا هُوَ أَخْوَفُ عَلَيْكُمْ عِنْدِي مِنَ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ». قَالَ قُلْنَا بَلَى. فَقَالَ «الشِّرْكُ الْخَفِيُّ أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ يُصَلِّي فَيُزَيِّنُ صَلاَتَهُ لِمَا يَرَى مِنْ نَظَرِ رَجُلٍ». فالرياء: مِن أعظمِ الآفات والأمراض خطرًا، وأعمِّها وقوعًا وانتشارًا، وأخوف عقبة ينبغي إزالتُها،
واعلموا أن الرِّياء شِرْك: فالشِّرْك نوعان: أحدهما أكبر: وهو أن تجعلَ لله تعالى – نِدًّا في عبادته وحُكمه وشَرْعه، وهذا هو الشِّرْك الذي قال الله فيه: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا﴾ [النساء:48]. والنوع الثاني منَ الشِّرك: هو الشرك الأصغر: وهو الرِّياء بالأعمال؛ قال الله تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف:110]؛ أي: لا يُرائي بعمله أحدًا ،وقال تعالى: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا﴾ [الفرقان:23]؛ أي: الأعمال التي قُصِد بها غير الله تعالى بطَل ثوابُها، وفي صحيح مسلم: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلاً أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ». وفي صحيح الأدب للبخاري، ومسند أحمد: (قَالَ أَبُو مُوسَى الأَشْعَرِيُّ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ «أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا هَذَا الشِّرْكَ فَإِنَّهُ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ». فَقَالَ لَهُ مَنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ وَكَيْفَ نَتَّقِيهِ وَهُوَ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ «قُولُوا اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ نُشْرِكَ بِكَ شَيْئاً نَعْلَمُهُ وَنَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لاَ نَعْلَمُ». وقال الفُضَيل بن عِياض: “ترْك العمل لأجْلِ الناس رِياء، والعمل لأجْل الناس شرْك، والإخلاص أن يعافيَك الله منهما”،
أيها المسلمون
فالرِّياء ممقوتٌ عند الله وعندَ أصحاب الفِطر السليمة، لا سيَّما عندما تتضِح معالِمه وحقيقته ،وينكشف زَيفُه؛ وسأل رجلٌ سعيدَ بن المسيّب، فقال: “إنَّ أحدَنا يصطنع المعروفَ يحب أن يُحمَد ويؤجَر، فقال له: أتحبُّ أن تُمقت؟ قال: لا، قال: فإذا عملتَ لله عملاً فأخْلِصْه”، والرِّياء مُحبِط للأعمال الصالحة: فلَمَّا سُئِل الإمام الشافعي عن الرِّياء، قال: “الرياء: فِتنةٌ عقدَها الهوى حيالَ أبصار قلوب العلماء، فنظروا إليها بسوء اختيار النُّفوس، فأحبطتْ أعمالهم” ولذا كان المراؤون أول من تسعر بهم النار يوم القيامة: ففي صحيح مسلم: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا قَالَ قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ. قَالَ كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لأَنْ يُقَالَ جَرِيءٌ. فَقَدْ قِيلَ. ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا قَالَ تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ. قَالَ كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ. وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارِئٌ. فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ. وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ فَأُتِىَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا قَالَ مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلاَّ أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ قَالَ كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ هُوَ جَوَادٌ. فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ». وفي سنن النسائي: (عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ أَرَأَيْتَ رَجُلاً غَزَا يَلْتَمِسُ الأَجْرَ وَالذِّكْرَ مَا لَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «لاَ شَيْءَ لَهُ». فَأَعَادَهَا ثَلاَثَ مَرَّاتٍ يَقُولُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «لاَ شَيْءَ لَهُ». ثُمَّ قَالَ «إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبَلُ مِنَ الْعَمَلِ إِلاَّ مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ»… هذا وقد توعَّد الله تعالى الذين يُراؤون بأعمالهم، ولم يُخلِصوا له بالوعيدَ الشديدَ، ففي سنن أبي داود وابن ماجه: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَي بِهِ وَجْهُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لاَ يَتَعَلَّمُهُ إِلاَّ لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ». يَعْنِي رِيحَهَا). كما ورَدَ الوعيدُ على العمل لغيرِ الله عمومًا، وفي مسند أحمد: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «بَشِّرْ هَذِهِ الأُمَّةَ بِالسَّنَاءِ وَالرِّفْعَةِ وَالنَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ فِي الأَرْضِ فَمَنْ عَمِلَ مِنْهُمْ عَمَلَ الآخِرَةِ لِلدُّنْيَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الآخِرَةِ نَصِيبٌ»
أيها المسلمون
ولكي يتضح شأن هذا المرض، أسوق نماذج للرياء والمرائين: فقد يكون الرياء مِن جهة البدن، بإظْهار النُّحول والصَّفار؛ ليريَهم بذلك شدَّة الاجتهاد، وغلَبة خوف الآخرة. وكذلك يُرائي بتشعُّث الشَّعْر؛ ليظهرَ أنه مستغرقٌ في همِّ الدِّين، لا يتفرَّغ لتسريح شعره، ويقرُب مِن هذا خفْض الصوت، وإغارة العينين، وذبول الشفتَين؛ ليدلَّ بذلك على أنَّه مواظبٌ على الصَّوم.. وأمَّا أهلُ الدنيا، فيراؤون بإظهار السمن، وصفاء اللون، واعتدال القامة، وحسن الوجه، ونظافة البدن.
أما النموذج الثاني: فالرِّياء من جهة الزِّيِّ، كالإطراق حالةَ المشي، وإبقاء أثَر السجود على الوجه، وغِلظ الثياب، ولُبْس الصُّوف، وتشمير الثِّياب كثيرًا، وتقصير الأكمام، وترْك الثوب مخرقًا غير نظيف، ومن ذلك لبس الثِّياب المرقَّعة، ومنه التقنُّع فوقَ العمامة؛ لتنصرفَ إليه الأعين بالتمييز بتلك العادة. وأمَّا أهل الدنيا، فمراءاتهم بالثِّياب النفيسة، والمراكِب الحسَنة، وأنواع التجميلِ في الملبس، والمسْكن وأثاث البيت، وهم في بيوتهم يلبسون الثيابَ الخَشِنة، ويشتدُّ عليهم أن يُروا بتلك المنزِلة.
النموذج الثالث: الرِّياء بالقول، فرِياء أهل الدِّين بالوعْظ والتذكير، وحِفْظ الأخبار والآثار؛ لأجْل المحاورة، وإظهار غزارةِ العِلم، والدلالة على شدَّة العناية بأحوال السَّلف، وتحريك الشَّفتين بالذِّكْر في محضر الناس، وإظهار الغَضَب للمنكرات بيْن الناس، وخفْض الصوت وترقيقه بقراءة القرآن؛ ليدلَّ بذلك على الخوف والحزن، ونحو ذلك، وأمَّا أهل الدنيا فيكون بالكلام المرْموق والتزلُّف للآخَرين، والمجاملة على حساب الدِّين في الأماكن العامَّة والحفلات؛ لاستمالة قلوب الآخَرين، وحِفْظ الأشعار الأمثال، والتفاصُح في العبارات، وفي مسند أحمد: (عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «إِنَّ أَحَبَّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبَكُمْ مِنِّي فِي الآخِرَةِ مَحَاسِنُكُمْ أَخْلاَقاً وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَيَّ وأَبْعَدَكُمْ مِنِّي فِي الآخِرَةِ مَسَاوِيكُمْ أَخْلاَقاً الثَّرْثَارُونَ الْمُتَفَيْهِقُونَ الْمُتَشَدِّقُونَ»، والمتشدِّقون: المتوسِّعون في الكلام من غيْر تحفُّظ .
النموذج الرابع: الرِّياء بالعمل: كمُراءاة المصلِّي بطول القِيام، وتطويل الرُّكوع والسُّجود، وإظْهار الخشوع، وكذلك بالصَّوْم والغزو، والحج والصدقة، ونحو ذلك. وأمَّا أهل الدنيا فمراءاتهم بالتبختُر والاختيال، وتحريك اليَدَيْن، وتقريب الخُطى، والأخْذ بأطرافِ الذَّيْل، وإمالةِ العِطفين؛ ليدلُّوا بذلك على الحِشْمة، النموذج الخامس: المراءاة بالأصْحاب والزائرين، كالذي يتكلَّف أن يَستزيرَ عالِمًا أو عابدًا؛ ليقال: إنَّ فلانًا قد زار فلانًا، وإنَّ أهل الدِّين يتردَّدون إليه، ويتبرَّكون به.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (الرياء والمراؤون)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
أما عن أسباب الرياء: فالرِّياء تتعدَّد بواعثُه، وتختلِف أسبابُه مِن إنسانٍ لآخر، فأسبابه كثيرةٌ، ومنها: الجهل: فالجهلُ بحقيقةِ الرياء ومآلاته، وبالإخْلاص ومآلاته، سببٌ للتلبس بالرِّياء؛ إذ هو سببٌ رئيس لكلِّ مرَض، وداء عُضال للبشرية جمعاء في جميع مناحِي الحياة، وسبب للشقاء، وما أُتيت الأمَّة وتجرَّعت الذلَّ والهوان إلاَّ بسبب الجهْل، سواء بمصالِحها الدنيويَّة أو الأُخروية.
السبب الثاني: حب الجاه: وهو ارْتفاع المنزِلة في قلوب الناس، ومَن غلَب على قلْبه حبُّ الجاه، صار مقصورَ الهمِّ على مراعاة الناس، مشغوفًا بالتردُّد عليهم والمراءاة لهم، وهذا بذْرُ النِّفاق وأصل الفساد؛ لأنَّ مَن طلب المنزِلة في قلوب العباد اضطر أن ينافقَهم؛ حتى يستميلَ قلوبهم.
السبب الثالث: الطمع: فما مِن شيءٍ أفسد لدِين المرء من الطَّمَع في شهوات الدنيا، مِن مال، أو منصب أو جاه. ومَن كان ذا طمع مسيطر على قلْبه، فإنَّ الذل قرينه؛ لأنَّه يبذل عِرْضه في سبيل تحقيق ما هوتْه نفسه، وطمع فيه قلْبُه،
السبب الرابع: الفرار مِن ألَم الذم: يكون الفِرار مِن ذمِّ البخل، أو ذمِّ الجبن وعدم الشجاعة، أو ذمِّ الجهْل وغير ذلك. وفي سنن الترمذي: (كَتَبَتْ عَائِشَةُ رضى الله عنها إِلَى مُعَاوِيَةَ سَلاَمٌ عَلَيْكَ أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ «مَنِ الْتَمَسَ رِضَاءَ اللَّهِ بِسَخَطِ النَّاسِ كَفَاهُ اللَّهُ مُؤْنَةَ النَّاسِ وَمَنِ الْتَمَسَ رِضَاءَ النَّاسِ بِسَخَطِ اللَّهِ وَكَلَهُ اللَّهُ إِلَى النَّاسِ».
السبب الخامس: لذَّة الحمد والثناء: إنَّ لذَّة الحمْد والثناء هي فرارٌ مِن ألَم الذم والخوف منه، وهو شعورٌ بالكمال وعدم النقص، مع أنَّ المخلِص لا يعمل إلا لله تعالى، ولا يلتفت إلى مدْح الناس أو ذمِّهم له؛ إذ لا كمالَ بمدحهم ولا نقْص بذمهم،
أيها المسلمون
أما عن علاج الرياء: فاعلمْ أنَّ علاج القلْب مِن جميع أمراضه يكون: بالاتِّصال بالله – جل جلاله -والاتِّصال بالخالِق يقطع كلَّ الاتصالات بالخلْق، والاستغناء عن العباد؛ فمَن كفاه الخالق فلا يحتاج إلى غيرِه، ولا يكون هذا إلا إذا تَعلَّق القلْب بالله – جل جلاله – وأيقن أنَّه هو الغني والناس كلهم مفتقِرون إلى الله؛ ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ﴾ [فاطر: 15].
وعلاج القلب من الرياء يكون: بالمجاهدة الدائمة للنفس: فالله تعالى امتحن العبدَ بنفسه وهواه، وأوْجب عليه جهادَهما في الله، فهو في كلِّ وقت في مجاهدةِ نفسه، حتى يأتيَ بالشُّكر المأمور به، ويصبرَ عن الهوى المنهيِّ عن طاعته، فلا ينفكُّ العبد عنهما غنيًّا كان أو فقيرًا، معافًى أو مبتلًى. قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [العنكبوت:69].
وعلاج القلب من الرياء يكون: بالحِرْص على كِتْمان العمل وإخفائه: جاء في صحيح مسلم: (أن رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِىَّ الْغَنِىَّ الْخَفِىَّ ». فأحبَّ العبيد إلى الله الأتْقياءُ الأسخياء الأخفياء، الذين إذا غابوا لم يُفْتَقدوا، وإذا شَهِدوا لم يُعرَفوا، أولئك أئمَّة الهُدَى، ومصابيح الدُّجَى، قال الفُضَيل بن عِياض: “خيرُ العمل أخْفاه، أمْنَعُه من الشيطان، وأبعدُه من الرِّياء”. وسُئل بعضُ الحُكماء: مَن المخلص؟ فقال: “المخلِص الذي يَكْتُم حسناتِه كما يكتم سيئاتِه”
وعلاج القلب من الرياء يكون: بالتفكُّر في شناعة الرياء وقبحه: وذلك مِن خلال معرفة أحْكامه؛ إذ حُكِم عليه بالشِّرك، وأنَّه مِن أشدِّ المحرَّمات وكبائر الذنوب على الإطلاق،
وعلاج القلب من الرياء يكون: بالنظر في عواقبه: أمَّا في الدنيا فإنَّ الله يَفْضَح صاحبه، ويكشِف سوءَ سريرته بيْن الخلائق في الدنيا قبلَ الآخرة، وروى البخاري في صحيحه: (عَنْ سَلَمَةَ قَالَ سَمِعْتُ جُنْدَبًا يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – «مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ يُرَائِي يُرَائِي اللَّهُ بِهِ»،
وعلاج القلب من الرياء يكون: بالابتعاد عن مواطِنه ومواقِعه: فقد كان السلف – رحمهم الله تعالى – يبتعدون عن مواطِنِ الشُّهرة، والتي تكون مدعاةً للرِّياء والسُّمعة، من الرِّياسة والقضاء، ونحو ذلك.
الدعاء