خطبة عن (الطَّعْنُ فِي الدِّينِ)
نوفمبر 10, 2025الخطبة الأولى (الرَّجَاءُ بِغَيْرِ عَمَلٍ غُرُورٌ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) (110) الكهف. وفي سنن الترمذي: (عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ».
إخوة الإسلام
أُثر عن الحسن البصري أنه قال: (ليس الإيمان بالتمنِّي، ولكن ما وقَر في القلب وصدّقه العمل، وإن قومًا خرجوا من الدُّنيا ولا عمل لهم، وقالوا: نحن نحسن الظَّنَّ بالله وكَذَبُوا، لو أحسنوا الظَّنّ لأحسنوا العمل).
فطريقة الأنبياء وأتباعهم هي: أن يقترن الخوف بالرجاء، كما قال تعالى في صفتهم: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا) {الأنبياء:90}. وقال تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا) {الإسراء:57}.
فإذا اجتهد العبد في إصلاح عمله، وأقبل على ربه خائفا راجيا، فهو على خير عظيم، ويُرجى له حصول ما يرجوه، والأمن مما يخافه، فالإيمان الذي يكرّم الله به المؤمن، ويُنجيه من النار، ليس مجرّدَ كلمة يقولها بلسانه دون عمل، وليس أمنية يتمنّاها، فما أهون الكلام المجرّد عن عمل يصدقه، وما أكثر الأمانيَ عند المُفلسين من كنز العمل الصالح، وهذا هو المعني بقوله صلى الله عليه وسلم: «الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ ». فلو أحسن هؤلاء الظَّنّ بالله، لاستعدوا للقائه بالعمل الصالح، فهو القائل: (وقُلِ اعْملُوا فسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ ورَسُولُهُ والمُؤمنونَ وستُردُّونَ إلى عالِم الغَيْبِ والشّهادةِ فيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعملونَ) (التوبة:105)،
أيُّهَا الْمُسْلِمُونَ
فمِنْ أَعْظَمِ مَا يَبْعَثُ عَلَى الْعَمَلِ، وَيُحَرِّكُ الْقُلُوبَ إِلَى الطَّاعَةِ، حُسْنَ الظَّنِّ بِاللَّهِ جَلَّ وَعَلَا، فَهُوَ مَفْتَاحُ الرَّجَاءِ، وَبَذْرَةُ الأَمَلِ، وَسَبِيلُ السَّالِكِينَ إِلَى رِضْوَانِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللَّهِ» رواه مسلم.
وَلَكِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ فَهِمَ الرَّجَاءَ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهِ، فَغَلِطَ فِي مَعْنَاهُ، وَظَنَّ أَنَّ الرَّجَاءَ يَكْفِي دُونَ عَمَلٍ، وَأَنَّ مَغْفِرَةَ اللَّهِ تَنَالُهُ وَإِنْ أَقَامَ عَلَى الْمَعَاصِي، وَتَسَاهَلَ فِي الطَّاعَةِ، فهؤلاء أقوام غَرَّتهُمُ الْمَغْفِرَةُ، فَقَالُوا: نُحْسِنُ الظَّنَّ بِرَبِّنَا، وَكَذَبُوا، لَوْ أَحْسَنُوا الظَّنَّ لَأَحْسَنُوا الْعَمَلَ، فالرَّجَاء الصَّادِق هُوَ الَّذِي يَدْفَعُ الْمُؤْمِنَ إِلَى الْعَمَلِ، وَيَحْمِلُهُ عَلَى الْجِدِّ فِي الطَّاعَةِ، وَيَزْجُرُهُ عَنِ الْمَعَاصِي، كَمَا يَحْمِلُ الْمَرِيضَ عَلَى تَنَاوُلِ الدَّوَاءِ رَجَاءَ الشِّفَاءِ، فَلَوْ قَالَ الْمَرِيضُ: أَنَا أَرْجُو الشِّفَاءَ وَلَمْ يَتَدَاوَ، لَعُدَّ مَجْنُونًا، وَكَذَلِكَ مَنْ رَجَا الْجَنَّةَ، وَلَمْ يَعْمَلْ لَهَا، فَإِنَّهُ مُغْتَرٌّ غَافِلٌ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ﴾ [البقرة:218]، فَقَدْ رَبَطَ اللَّهُ الرَّجَاءَ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ وَالْجِهَادِ، فَلَا رَجَاءَ لِمُقَصِّرٍ فِي طَاعَةٍ، أَوْ مُصِرٍّ عَلَى مَعْصِيَةٍ.
فكَمْ مِنْ نَاسٍ يَقُولُونَ: نَحْنُ نَرْجُو رَحْمَةَ اللَّهِ، وَهُمْ يُضَيِّعُونَ الصَّلَاةَ، وَيَأْكُلُونَ الْحَرَامَ، وَيَغْشَوْنَ الْمُنْكَرَاتِ، وَيُقَصِّرُونَ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ، ثُمَّ يَقُولُونَ: نَحْنُ نَرْجُو، وَهَذَا لَيْسَ بِرَجَاءٍ، بَلْ هُوَ غُرُورٌ وَتَمَنٍّ كَاذِبٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ [النساء:123].
فالرَّجَاءُ الْمَحْمُودُ مَا اقْتَرَنَ بِالْخَوْفِ، فَالْمُؤْمِنُ يَعْمَلُ بَيْنَ خَوْفٍ وَرَجَاءٍ، يَخَافُ أَنْ يَرُدَّهُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِ، وَيَرْجُو أَنْ يَقْبَلَهُ بِرَحْمَتِهِ، وَهَكَذَا كَانَ الْأَنْبِيَاءُ وَالصَّالِحُونَ، قَالَ تَعَالَى: ﴿يَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾ [الأنبياء:90]. فَحُسْنُ الظَّنِّ يُولِّدُ النَّشَاطَ فِي الطَّاعَةِ، وَيَدْفَعُ إِلَى التَّوْبَةِ وَالْإِصْلَاحِ، وَيُعَلِّمُ الْمُؤْمِنَ أَنْ يَسْتَحِيَ مِنَ اللَّهِ أَنْ يَرْجُوَ رَحْمَتَهُ وَيُصِرَّ عَلَى مَعْصِيَتِهِ.
والْعَاقِلَ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، فَإِذَا ذَكَرَ ذُنُوبَهُ خَافَ، وَإِذَا ذَكَرَ رَحْمَةَ رَبِّهِ رَجَا، وَفِي ذَلِكَ تَتَزَكَّى النُّفُوسُ وَتَرْقَى الْقُلُوبُ، وَيَسِيرُ الْعَبْدُ فِي طَرِيقِ الْآخِرَةِ بَيْنَ جَنَاحَيْ خَوْفٍ وَرَجَاءٍ.
وكيف يكون محسن الظن بربه من هو شارد عنه، حال مرتحل في مساخطه وما يغضبه، متعرض للعنته، قد هان حقه وأمره عليه فأضاعه، وهان نهيه عليه فارتكبه وأصر عليه، وكيف يحسن الظن بربه من بارزه بالمعاصي.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ.
الخطبة الثانية (الرَّجَاءُ بِغَيْرِ عَمَلٍ غُرُورٌ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
مَنْ غَرَّهُ الرَّجَاءُ بِلَا عَمَلٍ، فَقَدْ غَرَّهُ الشَّيْطَانُ، وَنَفْسُهُ الْأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ، وَكَمْ مِنْ نَاسٍ تَسَوَّفُوا التَّوْبَةَ، وَأَجَّلُوا الْإِنَابَةَ، وَقَالُوا: سَنَتُوبُ غَدًا، فَسَبَقَهُمُ الْأَجَلُ، وَخَسِرُوا، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ﴾ [المؤمنون:99]. فالرَّجَاء الَّذِي لَا يُنْتِجُ طَاعَةً، وَعَمَلًا صَالِحًا، هُوَ سُوءُ ظَنٍّ بِاللَّهِ، لِأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّ اللَّهَ يُسَاوِي بَيْنَ الْمُطِيعِ وَالْعَاصِي، وَالْبَرِّ وَالْفَاجِرِ، وَهَذَا ظَنٌّ بَاطِلٌ، قَالَ تَعَالَى: ﴿أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ﴾ [ص:28].
وقال ابن القيم في (مدارج السالكين): (الرجاء ثلاثة أنواع: نوعان محمودان، ونوع غرور مذموم. فالأول: رجاء رجل عمل بطاعة الله، على نور من الله، فهو راج لثوابه. والثاني: رجل أذنب ذنوبا، ثم تاب منها، فهو راج لمغفرة الله تعالى، وعفوه وإحسانه، وجوده وحلمه وكرمه. والثالث: رجل متماد في التفريط والخطايا، يرجو رحمة الله بلا عمل، فهذا هو الغرور والتمني والرجاء الكاذب). فمن رجا ولدا بغير زواج اتهم في عقله، ومن رجا ثمرا بغير زرع وبذر قالوا مجنون، ومن جاع أو عطش فرجا الشبع بغير طعام، أو الري بغير شرب اتهموه على عقله. ولو أنك استأجرت أجيرًا ليؤدي لك عملاً، فأخذ يومه في اللهو واللعب أو النوم والخمول والكسل، ثم جاءك آخر النهار يطلب أجره فماذا ستصنع فيه؟!
يقول معروف الكرخي: (طلب الجنة بلا عمل ذنب من الذنوب، وانتظار الشفاعة بلا سبب نوع من الغرور، ورجاء رحمة من لا تطيعه جهل وحمق).
ويقول يحيى بن معاذ: (إن من أعظم الاغترار التمادي في الذنوب مع رجاء العفو من غير توبة، وتوقع القرب من الله بغير طاعة، وانتظار الجنة ببذر النار).
فالذي يرجو رحمة ربه لابد أن يبذل وسعه في طاعة الله، ثم يرجو رحمة أرحم الرحمين؛ وهذا الذي ذكره ربنا في كتابه فقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:218]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} [فاطر:29]، وقال تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} [طـه:82].
فَاسْتَحْيُوا مِنَ اللَّهِ، وَبَادِرُوا بِالطَّاعَةِ، وَأَكْثِرُوا مِنَ الِاسْتِغْفَارِ، وَاجْعَلُوا رَجَاءَكُمْ مَقْرُونًا بِعَمَلٍ صَالِحٍ يُرْضِي رَبَّكُمْ، وَاعْلَمُوا أَنَّ الرَّجَاءَ بِغَيْرِ عَمَلٍ غُرُورٌ، وَالْخَوْفَ بِغَيْرِ رَجَاءٍ قُنُوطٌ، وَالْمُؤْمِنُ بَيْنَ ذَيْنِكَ حَالٌ مِنَ الْوَسَطِ. فَاعْمَلُوا لِلْآخِرَةِ قَبْلَ أَنْ تُدْرِكَكُمُ الْمَنِيَّةُ، وَاجْعَلُوا حُسْنَ الظَّنِّ بِاللَّهِ سَبِيلًا إِلَى الْعَمَلِ، لَا مَطِيَّةً لِلتَّفْرِيطِ.
الدعاء
